تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الجمعة 17 مايو 2024

كتب

"جدلية المركز والهامش - قراءة جديدة في دفاتر الصراع في السودان" لأبكر آدم إسماعيل

20 مارس, 2024
الصورة
sudan
Share

يعتبر مخطوط كتاب "جدلية المركز والهامش –قراءة جديدة في دفاتر الصراع في السودان" لصاحبه أبكر آدم إسماعيل من بين أهم النصوص التي تم تدولها بشكل كبير في الشارع السوداني والعربي، قبل أن تتحول إلى كتاب، هذا المخطوط تمت كتابته سنة 1999، حينما كان الكاتب لا يزال طالبا، ويمكن اعتبار هذا النص بداية مشروع فكري. يحظى هذا النص بأهمية كبرى لاعتبار أساسي هو الندرة في الكتابات التي تدرس الهامش، وتفكك الجدلية القائمة بين المركز والهامش في الحالة السودانية، لذلك فمساهمة آدم إسماعيل، كما يقول جعفر طه "هي وحدة من المساهمات في كتابة التاريخ، أو مساهمة نقدية متجاوزة وفي الحالتين لها قيمتها العالية حيث تعاني الكتابات السودانية في هذا الجانب نوعيا"[1]

 

المقاربة المنهجية لجدلية المركز والهامش

قام الكاتب بإجراء منهجي بالانطلاق من الثقافة (الثقافة بمعناها الأنثروبولوجي ) كشمول، وقد نظر إلى الثقافة من زاوية محدداتها (الأسرية والتربوية والدينية والأخلاقية والجمالية واللغوية والاقتصادية والقانونية والسياسية) باعتبارها المتحول، الثابت –بالمعنى النسبي الإجرائي-، وهذا ما تقوم عليه التراتبية الاجتماعية.

كما أن كل دائرة من الدوائر التي تشكل البنية التراتبية تثوي في داخلها على عدة فئات، فالمركز ويتشكل من الحكام والوزراء والنبلاء أو الأرستقراطية، وما يرتبط بهم من زعامات رجال الدين. ويتشكل هامش المركز من التكنوقراط والتجار ورجال الدين أو الحرس الأيديولوجي. فيما يضم الهامش العامة (الرعاع)؛ أي الجماهير الشعبية... 

 

ميكانيزمات الصراع في جدلية المركز والهامش

تحليل آدم اسماعيل للصراع في السودان في المرحلة الممتدة من الاحتلال المصري العثماني 1821 إلى قيام الدولة المهدية عام 1885، يقوم على منهج جدلي (ديالكتيك) بين المركز والهامش، الذي يرتكز على العديد من الميكانيزمات من جانب المركز ومن جانب الهامش. بالنسبة للميكانيزمات من جانب المركز هي كالآتي:

  • ميكانيزم إعادة الإنتاج: هو عملية استيعاب الكيانات الأخرى، وترتيبها بمعايير ثقافة المركز، حيث تتحول المحددات الثقافية إلى أسلحة أيديولوجية، تُفرض باستغلال أدوات السلطة، ومن ثم الهيمنة والقهر الثقافي، وانعكاس ذلك اقتصاديا في اختلال ميزان فرص العيش، واجتماعياً في التماييز والتراتبية الاجتماعية القائمة على الفوقية والاستعلاء (الدونية الاجتماعية).

  • ميكانيزم الترميز التضليلي: هو عملية استيعاب بعض الزعماء وبعض الأفراد المتفوقين في الهامش، وإشراكهم في بعض المواقع في المركز، وتسليط الضوء عليهم لإعطاء انطباع مزيف عن المشاركة، مقابل منحهم امتيازات فردية وأسرية، وتغييب القاعدة الاجتماعية/ الثقافية، من جانب اخر ادخال بعض العناصر من محددات الثقافات الأخرى مثل الآداب والفنون في المناسبات الوطنية، وفي الخطاب الرسمي للمركز، لإعطاء انطباع بالمشاركة لإخفاء حقيقة القهر الثقافي.

  • ميكانيزم الاستقطاب والقمع: في حالة استشعار كيان ما لذاته، ورفض المعايير وتجلياتها في الواقع، فإن المركز يقوم بالقمع المعنوي من خلال الأيديولوجية، والقمع المادي من خلال استعمال الجيش والشرطة. 

أما المكانيزمات من جانب الهامش فهي كالتالي:

  • المقاومة السلبية: وذلك بالتحايل على المعايير التي تفرضها السلطة والتذمر والتعبير عن الضيق، عبر المأثورات الشعبية والآداب والفنون أو بالدعاء.

  • المحافظة: هي عملية استشعار الذات في حلبة الصراع، والإحساس بالظلم والسعي للحفاظ على كيان الجماعة الثقافي ببعض الوسائل مثل الروابط الاجتماعية.

  • التنظيم: وهو عملية تكوين التنظيمات ذات الصفة السياسية بسبب الوعي بالظلم وبواقع الصراع، وذلك للمطالبة بتحسين الأوضاع أو المطالبة ببعض الحقوق، وفي المراحل المتقدمة تشكيل التحالفات للضغط على المركز ومحاولة تحجيمه إلى حدوده الطبيعية.

  • الحرب الأهلية: تبدأ غالبا من قبل الكيانات الأكثر تناقضا مع المركز. 

  • الثورة: هي درجة عليا من الوعي بالوجود والمصير الذي يؤدي إلى فعل تاريخي، تشترك فيه أغلب الكيانات الممثلة للشعب لهدم الجدلية كلها، بغية تأسيس جديد للأوضاع، وفق جدلية أخرى، بمعايير مختلفة وشكل آخر. 

 

بنية الصراع في السودان (الثابت والمتحول في الدولة السودانية منذ عام 1821) 

منذ تأسيس الدولة المركزية، ظل هذا الشكل ثابتا في الواقع والوعي، بالرغم من تغيير أنماط الحكم، ووسائل السعي للاستقلال عن هذا الشكل أو محاولات احتلال المواقع داخله. ثم إن الثقافة العربية الإسلامية هي التي ظلت تحتل المركز، في مقابل الهامش الذي ظلت تحتله الثقافات السودانية الأخرى.

وظل الجلابة هم الممثل الرسمي للثقافة العربية الإسلامية، حيث أصبح لهم عمق اجتماعي واقتصادي وسياسي ( الجلابة : هم تلك الفئة من التجار التي نشأت مع بداية الحكم التركي المصري، من أفراد ومجموعات من أبناء القبائل العربية في وسط وشمال السودان، وبعض أفراد النوبيين من شمال السودان المستعرب). كما أن التطور اللامتكافئ كان سمة ملازمة للمجتمع السوداني في ظل الاحتلال التركي – المصري (1821-1885).

 

إعادة بناء الواقع بشكل عام في السودان

بعد الاحتلال المصري – العثماني سنة 1921، تم إعادة بناء واقع جديد في السودان، يتناسب مع المصالح الاقتصادية والسياسية للمستعمر. لذا قام المستعمر بتكريس واقع اجتماعي وسياسي واقتصادي لهذا الجزء الجغرافي الذي سوف يسمى فيما بعد السودان، فالكل يعلم أن السودان تاريخيا لم تكن وحدة سياسية متجانسة، بل مجموعة من المماليك والقبائل المتفرقة. لكن الاستعمار أعاد بناء الواقع السوداني بشكل يخدم أهدافه، وهكذا فقد أصبحت البنية التراتبية للسودان كالأتي:

  • المركز: تحتله قيمة الهرم الاجتماعي للكيانات العربية الإسلامية، وبعض زعماء القبائل غير العربية في شمال السودان.

  • هامش المركز: يشكله (الأهالي) من الكيانات الإسلاموعربية، بالإضافة للكيانات التي تشكل حقل الثقافة السودانية المختلطة، والذين يمثل وضعهم الموالي في الدولة الإسلامية؛ مثل القبائل النوبية في شمال السودان، وقبائل البيجا في الشرق السوداني.

  • الهامش: تحتله الكيانات التي تشكل حقل الثقافة السودانية الأصيلة، وهي القبائل الزنجية التي كانت بمثابة الهدف لعملية النهب التي يقوم بها تحالف الهمباتتة، حيث يعتبر الإنسان داخل هذا الحقل نوعا من الثروة مثله مثل الحيوان والسلع والمحاصيل. 

 لقد أفضت التناقضات الهيكلية التي أفرزها الواقع الجديد (الممتد من 1821 إلى 1885) إلى تطور الوعي بالدولة، لدى المكونات التي شكلت الدولة الوطنية السودانية فيما بعد، ونتج عن ذلك انشراخ تحالف الهمباتة الذي كان يركز الثروة والسلطة في يد كبار الجلابة.

خاتمة

بعد تقديم هذه الصورة البرونامية لأهم الأفكار التي جاءت في كتاب "جدلية المركز والهامش – قراءة جديدة في دفاتر الصراع في السودان"، يمكن القول إن آدم اسماعيل استطاع أن يساهم في خلق تيار جديد يهتم بقضايا الهامش، فقد جعل من كتابه هذا وروايته "الطريق إلى المدن المستحيلة"، مرافعة فكرية وأدبية عن المهمشين في القرى والمداشر والمدن في الأطراف. بذلك يكون المشروع الفكري لآدم إسماعيل بالأساس مشروعا للمقاومة والنضال، في أفق إعادة بناء واقع جديد في السودان.

لكن الكاتب وقع في فخ منهجي وهو الحشو، فقد كان بإمكانه ألا يذكر العديد من الأمور النظرية التي في اعتقادي لا فائدة منها، فالقارئ السوداني أو العربي ما يهمه هو كيف قام بمعالجة واقع الصراع في السودان، من خلال منهج جدلية المركز والهامش، فمثلا، حينما يتحدث عن الليبرالية والماركسية والثقافة العربية الإسلامية... إلخ، يجعل القارئ يتيه عن الموضوع الأساسي. لذلك كان عليه أن يخصص مدخل مفاهيمي لا يتجاوز بضع صفحات، وليس أكثر من ثلث الكتاب، للحديث عن المفاهيم المحورية في البحث. كما أن الكاتب اعتمد فقط على نصوص كتاب محمد سعيد القدال الموسوم ب"تاريخ السودان الحديث 1821-1955م"، وفي اعتقادي أن السبب في الاختيار هو الانتماء الإيديولوجي للكاتب، فهو يعتمد على المادية الجدلية في تحليله وهو نفس المنهج الذي حلل به محمد سعيد القدال، هذا ما يطرح علامة استفهام حول موضوعية الكاتب.

تظل أطروحة آدم إسماعيل رغم كل الانتقادات أطروحة مركزية، لمن يبحث في القضايا الهوياتية، ويمكن إسقاط المنهج الذي حلل به الوضع في السودان على العديد من المناطق في الوطن العربي، وخصوصا منطقة المغرب الكبير، فبنية هذه المناطق تشبه إلى حد ما بنية السودان.


 

[1] من مقدمة الكتاب، ص 5.