تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الجمعة 17 مايو 2024

سياسة

جنوب السودان: التحرير من المُحرِّرين

29 مارس, 2024
الصورة
Salva
South Sudan's president Salva Kiir Mayardit, October 25th 2017. (Albert Gonzalez Farran/AFP via Getty Images)
Share

كافح سكان جنوب السودان بمرارة من أجل الاستقلال من السودان، إلا أن فشل القيادة والانقسامات الإثنية قوّضت محاولات تشكيل وطنٍ لأصغر دولة في أفريقيا.

من الشائع سماع مواطني جنوب السودان وهم يرثون تاريخ صراعهم من أجل الاستقلال، تارةً في الأغاني التي كانت تُغنَّى للاحتفاء ببطولتهم ورفع الروح المعنوية قبل المعارك، وأخرى في التحدث باعتزاز عن الكتائب العسكرية الي كان لها أسماء حيوانات في لغة الدينكا، مثل التمساح والجاموس ونمل النار. كانت ثمة أيضًا ذكريات شخصية عن الفترات الصعبة والاختبارية، أوعن تواريخ الاستغلال والأذى من حكومات الخرطوم. يتحدث آخرون عن المعارك التي فقدوا فيها أطرافهم، حيث نجوا من الموت. ويحتفظ البعض بسجلات الوقائع المميتة من المجاعات التي سببتها الحروب في 1988 و1998 و2002 التي هلك فيها مئات الآلاف من السكان في مناطق بحر الغزال وأعالي النيل. كانت هجمات الجيش السوداني الجوية، باستخدام القاذفات روسية الصنع، من الارتفاعات العالية أحداثًا مروعةً بشكل خاص، لا تفارق الذاكرة البتة بعد معاينتها. لا تفارق الذاكرة الجمعية أيضًا وقائع طائرات الهيليكوبتر الحربية وهي تطلق الصواريخ على حشود الجوعى اليائسين وهم يتلقون العون الإنساني من مواقع الأمم المتحدة لتوزيع الأغذية، والتي كانت شائعة والأكثر خطورة وفتكًا. فقد حدثت واقعة مماثلة في قرية بييه[1] في غرب أعالي النيل، في 21 فبراير من عام 2002، حيث كان الهدف حشودًا كبيرةً من الأجساد الهزيلة، هلكت العشرات منها فورًا، ولم تُمحَ من ذاكرة من شهدوا الحدث.

بحلول الاستقلال في 2011، كان السرور حول تلك اللحظة متجذّر في إنهاء الصراع الطويل الدموي من أجل تقرير المصير وترقب تغيّر حياتهم للأفضل. لكن واجهت الدولة كل ما تواجهه دومًا الدول بعد النزاعات طويلة الأمد: الحاجة إلى بناء بنية تحتية والانتقال السياسي وإعادة بناء الاقتصاد وتوفير الأمن ومساعدة العائدين من اللاجئين، وضمان العدالة الانتقالية وتضميد الجراح التي خلفتها الحرب على العلاقات بين المجتمعات المختلفة. فشل جنوب السودان فشلًا ذريعًا، بعد قرابة 20 سنة من الاستقلال، في أيٍّ من هذه المساعي، ما جعل الأمن والسلام بعيديْ المنال والعنف المجتمعي حدثًا مستمرًا بصورة يومية في جميع أرجاء البلاد.

            لا تزال جنوب السودان غارقة في صراعات بين الحكومة والمجموعات المسلحة المعارضة، ما يستنزف الموارد ويخنق الاقتصاد ويدمر المعاش ويواصل تهجير السكان، الأمر الذي أخمد نشوة الاستقلال. تتجذر هذه الحروب الطويلة في الأخطاء السياسية التي ارتكبها المحررون إبان حربهم الكبرى ضد السودان والتي تسبب فيها سكان جنوب السودان في معاناة لا توصف بحق بعضهم البعض، غالبًا من خلال الاقتتال بين فصائل مقاتلي التحرير انطلاقًا من أسس إثنية وخلافات سياسية عنيفة. أصبحت روايات النزوح واللجوء، إلى شمال السودان وإثيوبيا وكينيا ويوغندا، التي امتدت لثلاثة عقود مادة للعديد من التقارير الصحفية والكتب التي تُدمي القلوب، والتي كُتبت بعضها من قبل الناجين أنفسهم. بسبب كل ذلك، أضحى النسيج الاجتماعي اليوم في جنوب السودان، ومشهده الثقافي وسرديته التاريخية، قصة صمود بشري وجشع وانتكاسات عسكرية وأهداف تحرّرية ملتبسة وتصورات ضبابية للمستقبل وقدرة على العنف، حتي بالتزامن مع بحث الأفراد عن السلام والبكاء من أجله. 

عند الاستقلال، ربما يكون الكفاح من أجل الحرية قد حقق هدفه الأساسي_ امتلاك دولة ذات سيادة_ إلا أن هذا التاريخ قد طبع جراحًا واضحة على أجساد المقاتلين والمدنيين العاديين على حد سواء. فحين يمشى الجرحى من قدامى المحاربين في الشوارع للاحتفال بالتواريخ المهمة، يمكن لمحض أعدادهم وما لديهم من حس الصمود أن يثير المشاعر. يبدو أن الأمر قد خلّف أيضًا عبئًا هائلًا على عاتق المواطنيين فيما يخص المعاش المدمَّر والصدمة وفقدان رأس المال الاجتماعي، وعلى عاتق الضمير الجمعي فيما يخص مسؤولية تحويل هذه الدولة الوليدة إلى مجتمع مستقر ومتّحد ومزدهر ومفتوح، المجتمع الذي تطلعت إليه أجيال من سكان جنوب السودان.

ثمة طرقٌ أصبح بها تاريخ التحُّرر قطرسًا حول عنق البلاد. فالآن، يتقاتل مواطنو جنوب السودان بسبب هذا التاريخ، أو يتناقشون عنه باستمرار في المنتديات، من خلال الأغاني والروايات الشفاهية أوالكلام المكتوب، والذي يمكن أن يكون شاعريًّا ورائعًا، لأنها طريقتهم في التصالح مع عبء الذاكرة أو التخلص منه. لكن يكمن السؤال فيما إذا كان النقاش حول ذلك سيخفف العبء أم سيعمق الجراح.

لقد كنت أُجري بحثًا في العلوم الاجتماعية لعدة سنين في جنوب السودان واستفسرت دومًا من الذين حاورتهم عن سبب تشبثهم الشديد بقصص الماضي هذه. أخبروني في الغالب بالكليشيه المعتاد أن على المرء تذكّر التاريخ لمعرفة الأخطاء المرتكبة، حتى لا تتكرر. إنهم يتحدثون عن التاريخ باعتباره جزءًا من تأسيس الوطن، متأملين في التكلفة التي تكبدوها لتحقيقه، وهو بالتأكيد ثمنٌ باهظٌ ينبغي أن يذكّر القادة بما عاناه مواطنو هذا البلد، ولمَ هم في حاجة إلى رؤية عوائد ملموسة للتحرير متمثلة في الخدمات والفوائد العامة، بجانب التوزيع العادل للموارد الوطنية.

تحمل سكان جنوب السودان لعقود التهميش والقمع والعنف المُمارس من قبل الحكومة السودانية في الخرطوم. وبذلك، أصبحت كلمات مثل الإنصاف والوحدة والأمن والكرامة الإنسانية وجودة التعليم والرعاية الصحية والانتاج الغذائي والبنية التحتية والاستقرار على لسان مواطنى جنوب السودان أثناء الاستقلال. كان ذلك الحد الأدنى الأساسي المتوقع مما يستحقونه لما اعتبروه إسهامهم في تحرير البلاد.

لكن، تسللت قوة جديدة وجبارة ضد التقدم إلى الواجهة، وهي أن المحررون تولّد لديهم حس استحقاق بالوظائف الحكومية والموارد العامة، زاعمين أنهم قدموا أكبر التضحيات في سبيل تحرير البلاد وقد حان الوقت لمكافأتهم. وكما قال وليام بليك في قصيدته "الراهب الرمادي"[2] ، "سُحِقت رأس الطاغية بيدٍ من حديد، وأصبحت بدورها الطاغية، من جديد."[3] تجسد ذلك في اختلاس الموارد العامة والضروب الأخري من سوء المعاملة، من ضمنها العقود المزورة، وجدول الرواتب الحكومية المتضخم، بجانب مطالبات العلاج الخارجي المتضخمة وتحويل الأموال إلى الدول الأجنبية. فقد وجد تقرير لبعثة أممية أن "مبلغًا هائلًا بقيمة 33 مليون دولار" سُرق منذ 2016. وحذرت رئيسة البعثة، ياسمين سوكا، "بأنه من المهم ملاحظة أن ذلك ما كان بوسعهم تتبعه، وقد لا يعكس الصورة الكاملة."

تجلى ذلك سريعًا في الفوارق الاقتصادية بين المحرِّرين ذوي المكانة الجيدة والمواطنين العاديين، ما ولّد بدوره ارتباط شنيع بين الفساد والنزاع. يُعد مواطني جنوب السودان أناسًا بلا هموم ولا يتسامحون مع القمع، ويتندرون الآن بأن البلاد بحاجة إلى تحرير من المحرِّرين.

كنت في جوبا، عاصمة جنوب السودان، في اليوم الذي أُعلنت فيه نتيجة الاستفتاء، في يناير من عام 2011، والتي أظهرت أن التصويت كان لصالح الانفصال من السودان بنسبة 98%، كما كنت هناك كذلك عند الاستقلال في التاسع من يوليو، 2011. كانت الاحتفالات، في كلتا المناسبتين، عارمة في كافة أنحاء المدينة. كانت الشعارات من قبيل "سيولد جنوب السودان خلال ستة أشهر" و"بعد طول انتظار، نحن أحرار" و"وداعًا السودان" تُزيّن دوّارات المدينة وأركانها. عادت المدينة التي كانت تأوي أكثر من نصف مليون من السكان، أغلبهم من فقراء اللاجئين العائدين، إلى الحياة. لم يكن ثمة قط حدثٌ جمع سكان جنوب السودان على هذا النحو في كامل تاريخهم المكتوب. فقد كان هنالك تعبير عن حس عميق بالوحدة، وسرور واضح ووعد قوي بأن جنوب السودان سيصبح قصة ازدهار، نظرًا لوفرة مواردهم. لكن رغم هذه الوحدة الظاهرة، كانت حقيقة أن البلاد موطنٌ لطيف متنوع من المجموعات الإثنية، التي تتنافس كلٌّ منها على السلطة والموارد والنفوذ، تعني وجود انقاسامات إثنية متجذرة في عمق المجتمع تغلي تحت السطح.

 أثقل ذلك كاهل البلاد وسرعان ما انزلقت إلى حربٍ مساء 15 ديسمبر، بعد أكثر من عامٍ بقليل من الاستقلال. رغم اشتعال النزاع بسبب التنافس السياسي بين الرئيس سلفاكير ونائب الرئيس رياك مشار، ألا أنه اتخذ طابعًا إثنيًّا. فقد ألّب النزاع أكبر مجموعاتان إثنيتان في البلاد، الدينكا والنوير، بعضهما على بعض، ما تحوّل إلى حرب أهلية شاملة على أسس عرقية، اتّسمت بالعنف والفظائع على نطاق واسع، بجانب تهجير ملايين من السكان. كان العالم أجمع في صدمة، ولم يتفاجأ الفطنون من جنوب السودان بذلك، إلا أنهم كانوا في صدمة أيضًا من حجم تلك الحرب ووحشيتها. واجهت المساعي الدولية والإقليمية للتوسط من أجل السلام عقباتٍ، وأضحت البلاد غارقةً في دائرة من العنف وعدم الاستقرار. تُعتبر تبعات هذه الحرب ربما أكثر التحديات المدمرة التي تواجه جنوب السودان اليوم. ظلّ كلٌّ من أطرافها والخصوم السياسيين الذين أشعلو فتيلها يصفونها "بالحرب العبثية"، حربٌ كانت جذور أسبابها لغزًا حتى بالنسبة لمن شاركوا فيها. تساءل الجميع تقريبًا عن الكيفية والسبب الذي دفع بلدًا تشكَّل بعد قصة مأساوية لصراع طويل الأمد من أجل التحرُّر من عدوهائل، والذي كانت كُلفته تضحيات جسيمة في الأرواح البشرية والموارد المادية، إلى السقوط على نحو سريع ومذهل.

كان الجواب مبثوث في الطريق الطويل إلى إقامة الدولة، وفي التركيبة الإثنية لدولة جنوب السودان، وفي سلوكيات القادة الأفراد الذين ناصروا مساعي التحرير، والذين تولوا دفة السلطة حين انتهت الحرب. يكمن جزءٌ من الجواب كذلك في هفوات الاستشراف إبان حقبة التحرير، من فشلٍ في اعتبار التكوين الإثني خطرًا محتملًا، وعدم التفكّر في مدى استمرارية الوحدة السياسية أثناء الحرب بعد الاستقلال. كوفِح في سبيل التحرير دون أي وضوح أو نقاش عمّا سيجعل من جنوب السودان وطنًا، بعيدًا عن إقامة الدولة، بمجرد استقلالها.

كان أغلب من ساهموا في جهود التحرير أكثر انشغالًا بإحساس المظلومية تجاه شمال السودان. فقد شعروا بأنهم كانوا ضحايا استغلال أجنبي منذ تجارة الرقيق، وأرداوا تصحيح ذلك. وبدا قادة التحرير أقل اهتمامًا بما من شأنه أن يجمع المجتمعات الإثنية المتباينة حتى يتشكل وطن متحد.

كان الانفجار الداخلي الكبير في جنوب السودان نتاجًا مباشرًا لهذا الواقع السياسي: أن جنوب السودان أصبحت بلدًا، وليست وطنًا. وبالنظر إلى الالتفاف القوي حول الانفصال، اعتبر القادة الوحدة أمرًا مفروغًا منه ولم يكن ثمة استثمار لوضع برامج تعزز حس المواطنة الجماعية لدي السكان في الدولة القومية، وفي القوميات الإثنية بدرجة أقل. لكن فشل جنوب السودان وعدم استقراراها هو اقتصادي كذلك. فقد حوّل الاقتصاد، الذي يعتمد على عائدات النفط بدرجة كبيرة، القائمين على التحرير إلى نظام كليبتوقراطي استحوذ على الدولة ولا يملك أي تصور عن كيفية تسخير موارد البلاد من أجل رفاه الشعب. فقد فشلت القيادة السياس-عسكرية بالفعل في حكم البلاد وتلبية احتياجات المواطنين لأنها افتقرت إلى السياسات المتماسكة والقدرة المؤسسية.

في الختام، تُعد رحلة جنوب السودان من نشوة الاستقلال إلى الدولة الفاشلة قصة تحذيرية عن تعقيدات وتحديات بناء دولة. فرغم التفاؤل الأولي، تآمرت الانقسامات الداخلية المتجذرة ومشاحنات القادة والفساد والنزاع الطويل على إجهاض تطلعات البلاد نحو السلام والتنمية. لا يزال طريق الاستقرار والازدهار، أثناء مصارعة جنوب السودان للتحديات التي لا حصر لها، بعيد المنال، الأمر الذي يؤكد الحاجة إلى الحوار من أجل معالجة جذور الأزمة. فالأسس التي بُنِيَ عليها البلد الجديد سطحية، مظهر خارجي وحسب.

 


 

[1] Bieh

[2] The Grey Monk

[3] “The iron hand crush’d the tyrant's head, and became a Tyrant in his stead.” 

 

ترجمة: عبدالحفيظ محمد