تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الجمعة 17 مايو 2024

رأي

تأملٌ في عام من الفاجعة في السودان

20 أبريل, 2024
الصورة
sudan
Smoke plumes billow from a fire at a lumber warehouse in southern Khartoum amidst ongoing fighting on June 7, 2023. (Photo by -/AFP via Getty Images)
Share

يتأمل حميد خلف الله، الكاتب والباحث الأكاديمي السوداني، في الحرب والنزوح في السودان، وآثارهما الأوسع نطاقًا على شعب هذا البلد.

 

"أين إذن الجذور الضاربة في القدم؟ أين ذكريات الموت والحياة؟ ماذا حدث للقافلة والقبيلة؟"

الطيب صالح، موسم الهجرة إلى الشمال

 

بعد قضاء ليلة بهيجة مع الأصدقاء، استيقظت، في الخامس عشر من أبريل من العام الماضي، على فرقعة أصوات الرصاص ودوي الانفجارات. فقد اندلعت الحرب التي طال انتظارها بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع شبه العسكرية. تحولت الخرطوم، مسقط رأسي، في غضون ساعات إلى ساحة معركة حقيقية، وامتلأت سماءها بالنيران والدخان، وطغت أصوات الرصاص والانفجارات النشاز على أصوات المدينة المألوفة قبل ذلك. تبدلت مدينتي الحبيبة التي عرفتها من قبل إلى الأبد، وسرعان ما امتد النزاع الذي بدأ في الخرطوم إلى كافة أرجاء البلاد.

كانت الصدمة مهولة، حيث واجه من كانوا في مرمي النيران المتبادلة قرارات مستحيلة. قررتُ مع أسرتي في البداية البقاء في المنزل في بحري، في المنطقة الشمالية من العاصمة الخرطوم، إذ حاولنا تقدير طول هذا النزاع. كانت أسوأ فروضي، والتي أتذكرها الآن بقليل من الحنين، أنها ستدوم ثلاثة أسابيع. كانت مبرراتي أن المجتمع الدولي سيتدخل في الحال ليُجلس طرفي النزاع في طاولة التفاوض خلال أسبوع، بعدها سيستغرق النقاش والتوصل إلى اتفاقية ترتيبات وقف التصعيد أسبوعين آخرين. ثم سيتوقف الاقتتال وتبدأ العملية السياسية من جديد. اعتقدت أن البلاد بحاجة إلى عملية سياسية جديدة بأولوية إشراك الطيف الواسع من الفاعلين الذي يتجاوز النخبة السياسية القديمة، وأنه يمكن العمل على إصلاح القطاع الأمني، السبب الأساسي للنزاع بين الطرفين، في وقت لاحق. من الواضح أن الأمر لم يكن كذلك. على ذلك، بعد الثلاثة أسابيع، اضطررنا إلى مغادرة المنزل والنجاة بحياتنا.

بعد مرور عام، لا تزال الحرب مستعرة بلا نهاية في الأفق، مع تعثر كل مساعي حل الأزمة وإيجاد حل سياسي لها. إن حجم المعاناة الإنسانية الناجمة عن هذه الحرب هائل، مما يجعل من الصعب للغاية فهمه بشكل كامل. فقد أفرزت هذه الحرب أكبر أزمة نزوح داخلي في العالم، حيث فرّ أكثر من ثمانية ملايين شخص إلى مناطق داخل السودان وخارجه. وأصبح الوصول إلى الخدمات الأساسية صعبًا للغاية، لا سيما الخدمات الصحية، إذ أُغلقت أكثر من 70% من المرافق الصحية في السودان أو خرجت عن الخدمة، كما توقف أكثر 6.5 مليون طفل عن الذهاب إلى المدرسة بسبب العنف المتزايد في البلاد.

فاقمت الحرب الأزمة الإنسانية القائمة قبل ذلك، وتدفع البلاد إلى التحول إلى أكبر أزمة جوع في العالم، حيث يواجه 18 مليون شخص_ أكثر من ثلث السكان، جوعًا حادًّا بالفعل. بالرغم من هذه الأرقام المروعة، فقد وصلت إلى السودان 5.8 % من المساعدات الإنسانية المطلوبة فحسب حتى اليوم. ووصف مارتن غرافيث، رئيس هيئة الشؤوون الإنسانية التابعة للأمم المتحدة، الوضع "بالمهزلة الإنسانية" التي تجري "تحت ستار من الغفلة والتقاعس الدولي."

تُرافق الاستجابة الإنسانية الضئيلة المخزية للوضع في السودان فجوة في التغطية الإعلامية الدولية، وفي المساعي الدبلوماسية المُنسقة. وتُعتبر هذه الحرب منسية بسبب قلة التقارير عن الوضع في السودان، ما أدى إلى اختفاءها عن الوعي العالمي والخطاب العام، رغم المعاناة الإنسانية والدمار اللذين يصعب تصورهما.

زد على ذلك أن مبادرات التوسط المجأزة دفعت طرفي النزاع إلى مواصلة "التسوق في المنتديات" وعدم الالتزام بأي عملية سلام. تتجاوز كل من أسباب الحرب في السودان  وآثارها حدود البلاد، إذ تنطوى الحرب في السودان على أجندة جيو-سياسية متنوعة، بمشاركة فاعلين إقليميين ودوليين، بينهم الإمارات العربية المتحدة ومصر وتركيا وإيران وروسيا وأوكرانيا، في تأجيج الاقتتال. ثمة حاجة ماسة بذلك إلى تكثيف التدخل الدولي في السودان، فبدون تدخل على أعلى المستويات، يخاطر العالم بأن يصبح "شاهدًا شبه صامت" على المآسي المدمرة التي تحدث هناك.

إن تقاعس المجتمع الدولي في التدخل في السودان ودعم شعبه ليس بجديد وقد حدث مرارًا. فقد شرعن تعاملهم مع الفصائل العسكرية قبل الحرب طموحاتهم السياسية. وقاموا أيضًا بالتعامل مع النخبة السياسية، في الوقت الذي تجاهلت فيه المجموعات المدنية القاعدية التي تمتلك شرعية أكبر بين عموم السودانيين. وبعد اندلاع الحرب، لم يتعامل المجتمع الدولي مع الوضع بالجدية اللازمة ولم يستخدم نفوذه لإيقافها. أتساءل عما إن كانت ستكون هنالك ذكرى مرور عام على الحرب لو أنصت المجتمع الدولي للأصوات المحلية في السودان واستجاب على نحو أكثر إلحاحًا وتنسيقًا. والتباين بين الاستجابة العالمية للحرب في السودان وغيرها من النزاعات الأخيرة، مثل كالتي في أوكرانيا، صارخٌ ويخبرنا الكثير عن الأولويات العالمية.

يضطر الكثير منّا الآن إلى مواجهة واقع النزوح الصارخ من الوطن الذي عرفناه والحياة التي عرفناها، وتُركنا للتأمل في مستقبل أصبح فيه وطننا مادة للحديث بصيغة الماضي. إنه زمن مختلف، لكنه مكان مختلف كذلك

بالنسبة لملايين السودانيين الذين تأثروا بهذه الحرب، لقد كانت هذه السنة تتسم بفقدٍ ومشقة وغموض لا يُوصف. عانى الكثيرون، طوال هذه السنة، لكنهم تمسكوا بأمل أن هذا الكابوس سينتهي عما قريب، وسيعودون إلى ديارهم. رفضت أمي، لشهور، إخراج الأغراض البسيطة التي تمكنت من حملها، متهيأة للعودة إلى المنزل لحظة انتهاء الحرب. لكن بعد عام، يبدو أن هذا الأمل بعيد المنال أكثر مما كان، لأن طريق السلام المستدام وإعادة الإعمار يتجه على نحو متزايد نحو المجهول. يضطر الكثير منّا الآن إلى مواجهة واقع النزوح الصارخ من الوطن الذي عرفناه والحياة التي عرفناها، وتُركنا للتأمل في مستقبل أصبح فيه وطننا مادة للحديث بصيغة الماضي. إنه زمن مختلف، لكنه مكان مختلف كذلك.

لا أزال، بعد عام، أشعر أني مُقتلَع، وليس بمقدوري بدء حياة جديدة، رغم أني لا أزال أحلم بالعودة إلى الوطن. عندما كنا نحزم أمتعتنا للفرار، أعتقدت أننا سنعود في غضون أسابيع قليلة أو ما شابه. فقد كنت عمليًا ومقتصدًا فيما حزمته، إذ أخذت بعض الأوراق المهمة، وعوضًا عن أخذ كتبي المفضلة، أخذت كتابين لم أقرأهما حينئذٍ: "لمَ المقاومة المدنية ناجعة" و"نهر الروح". بالإضافة إلى ذلك، أحضرت معي بعض الملابس المريحة والعملية، بدلًا من ثيابي المفضلة. بزغت فجأةً قيمة متعلقاتي المحببة، لكن لم أحملها معي، إلا أنني قمت بالأمساك بكل منها بإحكام، محاولًا حفر ذكراها فيَّ. شعرت في مكان ما في دواخلي أنني أقول الوادع. فقد كانت اللحظة عارمة على نحو غير معقول، غير أنها لحظة خاطفة. لم يكن هنالك وقت للعواطف، فقد كانت قوات الدعم السريع تقتحم الأحياء المجاورة لنا، وكان دورنا وشيكًا. حزمت بعض الأمتعة وغادرت، تاركًا ساعتي المفضلة التي أهدانيها جدي الراحل. تركتُ أيضًا صورًا فتوغرافية وهدايا وتذكارات من أحبائي، إلى جانب لوحاتي. لقد تركت ورائي حياتي، لقد تركت ورائي جذوري.

رغم كل ذلك، أود أن أستغل ذكرى مرور عام على الحرب لتجديد الآمال بالعودة إلى الديار، لأنها ملاذنا الأخير. سوف نُعيد بناء بيوتنا وحيواتنا وبلادنا. وآمل أن تعود أنظار العالم إلى السودان، لكي يستجيب المجتمع الدولي للكارثة الإنسانية قبل أن تحصد أروحًا أخرى أكثر مما حدث. إن العالم مدين للسودان بذلك.