تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الجمعة 17 مايو 2024

رأي

مأزق المقدشة: التقسيم الإسرائيلي لغزة على طريقة مقديشو

12 أبريل, 2024
الصورة
Somalia
Once one of Mogadishu's most luxurious hotels, the Al-Uruba lays in ruins after two decades of civil war, 23 October, 2012. Credit: AU-UN IST PHOTO/TOBIN JONES
Share

يتأمل ماثيو جوردون في ملامح الكارثة التي تتكشف من خلال مقارنة بسيطة مختزلة.

 

أنت تعلم أن الوضع الجيوسياسي قد خرج عن السيطرة في اللحظة التي بدأ فيها الناس يستشهدون بالحالة الصومالية.

في الواقع؛ بعد ستة أشهر من القصف غير المسبوق على أيدي الجيش الإسرائيلي - المدجج بتقنيات الذكاء الاصطناعي - فإن غزة التي ظهر فيها وكلاء السلطة المفترسون لملء الفراغ الذي تولد من "تآكل النظام المدني" أصبحت أحدث مسرح يقارنه العاملون المتمرسون في مجال الإغاثة بمقديشو عاصمة الصومال التي مزقتها الحرب، وذلك وفقا لمقال نُشر في صحيفة الغارديان يوم الاثنين. وفي تحذير من انحدار قطاع غزة الوشيك إلى وضع شبيه بــ "مقديشو" ولكن على ساحل البحر الأبيض المتوسط؛ يطلق المراقبون إنذارا قويا بشأن مستوى الانهيار الإنساني الذي يواجهه الفلسطينيون العاديون، مستشهدين بالصور المبتذلة للصومال التي تُظهرها دائما بوصفها "دولة فاشلة".

باعتباري أكاديميا متمرسا أمضى أكثر من عقد من الزمن في استكشاف الطرق المتنوعة - والمبتكرة في كثير من الأحيان - التي استجاب بها الصوماليون لمشكلة "غياب الدولة"؛ فإنه يتعين علي ابتداءً أن أشير إلى أن مثل هذه المقارنات؛ رغم أنها معبرة وربما مفيدة في تحفيز الاستجابة السياسية؛ إلا أنها تقوم بتأبيد تصور استشراقي عقيم ديدنه أن "العجز والسلبية وانعدام الفاعلية" حالات متأصلة في بعض البلدان والشعوب. علاوة على ذلك؛ فإن مثل هذه المقارنات المختزلة - كحال جميع أشكال السرد السياسي الذي يقتبس أسلوب الميمات - تفشل في توخي الإنصاف سواء للنموذج الأصلي (في هذه الحالة مقديشو) أو للموضوع الذي يتم إلقاء الضوء عليه (الكارثة التي تتكشف في غزة)، وغالبا ما تتجاهل اختلافات سياسية مهمة لا بد من أخذها بعين الاعتبار لفهم سياقات متباينة.

ومع ذلك؛ فإن النقطة التي أسعى إلى توضيحها هنا تتجاوز الدعوة المتحذلقة إلى الشمول الأكاديمي أو المناشدة الأخلاقية لاحترام كرامة جميع الشعوب - مع إقراري بنبل وسمو ما سبق ذكره - وتوجه النظر بدلا من ذلك إلى مزلق فكري يتجلى تحديدا في الخلط بين مقديشو وغزة أثناء محاولة وصف ما يحدث فيهما، ليس لوجود مغالاة في وصف ما يجري - فمقديشو في الواقع هي مكان خطير يصعب العيش فيه، وتفتيت غزة إلى مناطق تحرسها ميليشيات مسلحة تمارس الابتزاز يذكرنا بالتأكيد بالعاصمة الصومالية في أسوأ حالاتها - ولكن لأن هذا الخلط يحجب الأسباب السياسية المختلفة تماما والتي أسفرت عن هذه النتائج السياسية المتشابهة إلى حد ما. ولإثبات ذلك؛ يتعين علينا أن نعرِّج بشكل موجز على التاريخ الصومالي.

بدأت الصومال - التي كانت من أقوى دول ما بعد الاستعمار في أفريقيا - في التفكك مع اقتراب الحرب الباردة من نهايتها في الثمانينيات، وكانت التجربة الفاشلة مع "الاشتراكية العلمية" (الاقتصاد الموجه المركزي بصيغته الأولية) والحرب المكلفة مع الجارة إثيوبيا سببا في ركود البلاد اقتصاديا وسياسيا. كان اعتماد الصومال على رعاية القوى العظمى يتضاءل مع تراجع اهتمام كل من أمريكا والاتحاد السوفييتي بهذا البلد، مما ترك الدكتاتورية العسكرية فيها تلجأ بشكل متزايد إلى المحسوبية والقمع السياسي لشراء ولاء العشائر ومعاقبة أولئك الذين قاوموها.

أثبتت تكتيكات "فرق تسد" أنها قصيرة النظر حيث أدَّت في نهاية المطاف إلى تمرد مسلح واسع النطاق اجتاح البلاد، وبحلول عام 1991؛ تم عزل القيادة وأصبحت مقديشو ساحة معركة تتنافس فيها الميليشيات المتناحرة على مقر السلطة الوطنية دون جدوى. ولم يُسفر التدخل الإنساني من جانب الولايات المتحدة والتحالف المفوض من الأمم المتحدة إلا إلى تفاقم الاضطرابات، إذ استغل العديد من "أمراء الحرب" القتال وتدفق المساعدات لترسيخ أنفسهم كوكلاء سلطة ووسطاء سياسيين رئيسين.

حتى يومنا هذا، لا يزال الاقتصاد السياسي في المنطقة مؤسسا في الغالب على النهب والاستغلال الذي يعززه العنف، وإن كان بدرجة أقل خطورة بكثير من تلك الفترة المبكرة الفوضوية الشنيعة. وتستمر مثل هذه الظروف في إنتاج حالات نكبات إنسانية متكررة، والمجاعة، والتطرف المسلح، وذلك رغم الاستقرار الكبير لمناطق صومالية أخرى أبعد من مقديشو؛ مثل صوماليلاند وبونتلاند.

بالانتقال إلى غزة؛ تجدر الإشارة أولا إلى أنه على الرغم من كآبة القصة المذكورة أعلاه فإن الرعب الذي يواجهه الفلسطينيون حاليا هو في بعض النواحي أسوأ بكثير. في الواقع؛ وكما أوضح الخبير في الشؤون الإنسانية والصراع والسلام أليكس دي وال؛ فإن "غزة هي بالفعل كارثة المجاعة الأشد فظاعة في العقود الأخيرة"، والفشل في إجراء تغييرات جذرية في الطريقة التي تحكم بها إسرائيل المنطقة سيؤدي إلى مجاعة مرتبطة بالوفيات والمحن التي تتضاءل أمامها حتى الأحداث الكارثية التي وقعت في الصومال عام 2011 والتي تُعتبر "أسوأ مجاعة حسب سجلات [لجنة رصد المجاعات]". وفي حين أدت الحلقات المتقطعة من الصراع العنيف إلى تعرض المشهد الحضري ذائع الصيت في مقديشو لدمار شديد على مدار العقود الماضية؛ فقد شهدت غزة تضرر أو تدمير 63% من المنازل و84% من المرافق الصحية في جميع أنحاء أراضيها الأكبر بكثير من مقديشو في غضون أشهر فقط. إن سرعة وشدة ما حدث في غزة من تجويع وإبادة هي السبب وراء تصنيف أليكس دي وال لأفعال إسرائيل على أنها "حملة لتدمير كل ما هو ضروري لاستمرار الحياة".

في ضوء ذلك؛ فإن الجهود الغريبة التي يبذلها بعض المدافعين "الواقعيين" و"ذوي الرؤية الواضحة" عن إسرائيل للتقليل من أهمية قتل المدنيين وتجويعهم من خلال مرثيات تندب بأن "الحرب جحيم" وأن عدد القتلى المدنيين "لا مفر منه" هي مساعي خبيثة وماكرة على وجه التحديد: إن ما نشهده يتجاوز بكثير مسائل استراتيجية الحرب والانتهازية الاقتصادية وسياسات القوة، لقد دخلنا عالم الثورة العقائدية والقسوة العدمية والإبادة الجماعية.

يفشل القياس بمقديشو حين نلفت النظر إلى حقيقة أن الانهيار الشامل للنظام الاجتماعي القائم لم يكن محتوما لكنه جاء بمثابة تتويج لعاصفة متصاعدة من التطورات السياسية، هنا أصبحت المطالب السياسية بالتغيير أكبر من قدرة النظام المتصلب واللامبالي على التعامل معها، مما أدى إلى انهياره تحت وطأة إخفاقاته في الحكم بصورة أطلقت العنان لقوى سياسية متهورة كانت مقموعة منذ ذلك الحين. وعلى صعيد آخر؛ فإن ما نراه يحدث الآن في غزة - رغم أنه يحمل بالمثل أمراضا سياسية لم يتم حلها - ليس انفجارا داخليا ناجما عن تناقضات داخلية، بل قوة مدمرة فُرضت عليها بشكل مقصود من الخارج.

وإذا ناقشنا هذه المسألة في إطار أوسع؛ فيمكن القول أنه على الرغم من أن الحرب الأهلية في الصومال اندلعت عندما تم احتكار الصراع السياسي بشكل غير متوقع من قبل جهات فاعلة سخرت الصراع لتحقيق مصلحة ذاتية (أمراء الحرب والميليشيات العشائرية) فإن ما تُلحقه إسرائيل بغزة هو محاولة متعمدة لاجتثاث "الصراع السياسي" بشكل كامل. ويمثل هذا تطورا في استراتيجية إسرائيل لتخريب حركة التحرير الفلسطينية والتي كانت في السابق تشتمل على تقسيم السكان بين منظمات سياسية متعددة ومتنافسة في غزة والضفة الغربية (إلى درجة دعم حماس بنشاط)، بينما أصبحت حاليا تعمل بنشاط على خلق حالة معيشية فوضوية غير مسيسة يكافح أفرادها من أجل البقاء حيث - على غرار مقديشو - يستغل خليط من الجهات الفاعلة المسلحة الفوضى بدلا من السعي إلى تحول سياسي وفق إرادة جماعية. من هنا جاء طموح إدارة نتنياهو المعلن في استبدال حماس المهزومة بمجموعة منتقاة بعناية من "العوائل غير المسيسة ذات المكانة بين العشائر"، وهي استراتيجية تفوح منها رائحة الحكم غير المباشر في الحقبة الاستعمارية (بما في ذلك صوماليلاند التي كانت تحت الإدارة البريطانية).

في حين أن مقديشو الحالية كانت حدثا طارئا في التاريخ، فإن غزة - لو استحضرنا مقديشو - تتعامل مع الأصل باعتباره مخططا أوليا. ومع وضع كل هذا في الحسبان، ما الذي يمكن أن يعلمنا إياه مسار الصومال بعد الانهيار بشأن مستقبل غزة؟ بالنسبة لي فإن الخلاصة الرئيسة هي أنه إذا تمكنت إسرائيل بالفعل من تحقيق مرادها، واستطاعت تقسيم سكان غزة إلى مناطق غير قابلة للحكم (سواء داخل فلسطين أو خارجها)، فإن العالم سوف يكون في وضع أسوأ بالنسبة لها. ولا يرجع هذا ببساطة إلى الخسائر التي ستلحقها بالفلسطينيين ــ وهو سبب يكفي لبذل كل ما في وسعنا لمقاومة الحملة العسكرية الإسرائيلية والضغط من أجل وقف إطلاق النار ــ بل بالقدر نفسه من أجل مستقبل السلام والأمن العالميين. ففي حين أن السياسة، على الرغم من كونها قابلة للفساد والانحطاط، فإنها توفر على الأقل إمكانية الأمل في مستقبل أفضل. العدمية بوصفها مناهضة للسياسة ومدمرة للقيمة ومجردة من الإنسانية لن تؤدي إلا إلى توليد الرعب والفساد.

في الواقع؛ مثلما أدت المبادرات الإنسانية الدولية المختلفة ووساطات بناء الدولة في مقديشو إلى خنق البدائل السياسية الحقيقية، وبالتالي ترك الجماعات المتطرفة مثل حركة الشباب وتنظيم الدولة الإسلامية تملأ الفراغ بمشاريعها العدمية، فمن المتوقع أيضا أن كل ما سيظهر من أنقاض غزة سيكون بنفس القدر من الوحشية، إن لم يكن أكثر.