تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 5 ديسمبر 2024

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
رأي

حسين عبد الله بُلْحَن.. فانون وغزة

7 مايو, 2024
الصورة
Hussien Bulhan and his Book on Fanon and the psychology of oppression
Share

مع استمرار الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة؛ فإن عمل حسين عبد الله بُلْحَن عن فانون هو بمثابة تذكير عاجل بدور علم النفس في مقاومة الأنظمة القمعية التي لا تستوعبنا.

باعتباره عالما نفسيا مناهضا للعنصرية؛ ظل البروفيسور حسين عبد الله بُلْحَن كنزا لفترة طويلة. لقد كان عمله ملهما، ولا زالت أصداء وآثار أفكاره تتخلل كتاباتي وتدريسي وممارستي. ومع ذلك؛ فما يثير استيائي هو أن أفكار بُلْحَن لا تتم مناقشتها كثيرا بين العلماء المناهضين للعنصرية ومتخصصي الصحة النفسية؛ وإشكالياتها الحرجة في الشمال العالمي، وهذا الأمر ينبغي أن يتغير، وخاصة في روح العصر الحالي. لقد عاد التصالح الليبرالي مع الاستعمار الاستيطاني إلى الظهور في مهنتنا، إذ يبدو جليا تواطؤ المهن الصحية النفسية مع الإمبريالية للأسف، لذا فعمل الأستاذ ومؤسس جامعة فرانز فانون في هرجيسا، يستحق الإشادة حاليا أكثر من أي وقت مضى.

الكتاب الجيد يُحدث أثرا فوريا، لكن الكتاب العظيم يصمد أمام اختبار الزمن، حيث يدفعنا لإعادة قراءته والتفاعل مع أطروحته للتوصل إلى مدلولات جديدة للنص. من الكتب التي تُعتبر من هذا القبيل كتاب بُلْحَن (فرانز فانون وسيكولوجيا الاستبداد) على وجه التحديد، والذي يتردد صداه اليوم لأن مجموعة الأدوات المتاحة للأنظمة القمعية، والظروف التي تسهل عملياتها تطورت بشكل كبير (مثل: التجسس الحكومي والذكاء الاصطناعي وتفتيت المجتمع). ينسج بُلْحَن بمهارة في هذا الكتاب بيوغرافيا فرانز فانون (مستعينا بمصادر تتصل مباشرة بعائلة فانون)، وهو يستكشف التواطؤ التاريخي لعلم النفس الغربي في دعم الأنظمة القمعية. إن هذا المزيج من السيرة الذاتية الماهرة والتقدير العميق لعمل فانون - مع الحفاظ على موقفه التحليلي الخاص - هو الذي يسمح لبُلْحَن برسم الشكل الذي يمكن أن يبدو عليه مجال علم النفس المتحرر حقا.

 يبدأ بُلْحَن كتابه بسرد موجز لا نظير له عن حياة فانون، فمثلا يمنحنا معلومات عن تعنت فانون ضد الظلم، والذي يُعتبر أمرا مشرفا للأشخاص غير البيض، رغم أنه لا يزال خاضعا حتى الآن لتوجيه مفرط، وهذا التعنت بالذات هو ما دفعه إلى الاصطفاف مع الفرنسيين لقتال النازيين، ثم حرضه لاحقا على الانضمام للجزائريين لمحاربة الفرنسيين. واليوم يحاول بعض الباحثين تطهير فرانز فانون، ومنحه بريق استحسان ليبرالي زائف أو استغلال قصته وإرثه، لتعزيز علاماتهم التجارية الخاصة، والأسوأ من ذلك أن البعض يزعم أنه كان سيقبل المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني. لكن القراءة العميقة لحياته من خلال ما كتبه بُلْحَن - والتي تؤكدها جوزي فانون (زوجة فرانز الراحلة) - تكشف سخافة ذلك. فقد كان لا يعرف المهادنة إطلاقا، حين يتعلق الأمر بالاضطهاد. حسب بُلْحَن؛ غدونا نعرف أن فانون أسرَّ لأمه بأنه يشعر بالندم حين قاتل من أجل الشعب (الفرنسي) الذي قام بإذلاله، هذه التفاصيل ضرورية لاستيعاب التطور الفكري لفرانز فانون، وإتاحة استبصار وجداني بتجارب الأقليات العرقية في الشمال العالمي، ممن لا يزالون يتعاملون مع مؤسساته.

 في السردية التي يقدمها بُلْحَن؛ نكتشف طبيعة علاقة فرانز فانون بوالدته، التي كانت تختم كل رسائلها لأبنائها بـعبارة: "أمك التي تصلي من أجلك". ولكن مع فرانز كانت تختمها بــــ: "والدتك التي تسير معك". هناك تصور شائع في ذلك الوقت يحاول إضفاء طابع سيكولوجي على تمرد فرانز فانون، من خلال القول بأنه كان الابن الأثير لأمه. وهذا يشبه النظريات التي نسمعها عن الشباب المسلم الملتزم بمحاربة الأنظمة القمعية في الخارج. غالبا ما تتم رعاية الإرادة القوية للثوريين بطرق خفية من خلال الأمهات في المقام الأول، بيد أن إرادة مقاومة الاضطهاد ليست انحرافا نفسيا بل هي مشروع صحوة سياسية تتكشف في الأفق.

ثم يستهل بُلْحَن توطئته لعلم النفس الحديث بالتشديد على ما يتجاهله معظم علماء النفس؛ وهو هيمنة الشمال العالمي على العالم. ينسج بُلْحَن تحليله الناقد للمركزية الأوروبية لعلم النفس مع تحليل فانون، ويدمج الاثنين معا. ويتساءل قائلا: «في الواقع؛ فإن الجشع الذي استهلك الشعوب الأخرى واكتنز الموارد الأرضية، قد يلتهم ذاته قريبا قبل غزو الفضاء الخارجي. ومع ذلك؛ فماذا قال علماء النفس وفعلوا بشأن هذا الهيجان التاريخي والإبادة الذاتية المحتملة؟".

إن إجابة بُلْحَن تستمد جوهرها، بطبيعة الحال، من فانون بوصفها امتدادا له، وليست مجرد تلخيص، إنه يقدم رؤية تحليلية هائلة، ويتقدم نحو إطار التحرر في علم النفس. يحدد بُلْحَن ثلاثة تغييرات مهمة يحتاجها علماء النفس لتحرير أنفسهم من عباءة الهيمنة الخانقة: التركيز المتجدد على الرفاهية الجماعية، واحتياجاتنا، والتمكين. وسألخص بإيجاز كيف أثرت هذه الأفكار على عملي، وسبب أهميتها لغزة.

أولا: يؤكد بُلْحن أننا يجب أن نحول التركيز من النزعة الفردية إلى الرفاهية الجماعية. قد يبدو هذا التأكيد واضحًا؛ الرفاهية الجماعية هي مبدأ يدعي علماء النفس ذوو الوعي الاشتراكي أنهم يلتزمون به. ومع ذلك؛ يظل علم النفس اليوم مدينا بالفضل لمجموعة من أصحاب المصلحة وروح العصر النيوليبرالية التي اختطفت عملية صنع السياسات، وأضفت على المعاناة طابعا فرديا بالضرورة. وبالتالي، لا تزال خدمات الصحة النفسية العامة تعطي الأولوية بقوة للصحة العقلية للفرد، بناءً على قدرته على العمل والاستمرار في الإنتاج، وليس بوصفه إنسانا يتمتع بصحة جيدة.

غالبًا ما يضطر علماء النفس الذين يتجنبون خدمات الصحة العقلية العامة إلى العمل ضمن مؤسسة فردية للغاية، تقدم خدماتها العلاجية للطبقة الوسطى تحديدا، وهذا الوضع أسوأ بالنسبة للأشخاص غير البيض. إن المثل الأعلى للرفاه الجماعي يتم عرقلته بالنسبة لمجتمعات الأقليات مثل المسلمين؛ فعمليات تهميشهم تعمل ضمن النطاق المستساغ ليبراليا، مثل مكافحة الإرهاب، في حين أن المسلمين الأبرياء هم أكثر الناس عرضة للتوقيف في المطارات، بموجب تشريعات مكافحة الإرهاب، فإن هذا يعتبر ضروريا بالنسبة لكثير من الجمهور. 

إن توفير العلاج الفردي لكل حالة احتجاز تعسفي لن يُخفي تماما العنف الجماعي الذي يؤثر على جميع المسلمين، إنها مشكلة نظامية وهيكلية، وليست مشكلة فردية. وينطبق هذا بشكل خاص على سكان غزة الذين تم تجريدهم من إنسانيتهم، بشكل جماعي، بسبب الفصل العنصري الصهيوني. إن رفاهيتهم الجماعية تتطلب التحرر من الصهيونية، وليس "علاج الصدمة" المفرط في طابعه الفردي، كما تقول الدكتورة سماح جبر.

ثانيا: يجب علينا الابتعاد عن الاهتمام بالغريزة - المستمدة من التحليل النفسي، ولكن قد تُفهم أيضًا بوصفها التركيز على التركيبة النفسية للفرد بكل الطرق الممكنة - إلى الاهتمام بالاحتياجات، وهنا يؤكد بُلْحن بشكل خاص على ضرورة تقرير المصير. التركيز على الاحتياجات بدلا من الغريزة أمر بالغ الأهمية، والعنصر الأساسي هنا هو أسلوب توظيف التأويل السيكولوجي.

يذكرني بُلْحن - مستعينا بفانون - أن أفكر في الظروف الفعلية للشخص الذي أمامي، وينطبق هذا بشكل خاص على المسلمين الذين تعرضوا للإساءة والحرمان من حقوقهم، من قبل الدولة ومؤسساتها المختلفة. كان لعلم النفس علاقة طويلة مع الأشخاص الذين تعتبرهم السلطات "معادين للمجتمع"، ولكن في قلب نضالاتهم تتجلى دائما تلك الاحتياجات غير المشبعة التي تزدهر في ظل مواطنة من الدرجة الثانية؛ الحاجة إلى العدالة والحاجة إلى المساءلة، والأهم من ذلك كله الحاجة إلى تقرير المصير، لتقرير مستقبل الفرد خارج إدارة الدولة ورقابتها. إن توظيف التأويل السيكولوجي الذي يختزل هذه الاحتياجات في الغضب والقلق والاكتئاب، هو أشبه برؤية القذى وتجاهل الجذع. يعد نص بُلْحن بمثابة تذكير قوي لمقاومة الدافع إلى إسقاط التأويل السيكولوجي المختزل على القضايا الهيكلية للأفراد.

ثالثا: يرى بُلْحن - وبشكل حاسم - أننا يجب أن نحول تركيزنا من التكيف إلى التمكين. لقد كان العلاج منذ فترة طويلة مشروعا سياسيا لتدجين الأفراد، بغرض تحقيق الإذعان والتكيف على نطاق واسع مع الهياكل التي تعمل على تهميشهم، إن بديل بُلْحن - أي: التمكين - ليس إعادة صياغة لـ "المرونة" النيوليبرالية التي يتم خلالها "تمكين" الأفراد للتغلب على محن الحياة، بل هو مطلب لتجاوز العلاجية. وكما يلخص بُلْحن بشكل شجي؛ فإن “العمل النفسي مع المضطهدين يجب أن يعطي الأولوية للنشاط المنظم والجماعي لاستعادة السلطة والحرية” (ص 276). العمل المنظم والواعي والجماعي يجب أن يسبق العلاج. البعد الأكثر أهمية الذي استفدته من كتابات بُلْحن - والذي يتردد صداه الآن في كل أعمالي - هو تركيزه على التمكين بدلا من التكيف. ويلخص الحاجة إلى ذلك في سلسلة من الأسئلة التي يجب على كل طبيب نفساني أن يطرحها على نفسه:

“والآن؛ على افتراض أن أحد الأشخاص المضطهدين يطلب العلاج النفسي ويتم توفيره، وأن المواعيد ملتَزَمٌ بها، وأن العلاج يسير كما هو مخطط له، ما هي التغييرات الواقعية التي يمكن توقعها؟ ألا يُعتبر تخفيف آلام الأعراض وتغيير نمط سلوك تدمير الذات بواسطة العلاج النفسي إنجازا هاما بحد ذاته؟ ولكن في الوقت نفسه، هل تم الاستسلام للنظام الاجتماعي السائد من خلال محاولة التكيف معه؟ هل من المعقول أن نقول إن العلاج النفسي قد يكون مناسبا وضروريا لهذا المريض، رغم تحفظنا أساسا فيما يتعلق بالوضع الراهن للاضطهاد؟ هل العلاج النفسي هو في الأصل أداة للسيطرة الاجتماعية وليس التغيير الاجتماعي؟ إذا كان الأمر كذلك، فهل هناك سبل لمساعدة هذا الفرد الضحية في مشاكله المباشرة والمحددة والملحة دون المساس بأهداف الجماعة؟."

باعتباري أخصائيا نفسيا مناهضا للعنصرية؛ وأعمل في المقام الأول مع مرضى متأثرين بعنف الدولة والأمن وشرطة الحدود؛ فهذه هي الأسئلة التي أطرحها على نفسي كثيرا. عندما أرى المرضى الذين تعرضوا للإيذاء من قبل الشرطة، على سبيل المثال، هل يكفي بالنسبة لي أن أدعمهم في "صدماتهم" أم أن هناك شيئا أقوم بتجاهله من خلال معالجة العواقب الوخيمة للسيطرة الاجتماعية العنيفة التي تضر بالمجتمعات ذات الأقليات العرقية؟

يستلزم التمكين تحفيز المريض على التطور أو العثور على الهياكل التي يحتاجها ليشعر بالحماية، لكن ماذا لو كانت هذه الهياكل غير موجودة؟ هذا بالضبط هو التطبيق العملي لنهج فانون المتمحور حول المنشأ الاجتماعي للاعتلال النفسي: كل قصة تكشف بشكل فريد حدود قوتنا الجماعية وحريتنا، لذلك تصبح قصصهم ذات معنى خاص؛ ليس فقط لأنفسهم؛ ولكن كدليل لتشخيص هياكل القمع ومقاومتها. تعتبر خطوة التمكين هذه أكثر أهمية من العلاج نفسه، إذ بدونها لن يكون العلاج في الحقيقة سوى أداة تتجاهل أهمية المنشأ الاجتماعي للشقاء والحرمان.

وهذا ينطبق بشكل خاص على فلسطين، لقد زعمت مؤخرا على وسائل التواصل الاجتماعي أن علماء النفس الذين يراقبون الإبادة الجماعية في غزة، بدافع تقديم "العلاج" هم جزء من المشكلة. ردًا على ذلك؛ أجاب أحد علماء النفس الاجتماعي الأمريكيين بأن هذا الكلام في منتهى القسوة، فالناس يفعلون ما في وسعهم. لكن هذه هي بالضبط القضية التي يحثنا بُلْحن على أخذها بعين الاعتبار: هل الدعوة الواضحة لتحرير فلسطين هي في الحقيقة مسألة علاج؟ أم أن تركيزنا على العلاج يطغى على الحاجة إلى التعبئة الجماعية ومقاومة هياكل الإمبريالية، بما في ذلك الصهيونية؟

إذا كنا جادين بخصوص الاضطهاد؛ فليس أمامنا خيار آخر سوى السير على خطى فانون وبُلْحن، وإدراك أن النضال من أجل العدالة والتحرر يسبق العلاج. كانت هذه تأملات قصيرة في عمل بُلْحن، ولكن مع مرور الوقت قد أقوم بتأليف كتاب لاستخلاص مصادر إلهامه العديدة. كتابه المؤثر عبارة عن سيرة ذاتية، ونقد لعلم النفس المعاصر، ونموذج ممتاز لاستجلاء الوجود الدائم للسياسة في الصحة العقلية.