السبت 15 مارس 2025
تُعد مدينة زيلع واحدة من أقدم المدن التاريخية في شرق أفريقيا، وواجهة حضارية عريقة تمتد جذورها إلى آلاف السنين. تقع زيلع على الساحل الشمالي الغربي للصومال (صوماليلاند)، على ضفاف خليج عدن، حيث كان موقعها الاستراتيجي نقطة التقاء للتجارة والثقافة بين أفريقيا وشبه الجزيرة العربية وآسيا. اشتهرت زيلع كميناءٍ حيوي ومركز تجاري مزدهر، مما جعلها محطة رئيسية على طرق التجارة القديمة، وحاضرة مؤثرة في نشر الإسلام والثقافة العربية في القرن الأفريقي.
تشير المصادر التاريخية إلى أن زيلع كانت مركزاً تجارياً مهماً منذ العصور الفرعونية، حيث صدّرت منتجات مثل اللبان والعاج إلى مصر القديمة. كما ورد ذكرها في الكتابات اليونانية والرومانية بمينائها المزدهر، المعروف بتجارته في البخور والأخشاب الثمينة. أصبحت زيلع خلال العصور الإسلامية واحدة من أهم الموانئ في العالم الإسلامي، إذ كانت نقطة انطلاق الدعوة الإسلامية إلى المناطق الداخلية في أفريقيا، إلى جانب كونها مركزاً لتبادل السلع مثل: الذهب والبخور والعبيد والملح والجِمال والكثير من البضائع.
لم تكن زيلع مجرد ميناء تجاري، بل مثلت أيضاً مركزاً ثقافياً ودينياً. لعبت دوراً محورياً في نشر الإسلام في شرق أفريقيا، وأصبحت قاعدة للحضارة الإسلامية التي امتزجت مع الثقافات المحلية، مما أسهم في تشكيل هوية المنطقة.
كان للعلماء والدعاة الزيالعة دور كبير في ترسيخ مكانتها باعتبارها مركزا فكريا وعلميا. وازدهرت المدينة كواحدة من أقدم المراكز الإسلامية في المنطقة، حيث أسهمت هذه المكانة الروحية في تعزيز الروابط بينها وبين العالم الإسلامي، إذ استقبلت المدينة العديد من العلماء والطلاب القادمين من مناطق مختلفة للدراسة والتعلم، ما ساهم في تعزيز دورها كمركز ثقافي وتعليمي هام.
أما على المستوى السياسي، فقد كانت مدينة زيلع - منذ العصور الإسلامية المبكرة - مركزًا سياسيًا هامًا، حيث احتضنت العديد من الممالك والسلطنات التي تركت بصمة كبيرة على تاريخ المنطقة. من أبرزها مملكة إيفات التي تأسست في القرن الثالث عشر الميلادي، وكان لها دور كبير في التفاعل السياسي والديني مع الدول الإسلامية في شبه الجزيرة العربية وشمال أفريقيا. كما كانت زيلع أيضًا مركزًا لسلطنة عدل في العصور الوسطى، التي لعبت دورًا محوريًا في توحيد المنطقة، وحماية مصالحها السياسية والاقتصادية. أصبحت زيلع تحت حكم هذه الممالك، نقطة انطلاق للعديد من الأنشطة السياسية والدبلوماسية، فقد كانت تتواصل مع القوى الإقليمية والدولية آنذاك، مما جعلها مركزًا مهمًا في المعادلات السياسية للقرن الأفريقي.
مع دخول القوى الاستعمارية الأوروبية إلى القرن الأفريقي، تعرضت مدينة زيلع لتغيرات جذرية أثرت بعمق على مكانتها ودورها المحوري. بدأ هذا التراجع مع التدمير الذي ألحقه البرتغاليون بميناء زيلع، في إطار حملاتهم العسكرية في القرن السادس عشر، مما شكل بداية حقبة مؤلمة من الانحدار. كما ازدادت حدة هذه التحولات مع اشتداد التنافس الاستعماري الأوروبي على الصومال وشماله تحديدًا.
في تلك الحقبة، أخذ الاستعمار البريطاني بربرة، القريبة من زيلع، كمركز إداري أساسي، مستغلًا موقعها الاستراتيجي على الساحل. في الوقت نفسه، عمد الاستعمار الفرنسي إلى تأسيس مدينة جيبوتي، التي سرعان ما أصبحت مركزًا إداريًا وتجاريًا رئيسيًا في المنطقة.
ساهمت هذه التحولات الإدارية والجغرافية، بشكل مباشر، في تهميش زيلع، وتقويض دورها الريادي الذي كانت تلعبه كواحد من أهم الموانئ التجارية والثقافية في المنطقة، لتصبح شاهدًا حيًا على تأثير القوى الاستعمارية في تغيير موازين القوى الاقتصادية والثقافية في القرن الأفريقي.
ورغم ذلك، ظلت زيلع محتفظة بجزء من مكانتها الروحية والثقافية، خاصة بين سكان المنطقة، حيث ظل الأهالي يرون فيها رمزا تاريخيا للهوية الإسلامية والثقافية في المنطقة. ومع ذلك، استمرت آثار الاستعمار في التأثير على المدينة، ما أدى إلى تراجع نموها العمراني والتجاري مقارنة بما كانت عليه في الماضي.
تزخر مدينة زيلع بالعديد من المعالم الثقافية والتاريخية التي تروي تاريخها العريق، ومن أبرزها المساجد القديمة، مثل مسجد القبلتين العتيق، الذي يُعتبر من أقدم المساجد في المنطقة. كما تحتوي على آثار تعود إلى فترات مختلفة من تاريخها، ما يعكس تنوع الثقافات والحضارات التي مرت عليها. تعتبر هذه المعالم جزءًا مهمًا من التراث الصومالي والإسلامي، وتمثل زيلع اليوم مصدر فخر للهوية التاريخية والثقافية للمنطقة.
تأثرت الهندسة المعمارية في زيلع بالطابع العربي والإسلامي، ما يظهر في تصميم المباني التاريخية والمساجد. ونظرًا للتأثيرات المختلفة التي مرت بها المدينة، فإن زيلع تتميز بتنوع معماري يعكس مراحلها التاريخية المختلفة. كما تعدّ اليوم مقصدًا مهمًا للباحثين والمؤرخين المهتمين بدراسة التاريخ الإسلامي في القرن الأفريقي.
في الوقت الراهن، لا تزال زيلع مدينة صغيرة نسبياً مقارنة بماضيها التاريخي المجيد، إلا أن أهميتها الروحية والثقافية لا تزال قائمة. تسعى الحكومة المحلية وبعض المؤسسات الثقافية إلى إعادة إحياء المدينة، والاعتناء بتراثها المعماري، وتشجيع السياحة الثقافية التي تهدف إلى تعريف الزوار بتاريخها العريق. تحاول هذه الجهود استعادة جزء من مكانة زيلع بوصفها مركزا ثقافيا، وتسليط الضوء على دورها التاريخي في انتشار الإسلام والتجارة في المنطقة.
على الرغم من التراجع الذي شهدته زيلع، بفعل التحولات الاقتصادية والسياسية في المنطقة، فإنها لا تزال تحتفظ ببقايا معمارية ومعالم تاريخية تعكس عظمتها السابقة، مثل: المساجد القديمة والمنازل الحجرية والمقابر التاريخية. إن إحياء هذه المدينة وتسليط الضوء على إرثها يمكن أن يعيدها إلى مكانتها كموقع ثقافي وسياحي بارز، يجذب الباحثين والمستكشفين من جميع أنحاء العالم.
تمثل مدينة زيلع، في ظل تزايد الاهتمام العالمي بالحفاظ على التراث الثقافي، فرصة استثمارية هائلة، في مجالات توثيق التراث وصون الآثار. يمكن استغلالها من خلال مشروعات تهدف إلى ترميم المواقع الأثرية والحفاظ عليها، بالإضافة إلى توثيق التاريخ المحلي الذي يعكس عمق المدينة، ودورها في تاريخ منطقة القرن الأفريقي. علاوة على ذلك، يمكن أن يساهم تشجيع الاستثمار في البنية التحتية السياحية في جذب السياح من مختلف أنحاء العالم، مما يعزز الاقتصاد المحلي من خلال خلق فرص عمل وتحسين مستوى الخدمات.
تعد السياحة الثقافية أحد المجالات الواعدة لمدينة زيلع، حيث يمكن للزوار اكتشاف تاريخ المدينة وحضارتها، عبر زيارة المواقع الأثرية والمشاركة في الفعاليات الثقافية التي تبرز إرث المدينة. ناهيك عما يتيح النمو الكبير الذي تشهده السياحة الثقافية على مستوى العالم، في السنوات الأخيرة، من فرص لزيلع بفضل موقعها التاريخي والثقافي، فقد تصبح وجهة سياحية متميزة في هذا المجال، من خلال تطوير برامج سياحية تعليمية، وتنظيم جولات سياحية في المواقع الأثرية، يمكن تعزيز الاهتمام بالمدينة وتسليط الضوء على دورها البارز في تاريخ المنطقة.
إن مدينة زيلع ليست مجرد مدينة ساحلية تاريخية، بل هي مفتاح لفهم العديد من جوانب تاريخ منطقة القرن الأفريقي. الإرث الحضاري الذي تحمله المدينة يفتح أمام الباحثين والمستثمرين فرصًا كبيرة لاستكشافه وتوثيقه، إذا تم استثمار هذا الإرث بشكل فعال، فإن زيلع يمكن أن تتحول إلى وجهة سياحية ثقافية بارزة في المستقبل، مما يعزز من مكانتها على الخارطة الثقافية العالمية، ويضيف قيمة حقيقية إلى الجهود المبذولة للحفاظ على التراث الإنساني.