الأربعاء 9 أكتوبر 2024
يفتتح جون ميكلثويت و أدريان وولدريدج كتابهما (الثورة الرابعة..سباق معولم لإعادة اختراع الدولة) بمقالة عن معهد صيني لإعداد النخبة البيروقراطية، المعهد اسمه CELAP وهو يجسّد اتجاه الدولة الصينية لتصميم رأسمالية بمضامين تعكس خصوصيتها، فالمعهد يقوم بتدريس فلسفة الرأسمالية في الغرب ولا يهتم بدراسة فلسفة الدولة في الغرب، أساتذة المعهد يتخذون من سنغافورة نموذجا للدولة الرائدة التي نجحت في مزاوجة اقتصاد سوق حر مع نمط حكم ديكتاتوري!
في عام 1900 لم يكن يوجد في العالم سوى بضعة دول تسمح لمواطنيها بانتخاب حكامها وممثليها، وفي عام 2000 أصبح هناك 120 دولة (ما يعادل 63% من دول العالم) تسمح لمواطنيها بانتخاب حكامها وممثليها، ومنذ ذلك الوقت لا يبدو أن الديمقراطية نجحت في تحقيق مكاسب جديدة، والحقائق على أرض الواقع تؤكد أنها دخلت – ظاهريا على الأقل – في طور التراجع، فمثلا الديمقراطيات الناشئة حديثا (دولة جنوب أفريقيا نموذجا) اختطفها الفساد الحكومي المتعاظم، والحريات أصبحت تتقلص تدريجيا في دول كتركيا وهنغاريا وروسيا.
هنا يبرز تساؤل وجيه وثيق الصلة بافتتاحية الكتاب عن الصين وهو: هل يجب على قادة دول العالم أن يعتمدوا قيم الديمقراطية لبناء اقتصاديات أوطانهم في الوقت الذي يتفوق فيه اقتصاد بلد غير ديمقراطي كالصين على جميع اقتصاديات الديمقراطيات الغربية المتعثرة؟ يؤكد مؤلفا الكتاب أن الناس في المجتمعات الغربية لا يعرفون صيغة لإدارة الدولة بنجاح سوى نموذج دولة الرفاه التي تسيدت المشهد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لكن هذا النموذج الليبرالي-الديمقراطي يتعرض لأكبر أزمة في تاريخه فهل من الممكن أن يتجاوز أزماته الحالية ويحقق نموا اقتصاديا دون أن يخل بمبدأ الرعاية الاجتماعية والحفاظ على الحريات الفردية؟
الثورات الأربع التي تحدث عنها الكتاب تبدأ أولها بفكرة العقد الاجتماعي لدى توماس هوبز وتنتهي آخرها بأفكار ميلتون فريدمان وسياسات ريغان وثاتشر، ارتبطت كل ثورة من هذه الثورات بفلسفة فكرية كانت بمثابة الحامل المعرفي والأيدولوجي لمقولاتها، الثورة الأولى بدأت في القرن السابع عشر مع فلسفة الدولة لدى توماس هوبز التي أودعها في كتابه (ليفاثيان)، طرح هوبز فكرة "العقد الاجتماعي" بين الحاكم والمحكوم، وحدد وظيفة الدولة طبقا لذلك العقد بتفعيل القانون وفرض النظام، وهو الأمر الذي رأى أنه يحفظ الدولة والمجتمع من خطر النزاعات والحروب الأهلية حيث يتنازل الفرد عن جزء من حريته وسلطته إلى الدولة مقابل ما تقدمه له من خدمات، الطابع الثوري في فلسفة العقد الاجتماعي لدى توماس هوبز أنه حوّل الملكيات إلى حكومات ذات سلطة مركزية قوية.
الثورة الثانية بدأت في القرن الثامن عشر واستمرت للقرن التاسع عشر مع فلسفة الحرية لدى جون ستيوارت ميل التي أودعها في كتابه (عن الحرية)، شدّد ميل على الفردانية كقيمة مطلقة في واقع تميز بانفجار الثورة الصناعية وازدهار السوق الحرة بالتوازي مع ترسخ نموذج للدولة ينزع للاعتراف بالكفاءة في تقلد وظائف الحكومة وليس المحسوبية، الثورة الثالثة بدأت في القرن العشرين مع أفكار بياتريس ويب التي تتمحور حول فكرة الرفاه وتركز على التخطيط وجدارة الفرد واكتساب المعرفة، قدمت ويب قراءة لليبرالية في إطار حقوق العاملين في السوق الحرة، مما ولّد نموا أكبر لدور الدولة في التخطيط وفرض مزيدا من القيود على حرية المؤسسات، ومع تعاظم حجم الدولة ارتفع معدل الضرائب ولعبت دورا متزايدا في الرعاية الاجتماعية، وبهذه الطريقة تحولت الهيئة البريطانية للخدمات الصحية وبرامج الضمان الاجتماعي الأمريكي إلى ما يشبه "الثروة الوطنية" التي لا تقدر خدماتها بثمن.
بدأت الثورة الرابعة مع أفكار ميلتون فريدمان بخصوص تقليص حجم الحكومة وتحرير التجارة وتخفيض الضرائب وإلغاء الخدمات العامة، في ثمانينات القرن المنصرم قام الرئيس ريغان في أمريكا والرئيسة ثاتشر في بريطانيا بوضع أفكار فريدمان موضع التنفيذ لكن جهودهما باءت بنوع من الفشل لكثرة العراقيل التي وضعتها أحزاب المعارضة أمام التشريعات المقترحة لمكافحة التضخم البيروقراطي للدولة، في هذا السياق يقترح مؤلفا الكتاب إصلاح العملية الديمقراطية عن طريق "فتح الانتخابات التمهيدية داخل الأحزاب أمام الاقتراع العام، بحيث يصبح التصويت هو المحدد الأول لاختيار مرشحي الأحزاب، وليس قصرها فقط على التوافقات الداخلية، إذ من شأن ذلك تقليل إمكانية صعود المرشحين المتطرفين، وإرغام قيادات الأحزاب على الجنوح إلى الوسط".
ثم استعرض المؤلفان بعض التجارب من خارج المجتمعات الغربية توضّح كيف يمكن تقديم خدمة اجتماعية للمواطن، ذات كفاءة وفعالية وتكلفتها منخفضة؛ البرازيل مثلا تُطبق برنامجا لإعانة للفقراء بشرط إتمام برامج التدريب أو إرسال أولادهم للمدارس، وبذلك تم الوفاء باحتياجات الطبقات الفقيرة وتنمية الموارد البشرية من خلال زيادة أعداد المتعلمين. الهند مثال آخر حيث تعاني الدولة من محدودية عدد الأطباء (6 أطباء لكل 10 آلاف مواطن) لذا استبدلت الدولة خطط تخريج الأطباء بخطط أقل تكلفة وأقصر زمنا يتم فيها تخريج ممرضين قادرين على تقديم الخدمات الطبية الأساسية وتشخيص المرضى وتقديم العلاج عوضا عن الذهاب للأطباء.
ختاما يشير المؤلفان إلى أهمية إصلاح الدولة، وتتمثل الخطوة الأولى في ضرورة توقف قادة الدول عن إطلاق الوعود الجامحة التي لا يستطيعون الوفاء بها، مؤلفا الكتاب كلاهما يعملان في إدارة تحرير مجلة الإيكونومست وهما ليسا من معارضي فكرة الدولة الليبرالية الحديثة وإيجابياتها حيث يستشهدان بمقولة ألفريد مارشال: "الدولة هي أغلى ممتلكات البشرية قيمة"؛ الدولة في تصورهما شر لا بد منه لذا يؤكد المؤلفان أن العيش في بلد متقدم ذي حكومة مستقرة كالدنمارك أفضل من مواجهة أهوال بلد ذي حكومة مضطربة كالكونغو مع إقرارهما أن ذلك لا يعني دوام أوضاع هاتين الدولتين إلى الأبد.
يطالب المؤلفان بمراعاة عدة أمور بخصوص الإصلاح المنشود للدولة؛ أولها: على الحكومة أن تبيع الأصول التي لا تقوم بتوظيفها في استثمارات مربحة، وكمثال على ذلك ذكرا الأصول العامة التي تملكها الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي OECD والتي تبلغ 2000 شركة بقيمة تقديرية تتجاوز 2 تريليون دولار وبجيش من الموظفين يبلغ عددهم 6 ملايين، غالبية هذه الشركات تعمل في مجال المواصلات والطاقة والاتصالات، مبررات الدول الأعضاء في رفض خصخصة هذه الشركات هو لحماية القطاع العام من التآكل، جادل المؤلفان بأن مربط الفرس لحماية القطاع العام ليس في الإصرار على الاحتفاظ بملكية هذه الشركات بل في وضع التشريعات التي تضمن لجميع المواطنين الاستفادة من خدماتها، الأمر الثاني: على الحكومات أن تتوقف عن السياسات التي تقوم فيها بمحاباة الأغنياء والمتنفذين على حساب الفقراء والمحتاجين، لقد ركز اليسار لفترة طويلة على قضية عدالة التوزيع لكن من الأفضل التركيز على "فك ارتباط المتنفذين بدهاليز دولة الرفاه" ومكافحة استغلالهم لأموال دافعي الضرائب، الأمر الثالث: لا بد من إصلاح نظام الاستحقاقات والضمان الاجتماعي حتى يكون مقصورا على أولئك الذين يحتاجون خدماتها بدلا من الاستنزاف، ولا بد أن تكون البنوك المركزية مستقلة عن تأثير السياسيين، دولة الرفاه في حاجة لإعادة النظر في أسلوب إدارتها للأموال العامة حتى لا تضطر الأجيال القادمة لدفع ثمن استهتارنا الحالي.