الخميس 5 ديسمبر 2024
دخلت السودان بوصفها دولة ومؤسسات في مأساة جديدة تُضاف إلى جملة رصيد هائل من المآسى طالما ظلت تعاني منها بشدة وعناء منذ عقود طويلة. مأساة حرب 15 أبريل 2023، بين الجيش السوداني وميليشيا "الدعم السريع"، والتي ما تزال تدور حتى الآن. انها فجيعة حربٍ عشواء "عبثيّة" فُرضت على الجميع. انها لفجيعةٍ جديدة انتجها تراكم صراعات جوفاء حول السلطة والنفوذ وتناقض المصالح، وبالتالي فهي حرباً سلطويّة بامتياز، نظراً لدواعي وأسباب اندلاعها، وتعدد أطرافها بتنوع أهدافهم، وتقاطع مصالحهم فيها، واختلاف اجندتهم، وتباين أيديولوجياتهم.
كل المؤشرات، بعد انطلاق الرصاصة الأولى، كانت وما تزال، توضح أنها حرباً مُعدة ومخطط لها مسبقاً؛ أي أنها حربٌ مرغوبة محبوكة باصرار وتصميم كبير. فكل القرائن وتمظهرات تاريخيّتها، تشير بجلاءٍ صارخ أن طرفيها الرئيسيين، كانا على استعداد للقتال، ويرغبان بشدة لإراقة الدماء وبسط الموت المجاني، وإنتهاك الحقوق. فالظاهر أنهم كانوا على جاهزية ما لخوض حرباً ضروساً ضحاياها ليس إلا المواطن السودانيّ لطالما ظل هو المقهور والمهمش والضحية من الأساس طيلة عقود. وبانت أيضاً أن هذه الحرب ليست بين جنرالين طامحين - يمثلان رأس مؤسسات العنف في الدولة - فى السلطة وصناعة نفوذ وتعزيز ثروة فحسب، إنما هي حربٌ كأيّ إشكاليّة اجتماعيّة وسياسيّة وايديولوجيّة، وبالتالي فهى عبارة عن عمليّة/ونتاج عمليّة معقدة، ومنظومة متكاملة من عوامل سياسيّة واقتصادية، وشروط اجتماعية، وضغوط موضوعية، تداخلت فيما بينها بخشونةٍ فتكاملت، ثم في لحظةٍ ما، انفجرت مأساةً حادة طالت الجميع بإنتهاكات جسيمةٍ متفاوتة الأثر والتأثير والمآلات.
وبالتالي، فإن هذه الحرب هي بالتأكيد نتاج صراع حاد - بين عدة أطراف داخليّة وخارجية تقاطعت مصالحها في فراغ - حول الموارد والسلطة ومصادر القوة والنفوذ التي تزخر بها السودان طبيعياً وبشرياً. إنهُا نتيجة طبيعيّة لصراعٍ تنافسيّ محتدم يتمحور غايته بالأساس في التحكم بالبلاد كدولة ومجتمعات وعقول؛ حلمهم السيطرة الكاملة على كل شيء ولكن..
وقد رافقت تلك العوامل في رحلة تأجيج نيران هذه الحرب، ظاهرة تعدد الجيوش والمليشيات بجانب تعدد مراكز القيادة والسيطرة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً. كما وأن هناك عمليّة اجتماعيّة عميقة ظلت مؤجلة لفترةٍ طويلة، وهي مسألة ضعف وعدم القدرة الكافيّة على تذويب البنيات والأطر التقليديّة البدائية في مزيج اجتماعيّ مقبول يعمل على تشكيل عقد اجتماعي متماسك يدير بحكمة وعقلانية سيرورة الصراعات التي ظلت تتكاثر بعنف بلا توقف. ضعفها الحرج في القدرة على صناعة مؤسسات دولة حديثة مؤهلة تعمل بجهود مضنيّة لتأطير وبلورة مصالح وهويات كل المكونات الاجتماعية بشكل قانوني عادل في سياسات دولة مواطنة مستقلة حرة، ديمقراطية عادلة. وفي ناصيّة ما، تعتبر هذه الحرب إفرازاً تلقيائياً لضعف نقل الانتماءات الأوليّة - من التعصب للقبيلة وعلاقات الدم والولاء لروح الاثنية والزود بالعشيرة - من خانة الهوية الثقافيّة الاوليّة إلى خانة الهوية الوطنيّة، والولاء لقيم المواطنة.
تبقي هذه الحرب، من أسوأ ما أنتجته حدة الصراع السياسي الاجتماعيّ والسيولة الأمنيّة التي تفاقمت مؤخراً قبل اندلاعها بالبلاد. ومن أهم نتائجها الأولى خلال عاماً كاملاً، والتي تجلت بوضوح ورأتها عين الجميع، انها عملت على تدمير البلاد وتخريبها وتحييد الأخيرة عن فرص التنمية والتقدم، كما انها استنفدت مواردها وثرواتها بشكلٍ تام، وعملت على تعرية المجتمع بشكلٍ كامل قيمياً وإخلاقياً وفكرياً، فضلاً عن أنها ساهمت بخشونةٍ في تعرية السياق الخارجيّ - كدول محور الشر الخليجية وبعض الدول الأفريقية والغربية وبعض الهيئات الإقليمية والدولية – والعامل الداخليّ المتمثل في النخبة السودانيّة وبكل ممارساتها وتصرفاتها وسلوكها العنيف تجاه الشعوب السودانيّة والبلاد. وبالطبع هذه الإفرازات وغيرها الكثير لا يمكن أن يُنظر إليها بنظرةٍ بريئة أو بموقفٍ ساذج، أو بمنظورٍ ضيّق إختزاليّ، إنما يجب قراءتها في سياق تاريخيّة طبيعة هذه الحرب، وأنها تدخل بشكل محوريّ في خانة تراكم المظالم والأخطاء التي انتجتها سياسات الانظمة التي حكمت السودان بعد استقلالها؛ سياسات غير عادلة وغير ناضجة، والتي اسهمت بشكل كبير في تأخر البلاد عن مواكبة التطور، وحاربت إمكانية بناء دولةٍ طموحة.
عنف السودان كدولة
ظلت السودان بوصفها دولة؛ أي مؤسسات وأجهزة وهيئات ومنظمات هيكليّة، منذ استقلالها من آخر مستعمِر خارجيّ وهو البريطاني - المصري، تمارس العنف وتسفك الدماء، وتنتهك الحقوق ضد السودان باعتباره أفرادا ومجتمعات تدعى بالقواعد أو العوام. فكل الأنظمة والحكومات التي تعاقبت على حُكم سودان ما بعد الاستقلال، مارست العنف - بالخصوص العنف الثقافي والهيكلي - ضد المجتمعات القاعديّة السودانيّة بخشونة وحِدة وبمستويات متفاوتة. ممارست ذلك، من خلال استغلال بعض مؤسسات الدولة الرسميّة وخاصة العسكرية منها والأمنية، كالجيش والشرطة والمخابرات.
وعندما نتحدث عن مستوى ممارستها للعنف ضد الشعوب المقهورة من الأساس في حالة الثورات الشعبية التي خلقتها؛ ثورة أكتوبر 1964، نوفمبر 1985 وأبريل 2019، فإن توصيف مستوى العنف التي تلقتها هؤلاء الجماهير كان أعنف، وأشد، وأسوأ في كماً ونوعا. فالجميع يعرف تماماً كم حاربت الأجهزة العسكريّة والأمنيّة الشعب السودانيّ طيلة عقود في سبيل تركيعه عن خوض أي ثورة أو انتفاضة أو احتجاجات حتى ضد هذه الحكومة أو ذلك النظام.
ولكن رغم ذلك العنف الممنهج، استطاعت هذه الجماهير السودانيّة الصمود والثبات، فاستطاعت ان تصنع وتقود وتعمل أكبر وأعظم الثورات الشعبيّة على مستوى العالم. فعلت ذلك لأن البلاد تكاد أن يتم تحويلها إلى دولةٍ طغاة وجبابرة بشكل تام. حُولت خلال عقود - وبالخصوص تجربة نظام الإنقاذ الأخيرة - من ممارسة الخشونة السياسيّة والتعالي الفكريّ والاستكبار الحضاريّ والمعرفي والقيميّ ضد المواطنين البسطاء الأبرياء إلى دولةٍ يمكن توصيفها بدولةٍ عنف بإمتياز؛ دولةٍ دكتاتوريّة قمعيّة على أسوأ وصف وتعبير صادق واضح يصدر من مواطن سودانيّ يعيش في الهامش.
ويبقي أهم أسوأ نماذج ممارستها للعنف، تجربة الحرب الأهليّة العنصريّة الشاملة التي خاضها نظام البشير منذ بواكير استقلال البلاد ضد الجنوب، حتى انفصل في عام 2011. ثم الحرب الأهليّة ضد انسان الهامش هناك - وباستغلال وصناعة ميليشيات ومجموعات متفلتة - في غرب السودان، وجنوب كردفان، واقليم النيل الأزرق، وأجزاء صغيرة من شرق البلاد.
التسليح الشعبي.. الأسئلة الحرجة
بعد أكثر من ثمانية أشهر من القتال الداميّ - راح خلالها الآلاف من الضحايا المدنيين وسط موجات تشرد ونزوح ولجوء وانتهاكات جسيمة هائلة طالت الجميع بمستوبات متفاوتة - بين الجيش ومليشيا "الدعم السريع" في أكثر مناطق البلاد ضعفاً، وهشاشة؛ ولايات الإقليم الغربي الخمس بالإضافة إلى ثلاث ولايات في إقليم كردفان وولاية الخرطوم بالطبع باعتبارها نقطة انطلاق الرصاصة الأولى، وبعد أن ذهبت هذه الحرب أن تمتد إلى بقية الولايات التسع، بل بعد سقوط ولاية الجزيرة في أيدي الميليشيا في 18 ديسمبر الماضي، ارتفعت في الأرجاء دعوات إلى التسليح الشعبيّ ومحاولة الانتظام في ما سُميت ب"المقاومة الشعبيّة المسلحة".
واللافت للمتتبع، أن هذه الدعوة لم تظهر، ولم تأتِ إلا بعد انضمام ولاية الجزيرة إلى دائرة تمدد الحرب مع زيادة فرص وإحتمالات انتقالها إلى بقية المناطق الأخرى - ولايات النيل الأبيض، سنار، كسلا، القضارف، نهر النيل، والشمالية - التي لم تطالها أنياب البندقيّة بعد. وبالتالي يتساءل البعض، لماذا هذه الدعوة في هذا التوقيت بالتحديد؟. الإجابة البسيطة؛ أنه كيف إذا بولايةٍ كالجزيرة - ذات الكثافة السكانيّة العالية وأهميتها الاقتصاديّة وثقلها التجاريّ ومكانتها الجغرافيّة المهمة، بالإضافة إلى رمزيتها التاريخيّة المهمة، كإحدى مراكز السلطة والنفوذ والضغط السياسيّ والاقتصاديّ في البلاد - أن سقطت سريعاً في أيدي ميليشيا "الدعم السريع"، فما حال وكيف سيكون واقع بقية مناطق - وهي أصغر وأقل أهمية بل أضعف مما يكون - إذا إجتاحتها هذه القوات الجامحة للدم والنهب والخراب؟، كيف سيكون أحوالها إذا ما هاجمتها هؤلاء الجنجويد؟. صحيح انه ستكون أوضاعها أسوأ، ولكن - وهنا من يتساءل أيضاً - ماذا عن أحوال إنسان الإقليم الغربي قبل ذلك، أي عندما كانت غارقة في وحل المأساة لفترةٍ أكثر من ثمانية أشهر عجاف؟.
الإجابة البسيطة - لسؤال لماذا هذه الدعوة التسليح الشعبيّ - إن الأمر يتعلق بمشروعيّة وأحقيّة وحق حماية النفس والأرض والعرض والمال والخصوصيّة وكفى. ولكن عندما نأطّر هذه الدعوة زمنياً، فيتضح أن الأمر ليس بهذه البساطة في الجواب، إذا ما غصنا عميقاً في المواطن المضمرة لسياقها الاجتماعي والسياسيّ والجغرافيّ. فإذا تجدفنا قليلاً ستظهر لنا وباختصار شديد، انها لا تضمر عدم جدوى، وعبثية، وخبث وتآمر هذه الحرب فحسب، إنما تظهر بشكل فاضح، مدى حضور عقليّة التمييز المناطقيّ بأبعاده الأثنية والثقافية والسياسيّة والاقتصادية في تناول هذه الحرب بالنسبة للمواطن السودانيّ باعتباره أحد أطراف هذه الفجيعة، وإن كان هو العنصر الأضعف والطرف الضحيّة.
وتظل الأسئلة الملحاحة أيضاً؛ لماذا ازداد الرفض السياسيّ والشعبيّ وانتظم في حراكّ جماهيريّ حثيث، لنقل وتمدد خريطة المأساة إلى باقي ولايات وسط وشرق وشمال البلاد؟، لماذا أثار سقوط الجزيرة بالذات، المزيد من هكذا الغضب الشعبي، لترتفع وتيرة الدعوات لحمل المواطنين السلاح والتنظيم في ما تسمى "المقاومة الشعبية المسلحة"؟، بل يتساءل البعض باحتجاجٍ حانق؛ أين مثل هذه الدعوات عندما كانت خمس ولايات في الإقليم الغربي تتململ بعنف ووتبكي بحرقةٍ حادة في مستنقع حرب عشواء طحنت الجميع بوحشيةٍ خالصة طيلة ثمانية أشهر؟، أين كان الآخرين حينئذ؛ لماذا لم يهتموا، لماذا كانوا يتظاهرون بالعمى والخرس والصم؟، لماذا كانوا صامتين؟
إن الإجابات الواقعية لسرديّة هذه التساؤلات الملحة - والتي هي ستكشف عن حجم وعمق وتاريخيّة المأساة الاجتماعيّة والسياسيّة والمفاهيميّة التي لطالما ظللنا نتمرّغ في وحلها عقودا طويلة - قد نجدها عندما نقرأ السياق السياسي والاجتماعي لهذه الدعوة وقرائن الأوضاع قبل اندلاع هذه الحرب؛ سنسكتشف إلى أي مدى تسود عقليّة تمييزيّة بدائيّة العقل الجمعيّ السودانيّ بشكلٍ عام، وإلى أي مدى تتحكم تلك العقلية في عقول الكثير من قادة وفاعليّ المجتمع المؤثرين، بل الكثير من المكونات الاجتماعيّة بعينها. عقليّةٍ إنتقائيّة إنتهازيّة متخمة برواسب وأتربة التعصب والعنصريّة والعنف الثقافي بشكل في غاية التخلف وتأثيرها في سيرورة المأساة، واحتمالات استغلال - من قِبل قادة ودُعاة النزعة الانفصاليّة التي لوثت فضاء جغرافيا البلاد شرقاً ووسطاً وشمالا - هذه العقلية في تعميق فجوة التصدعات الاجتماعيّة، والتوترات الأثنيّة، والصراعات السياسيّة لطالما ظلت تعاني منها ذاكرة وصيرورة البلاد منذ زمن بعيد.
الدعوة إلى حمل السلاح.. خطاب حمّال أوجه
يبقى من أوجه أجندة دعوة طرفا الحرب إلى النفرة الشعبية والاستنفار الجماهيريّ للمواطنين للانخراط في المأساة، أنها محاولة لمراجعة وتقييم وتحديد الحلفاء من الخصوم؛ إذ تعمل هذه الدعوة الشعبويّة، ولو بشكل غير واعٍ، في تصنيف فئات المجتمع إلى أطراف حليفة لطرفٍ عن خصوم لآخر، وأطراف محايدة تتوسط الخط رغم الضغط الكبير لتأطير طبيعة هذه الحرب أنها لا تحوي إلا طرفين فقط، وبالتالي لا توجد خانة وسطى يمكنك اختيارها والركون إليها.
كما أنها دعوة تستبطن، بشكل أو بآخر، محاولة إسكات أصوات المعارضة عند المواطنين، ومحاربة أصوات المجتمع المدنيّ المقاوِمة والرافِضة هذه الحرب، واعتبارها مجرد حربٌ غير مشروعة وغير عادلة؛ حربٌ عبثيّة سلطويّة ظلاميّة بالأصالة. انها دعوة تُكرِه الجميع، بطريقةٍ أو بأخرى، وبشكل واعٍ أو لا، على تحديد مع من أنت؟، ومن من تعتبره المعتدي الشرير؟ ومن له حق المشروعيّة في التصدي لأي عدو يحاول تخريب البلاد وتدميرها أو يعمل نيابةً عن الشعب لتحقيق أحلامه وطموحاته؟، وبالتالي لابد انك مع أكد الطرفين داعماً وناصراً له؛ لابدّ انك أما مع من يحارب لأجل بقاء الدولة وهو الجيش الذي قال قاعده البرهان في 5 يناير الماضي، "إن الشعب السودانيّ كله يقف مع الدولة ومع قواته المسلحة ويحمل السلاح للدفاع عن الوطن"، ثم أضاف "نحن لن نتوانى في تدريب وتسليح كل قادر على حمل السلاح" وأما انك في صف من يحاول محاربة الكيزان - كذباً وخداعاً - وهم رموز نافذون، وفلول النظام السابق الموجودين في مؤسسة الجيش ويسيطرون على جزء كبير منها؟، وهكذا هو حقيقة الأمر الواقع؛ لا يحتاج إلى كثير تفكير، فقط اختر طرفاً وناصره بكل ما تملك من روح وجهد ومال وكفى.
كما يتضح أيضاً أن هذه الدعوة تستبطن مآرباً وأجندة مغرضة تتعلق أكثرها أهمية، بأن طرفا الحرب يرغبان في الخروج من هذه الحرب بأقل خسائر محتملة مع المحافظة على مصالحها واهدافها الاستراتيجيّة بكل الطرق المتاحة والمتوفرة، وبأقل تكاليفٍ ممكنة. كما انها تستكمن محاولة لمحاربة الحريات وقتل الصوت المدني المناهض للحرب. انها هكذا دعوةٌ تسعى، وبجهود كبيرة، إلى زج المواطنين الأبرياء ضحايا سياسات جائرة في لجة حربٍ ضروس يصعب التنبؤ بمآلاتها، ونتائجها المحتملة. وبالتالي فإن هذه الحرب، هي بمثابة عملية سياسيّة أيدولوجية في الأساس، عمليّةٌ تضمر ابعاداً ذات امتيازات سلطويّة، واجندة صراعيّة شتى، تحيلها بالتالي، لتعدد أطرافها مع تناقض أهدافهم وتضارب مصالحهم، إلى خانة الحرب بالوكالة بامتياز. فالجميع يعلم التدخل السافر لدولة الإمارات، والسعودية، ومصر، وكينيا، وأمريكا ومؤسسات صناعة الاسلحة في صناعة شعلة هذه الحرب، وجهود هذه الدول اللانهائية في تعزيز عوامل استمرارها لاطول فترةٍ ممكنة. انها حربٌ يحاول طرفيها، بهكذا دعواتٍ صماء مغرضة، أن يكسبانها بكل الوسائل وبكل الجهود ولو كانت مكلفة، ولكن في الوقت ذاتع، بأقل الخسائر لهم، وأكبر أرباح تصب في خانة السطو على مشروعيّة السلطة.
مخاوف مشروعة ومخاطر محتملة
من أسوأ افرازات الدعوة إلى التسليح الشعبيّ بعد أن أصبح قيد التحقيق، محاولة فلول النظام السابق العودة إلى المشهد السياسي والاجتماعي من جديد؛ فإذ الآن ينشطون كثيراً في حركة حثيثة ملحوظة للرجوع إلى وضعهم قبل سقوط البشير، وذلك استغلالاً للوضع الهش، والفراغ العام، والفجوة السياسيّة التي تعاني منها راهن البلاد حالياً؛ واستغلالاً لبراءة هذه الدعوة العموميّة. بل يمكن القول أن هؤلاء القوم، يعايشون أفضل أحوالهم حالياً بفضل سهولة وفراغ وهشاشة الوضع العام، وبالتالي كم سهلاً جداً أن يقوموا بتذويب أنفسهم بكل سوالبهم وخطاياهم السابقة، وشخصياتهم في لزوجة هذا الواقع السهل، وهذا بالطبع آخر ما يتمناه قوى ثورة ديسمبر المجيدة؛ أن يعود الكيزان بأي مسمياتهم أو بأي أشكال أو مسميات أخرى خداعة إلى ممارسة انشطتهم الأجتماعيّة والسياسيّة والايديولوجيّة بشكل طبيعي وبلا خوف أو تهديد، بل والانخراط في النشاط العام بصورة عادية، كما كانوا في سابق عهدهم السلطويّ. فواقع الحال ان الوضع في صالحهم بشكل كبير، فلا اجتهاد كثير في محاولة عودة أي منهم - بتعدد مشاربهم، واتجاهاتهم ومسمياتهم - بغطاء هذه الدعوة غير المنضبطة، وهذا الخطاب غير بريء، وهذا المشروع العشوائي.
ومن أكبر المخاوف المرعبة جداً في هذا المضمار أيضاً، استغلال جماعات النزعة الانفصاليّة في شرق وشمال السودان بوجه خاص، هذه الدعوة الشعبويّة في حروبها، وسجالاتها وصراعها المؤجل مع الآخرين بشأن وحدة البلاد من تفتيتها وتقسيمها. فسهولة وعشوائيّة واللاقانونية هذه الدعوة، لهي كلها عوامل مغرية جداً لكل إنتهازي، ولكل نفعي. بل كم أن هذه الدعوة فرصةً ثمينة ومجانية لكل من كانوا يتتظرون مواتتها في مثل هذه الأوضاع، ليتم استغلالها شر إستغلال في أجندة سياسيّة، وأهداف أيدولوجيّة، ومصالح ذاتية ذات أبعاد صراعيّة سلطويّة محبوكة مسبقاً، ومخطط لها قبلاً.
وأقرب من يمكنهم فعل ذلك - أي إستغلال هذه الدعوة في سياقات أخرى غير مشروعة - القادة السياسيّين والاجتماعييّن والفاعلين المؤثرين في وسط وشرق وشمال البلاد بشكل كبير، لأنهم كم كانوا ينقصهم قبول الجماهير في تلك المناطق إلى نزعة التمرد، ومناصرته؛ نزعة المعارضة ومناوئة الأنظمة بشجاعة، وبلا تحفظ. كم كانوا ينتظرون مثل هذه الفرص لأن يستغلوا قبول المواطنين البسطاء هناك فكرة حمل السلاح، والانخراط في حراك ثوري معارض سياسي كان أو مسلح.
وهكذا فمن المحتمل جداً - إن لم يتم ضبط هذا المشروع عاجلاً باحكام قانونية رادعة، وبشروط دستورية حاسم قاطعة - أن تحدث هذه الاحتمالية، وأن تتحقق هذه المخاوف، وأن تقع هذا المحازير الخطيرة لطالما نتائجها المحتملة لا يُحتمل تبعاتها بكل تأكيد، والتي من أسوأها دخول المشهد العام في صراعات أخرى كانت مؤجلة، والتوّرط بتعمدٍ في حروب جانبيّة متداخلة تقود إلى حرب أهلية شاملة؛ حربٌ يحارب الكل ضد الجميع؛ حربٌ شاملة تطحن الجميع، وحينها تزداد الفجوة الاجتماعيّة بين المكونات كثيراً، وتتفاقم حدة التوتر الوجود أصلاً بين الإثنيات، وبالطبع ستتفاقم الحساسية للدم والقبيلة والعشيرة بشكل تلقائي، وحينها لم نكن لنتوقع سوى الإنهيار الكامل للبلاد، قبل أن تذهب إلى احتمالات تفتتها، ولو بعد حين، إلى جزيئات صغيرة تتأطر في شكل دويلات قبائليّة متخلفة تحكمها العصبيّة وتتحكم فيها العنصريّة في أعنف تجلياتها وكفى.
ومن أسوأ ما يمكن أن يقع/ينتج بسبب هذه الدعوة، أن لا تستطيع السلطات والحكومة التي ستأتي إلى سدة الحُكم، بلورة فكرة السعى إلى محاربة العنف ومناهضته بكل السُبل، وذلك من خلال أولاً، إحكام السيطرة في عمليّة جمع السلاح وتقنين ما يمكن تقنينه، بل الأسوأ - وهو ليس من السهولة تجنبها أو تحقيقها - العجز عن محاولة تفريغ وإختزال ومحو فكرة العنف وحمل آلياته من الرؤوس بعد أن وجدت حيزها المفاهيميّ في الأمخاخ بدعوة مجانيّة عشوائية ساذجة.
فالسؤال الحرج في هذه الحزئية؛ كيف باستطاعة السلطات الحاكمة القادمة صد وتوقيف ومناهضة واستيعاب احتمالات شروع الكثيرون في صناعة صراعاتٍ عنيفة، واختلاق حروباً تتطور إلى أن تكون حروباً وجودية؛ حروب ان تكون أو لا تكون؟، وكيف بامكانها الحيطة واليقظة عن ظهور مجموعات إرهابيّة محليّة وتتطور سفلياً إلى أن تعيد الاتصال بتنظيمات الإرهاب في الاقليم الافريقي والعربي كالقاعدة وداعش مثلاً، ولطالما لا تعدم البلاد من تجارب تتعلق بهذه الناصيّة؟، وكيف حقاً بقدرتها محاربة تجمعات رعاية العنف وتصديرها والعيش على اساسه بعد ان يكون العنف قد وجد حيزه المفاهيميّ في العقول، بل توّطت وترسّخت عوامل نموها، وتطورت محفزات بقاءها؟.
الخوف كل الخوف ان تسهم هذه الدعوة بشكلٍ او بآخر، في توطين العنف - في بيئة اجتماعية هي خصبة تلازمه نوازع الصراع والصدام والتوتر، بشكل تاريخي تلقائي لاحتضان ورعاية مثل هذه الافكار والمشاريع المجانية السهلة - وترسيخه بحجم أكبر ومستوى أعمق. ذلك لأن أمر مناهضته بعد ذلك، كم سيكون صعباً إن لم يكن مستحيلاً.
وهكذا، فمن أكبر ما يُقلق حقاً، أن يتم استغلال هذه الدعوة "الشعبويّة" المجانية العشوائية في خلق مزيد من العنف والكراهيّة والحساسية الاجتماعية، ومزيد من حدة التوتر والشقاق المجتمعيّ؛ استغلالها في اختلاق المزيد من الصراعات السياسيّة والايدولوجيّة. فالخوف كل الخوف أن يتم استغلالها - أيديولوجياً واجتماعياً - في إنتاج المزيد من المآسي والفجائع والمظالم، ومزيد من المعاناة الإنسانيّة - في هذه الحرب وبسببها على وجه الخصوص - التي وصفتها الأمم المتحدة بأنها "أحد أسرع الأزمات العالميّة نمواً". بل الخوف الأكبر ان يتم استغلالها بشكل انتهازيّ عنيف في صناعة حروباً أهليّة "وجودية" مستقبلاً - كنتاج وبسبب حملات الاصطفاف السياسي والاجتماعي والقبلي والمناطقي والجهوي التي غزت العقول مؤخراً. الحذر الخطير أن تصبح، هذه الدعوة للدفاع عن الحقوق وحماية النفس والعرض والأرض بالبندقيّة، وقوداً إضافياً لإشعال المزيد من نيران الحروب، ومزيداً من العنف والموت المجاني.