الأربعاء 9 أكتوبر 2024
"جاد" في الصومالية، و"تشات" في الأمهرية، و"ميرا" في السواحلية، كلها مسميات لنبات "القات" المنتشر في مجتمعات القرن الأفريقي واليمن، وهو نبات تمضغ أوراقه وجذوعه، ليحصل مستهلكوه على شعور بالإثارة الذهنية. يعقبها آثار "ما بعد المضغ"، وهي الأرق والهلوسة وفقدان الشهية. فضلا عن الأعراض، يحمل انتشار تناول النبات أبعاداً مختلفة، ذات طبيعة اجتماعية وصحية واقتصادية لدى شعوب القرن الأفريقي.
تاريخيا، لا يعرف متى ظهر النبات، ولا حتى بداية تعاطيه، لكن يرجح أنها في القرن العاشر الميلادي، حيث انتشر مضغه في أوقات مختلفة في أوساط المجتمعات بالمنطقة. لكنّ الأمر ازداد في القرن الماضي، حتى بات حالياً إحدى أكبر السلع التجارية المنتشرة في القرن الأفريقي.
جذور إثيوبية
نقل الأثيوبيون القات إلى اليمن، قبل سبعمئة عام، وما يزالون يزرعونه، ويصدرونه حتى اليوم إلى اليمن، وإلى دول القرن الإفريقي؛ الصومال وجيبوتي وإريتريا، ودول أفريقية أخرى مثل تنزانيا وكينيا، وحتى دول المهجر في الخليج وأوروبا وأمريكا.
يعتقد أنّ المرتفعات الإثيوبية كانت منشأ القات الأول، وتحديداً في مدينة "هرر". ومنها هناك دخلت، في أوقات مختلفة، إلى أراضي الصومال وصوماللاند، وجيبوتي وجنوب اليمن وشماله وكينيا ومدغشقر وتنزانيا، وصولاً إلى جنوب شرق أفريقيا.
حالياً، ينبت معظم القات الرئيسي في إثيوبيا، في التلال المحيطة بمدن "ديري داوا" و"هرر"، الشهيرتين في شرق إثيوبيا، على بعد نحو 150 كيلومتراً من الحدود مع صوماللاند. ينقل من هناك إلى دول المنطقة عبر الجو والبر، مع الحرص على تصدير النبتة سريعاً بعد القطف، فكلما كانت يانعة زاد تأثيرها، وزادت قيمتها.
طقس اجتماعي وديني
يشكل القات طقساً اجتماعياً، فهو يقدم في المآتم وفي الأعراس، وفي المقاهي والبيوت، ولا يتردد العشاق في تعاطيه في جلساتهم الحميمة. ويحضر كذلك في المناسبات الدينية، بما فيها الإسلامية، مثل: إحياء المولد النبوي والاحتفالات الصوفية، فيعمد الصوفيون إلى مضغه للبقاء يقظين أثناء سهراتهم الدينية. وارتبط القات بالروحانيات، ما جعل المتصوفة ينعتونه ب"قوت الأولياء"، ردا على التيارات السلفية التي تعدّه من المحرمات.
يتواجد القات في الحياة اليومية لدى سكان القرن، كما في أماكن أخرى من العالم، مثل اليمن الذي ينتشر فيها بكثرة، فمتعاطو القات يتناقشون بشكل حيوي، أمور الاقتصاد والسياسة والتاريخ والحياة، أثناء مضغ الأوراق في أشكاك صغيرة. أفادت دراسة صادرة عن معهد لندن لدراسة الاعتماد على المخدرات، في عام 2014، بأنّ "القات تقليد اجتماعي في الثقافات التي يستخدم فيها السكان الأصليون، تماماً مثل القهوة في الثقافة الغربية".
يعد القات تجارة رائجة في مجتمعات القرن الإفريقي إلى حد كبير، فالأرقام في الصومال وصوماللاند، تشير إلى أنّ 75% من الذكور يمضغونه، وتتوفر كل مدينة وقرية على قاعات، يتجمع فيها الناس لساعات لمضغ باقات الأوراق الخضراء، في أجواء تملؤها لموسيقى الصاخبة.
يبقى الملفت عند ذكر الأرقام غياب نسبة الإناث اللواتي يتعاطين القات، ربما يكون تفسير ذلك الحرص على تحاشي حشر النساء في سلوك يعتبره المجتمع مشيناً. فعادة ما يمضغ الرجال القات في الأكشاك العامة، بينما النساء في بيوت خاصة، مخصصة لمضغ القات.
كان انتشار القات محصوراً على المدن سابقا، لكن مؤخراً، دخل إلى القرى والبوادي، ففي كل قرية يوجد بائعون للقات يستوردونه من المدينة، وبعد أن كان الاستعمال خاصا بالمناسبات أصبح من العادات اليومية، يرادف الأكل والشرب، حتى إنهم أيام الحرث والحصاد يمضغونه في الليل عوضاً عن النهار، ويعتقدون أنه يزيد من نشاطهم العملي.
أعباءٌ اقتصادية جبّارة
يشكل القات اقتصادا ضخما في القرن الأفريقي، ويمثل منتجاً رئيسياً للتصدير لدى بعض دول المنطقة، ويمثل لدى أخرى عبئاً اقتصادياً، واستنزافًا للأموال والقدرات. بالنسبة لإثيوبيا مثلا، يعدّ القات مصدراً رئيسياً للدخل القومي؛ حيث تنفق جارتها صوماللاند حوالي 524 مليون دولار سنوياً؛ أي ما يعادل حوالي 30٪ من الناتج المحلي الإجمالي، على شراء القات الإثيوبي (يعتقد الكثيرون أنّ الرقم الحقيقي أعلى من ذلك بكثير). ويعني هذا أن نسبة كبيرة من عملتها الأجنبية تستخدم لشرائه. وقد سبّب شراء القات هبوطا في قيمة الشلن (العملة الصوماللاندية)؛ حيث يرسل يومياً ما يقارب مليون ونصف المليون دولار من العملة الصعبة إلى إثيوبيا.
كذلك الأمر بالنسبة جيبوتي؛ الجار الشرقي الآخر لإثيوبيا، وهي من أكثر الأسواق الخارجية تحقيقاً للربحية لإثيوبيا، ما يجعل حكومتها ترى في القات منتجاً مفيداً قابلاً للتصدير إلى بلدان أخرى.
تعد شركة "571"، ومقرها "هرجسيا" في صوماللاند، أكبر مصدّر للقات في منطقة القرن الأفريقي، فالرقم يصل إلى 8 طن من القات يومياً، كما أنها تملك طائرتها الخاصة لنقل البضاعة من إثيوبيا إلى الصومال وصوماللاند وجيبوتي، ومعسكرات الشتات الصومالي في اليمن ولبنان وتركيا.
في كينيا، يعتمد ما يقدر بنحو نصف مليون كيني على زراعة القات، وبيعه لكسب عيشهم. وكانت بريطانيا تستورد ما قيمته 25 مليون دولار من القات سنوياً، قبل حظره في عام 2014. وتصدر كينيا حاليا ما قيمته نحو 250 مليون دولار من القات سنوياً، متجاوزة الشاي الذي يعتبر واحداً من الصادرات المربحة للبلاد، وفقاً لما تقوله الحكومة الكينية. وتغادر عشرات الرحلات الجوية مطاري نيروبي الرئيسيين يومياً، وهي تنقل الأكياس المحملة بالقات إلى الصومال، في تجارة تبلغ قيمتها نحو 600 ألف دولار يومياً، وفقا للوكالة الوطنية للحملة ضد المخدرات في كينيا.
تعتبر هذه الدول أي تغيير في الطلب على القات أمراً كارثياً على اقتصادها، كما حصل مع إثيوبيا حين حظرت المملكة المتحدة توريد القات؛ إذ كانت رابع أكبر مُصَدِّر لها، بقيمة أرباح وصلت إلى 250 مليون دولار خلال عام 2013 فقط.
تأثيرات مدمرة على المجتمع والبيئة
أعلنت منظمة الصحة العالمية في عام 1980 القات مخدراً، من حينها، قامت بعض أنظمة المنطقة بحملات ضد القات باءت جميعها بالفشل. من حين لآخر، تتعالى الأصوات المعارضة للقات؛ إذ يطالب الناشطون والجمعيات الصحية بحظره، وإغلاق متاجر القات، والبيوت المخصّصة لمضغه. وخلافاً لهذا الرأي، يعتقد الخبير الاقتصادي أحمد علي أنّ "هذا ليس نهجاً واقعياً. فلا يمكن قطع سبل عيش الملايين، وتغيير العرف الاجتماعي بين عشية وضحاها". ويدعو في المقابل إلى التعلم من الأخطاء السابقة التي حالت دون وقوفه، مقترحا تبني سياسات متشددة، لكن غير مباشرة ضد متعاطي القات؛ كزيادة الضرائب عليه، أو حصر أيام توفره في السوق، بيومين بدلاً من أيام الأسبوع كاملة، في تلميح إلى أعداد الموظفين الذي يمضون نصف يوم في العمل، ثم يتوجهون بعد الظهر الى أشكاك القات.
يخلف القات آثار سلبية على البيئة؛ إذ تنتشر ملايين من أكياس البلاستيك التي يتم توزيع القات فيها على الأرض في الصومال وصوماللاند، مسببة كارثة بيئية. إضافة إلى ذلك، وإلى جانب خسارة الملايين من الأموال النقدية كل يوم لشراء القات، ووجود المخاطر الصحية، يستنزف القات ميزانية الأسرة؛ لأن الرجال ينفقون نسبة كبيرة من دخل الأسرة على القات، على حساب طعام الأطفال والرعاية الصحية والتعليم. ويساهم ذلك في التفكك الأسرى، عن طريق زيادة العنف المنزلي ومعدلات الطلاق.
فشل مستمر في التقليل من أضراره
النقاش في الصومال، حول التأثير الاقتصادي والصحي والاجتماعي المدمر للقات، قديم قدم القات نفسه. وقد تحدث الكاتب الصومالي بشير غود، في مقال له، عن المحاولات التي اتخذت تاريخياً لحظر القات، وانتهت كلها بالفشل، إذ "فرضت الإدارة الاستعمارية البريطانية قيوداً على استيراد القات في محمية صوماللاند البريطانية في عام 1921، وفي كينيا عام 1940. لكن الحظر، في المرتين، أدى إلى أن يصبح القات أكثر ربحاً في السوق السوداء، وأن يرتبط استخدامه بالتمرد على القمع البريطاني. كما حاولت الإدارة الفرنسية في جيبوتي الحد من واردات القات، واستهلاكه في عام 1952. لكنها لم تنجح. وفي اليمن، أدى الحظر الذي فرضته الحكومة البريطانية على القات، في عام 1957، إلى غضب شعبي في عدن، وكذلك إثيوبيا، بلد التصدير، في حين أنّ محاولة حظر القات في جنوب اليمن بعد الاستقلال، أدت إلى سقوط الحكومة الجنوبية في عام 1972".
تنتشر قصة حدثت في أيام الاستعمار في صوماللاند، حين منع الاحتلال البريطاني استيراد القات، لكنّ الصوماليين لجأوا إلى حيل جديدة لإدخاله؛ حيث حملوا القات في نعش، كي يتم إنزاله من الطائرة، وأوهموا سلطات المطار أنهم يحملون ميتاً.