تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 15 مايو 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
سياسة

زيارة بري للاسعانود.. مغامرة سياسية في توقيت مشتعل

17 أبريل, 2025
الصورة
Geeska cover
Share

في مشهد سياسي يفتقر إلى التوقيت المناسب والحكمة الاستراتيجية، حطّ رئيس الوزراء الصومالي حمزة عبدي بري رحاله في مدينة لاسعانود، المدينة المضطربة التي لم تهدأ نارها بعد، لا سياسيًا ولا أمنيًا. زيارة بدت أقرب إلى عرض مسرحي مكشوف الأهداف، منها إلى مهمة رسمية مدروسة، إذ فجرت عاصفة من الجدل الشعبي والسياسي، وعمقت حالة التوتر داخل البيت الصومالي الهش، وكأن البلاد ينقصها مزيد من الأزمات والانقسامات.
أما على المستوى الإقليمي، فقد اعتُبرت الزيارة من قبل جمهورية صوماليلاند تجاوزًا خطيرًا للخطوط الحمراء، واعتداءً سافرًا على سيادتها، لا سيما أنها جاءت في لحظة حرجة، تحمل رسائل سياسية مشبوهة، توحي بتبني الحكومة الفيدرالية موقفًا تصعيديًا تجاه إقليم سول. رأى قادة صوماليلاند في هذه الخطوة محاولة متعمدة لإعادة إشعال فتيل الصراع، ونسف أي إمكانية للتقارب أو الحل السياسي، ما يُنذر بتوسيع دائرة التوتر في منطقة تعاني أصلًا هشاشة أمنية، وانقساما مجتمعيا عميقا.
تحولت هذه الزيارة التي رُوّجت لها – من قبل حكومة مقديشو – بكونها خطوة مهمة لتأكيد وحدة أراضي الصومال، بحسب وصف وزير الخارجية الصومالي، أحمد معلم فقي، إلى استفزاز فجّ، يفاقم الانقسامات، ويغذّي الصراعات. كما يعد تهديدا مباشرا قد ينسف جهود المصالحة الوطنية التي ينادي بها الرئيس حسن شيخ محمود. 
هل يسعى بري إلى خلط الأوراق السياسية قبل المؤتمر الوطني الذي دعا إليه محمود؟ أم يحاول – عبثًا - ترميم صورته الباهتة التي تآكلت تحت ضغط الإخفاقات المتراكمة؟ وما دلالة إصراره على إثارة غضب حكومة صوماليلاند، وفتح جبهات سياسية جديدة في توقيت بالغ الحساسية؟


هذه الزيارة، بما تحمله من رمزية قبلية وتوقيت حساس، تمثل خطوة قد تعيد خلط الأوراق في مناطق نفوذ دني التقليدية، خصوصًا إذا نجح بري في كسب تأييد زعامات العشائر المحلية في سول، الأمر الذي قد يمكّنه من التأثير على تشكيل البرلمان المقبل


الأسئلة التي أثارتها هذه الزيارة لا تتوقف عند الأبعاد الأمنية والسياسية، بل تمتد إلى عمق نوايا بري؛ فهل يرمي وراء هذه الخطوة إعادة تشكيل التوازنات داخل الحكومة الفيدرالية؟ أم أنه يسعى لفرض نفسه ممثلًا وحيدا لقبائل الدارود؟ أم أنه ببساطة يحاول صرف الأنظار عن فشل حكومته، وانسداد عملية بناء الدولة في الصومال برمتها، عبر افتعال معركة جديدة في ساحة مأزومة أصلًا؟

بري ومحاولة "سلخ جلده السياسي"

منذ توليه رئاسة الوزراء، ظل حمزة عبدي بري أقرب إلى ظل باهت في المشهد السياسي الصومالي؛ بلا نفوذ حقيقي، ولا طموح سياسي مستقل، حتى بدا في حالة أشبه ما تكون بظل الرئيس، فهو التابع المطيع لحسن شيخ محمود، المتماهي كليا مع أجندته دون أي محاولة لنسج مسار مستقل عنه أو على الأقل موازي له في منصبه، فحمزة لم يفرط في علاقة التلمذة التي كان بين الرجلين، فهو أحد التلاميذ في صفوف حسن شيخ حي كان مدرسا، في مجال السياسة.
هذا الواقع دفع العديد من السياسيين والمثقفين، لا سيما من أبناء العشائر التي يُفترض أنه يمثلها داخل الحكومة الفيدرالية، وفق نظام المحاصصة الموجودة في الصومال، إلى توجيه انتقادات لاذعة له، وصلت حد نزع أي قيمة رمزية عن منصبه. فقد وُصف في التداول الشعبي وحتى السياسي بأنه "جثّة سياسية"، واعتبره أخرون "أسير في رغبات الرئيس غوغورتي"، وهي أوصاف تختزل حجم الاستياء والإحباط من أدائه، الذي يبقى باهتا وعاجزا عن التعبير عن تطلعات قواعده الاجتماعية.
في ضوء هذا الإخفاق المتراكم، جاءت زيارة حمزة إلى لاسعانود كمحاولة مكشوفة لإعادة تقديم نفسه بوجه مختلف؛ علي خلفية القطيعة بين بونتلاند وجوبلاند ، محاولا بذلك استعادة المبادرة، واستقطاب تعاطف القبائل التي ينتمي إليها، بل وربما استغلال اللحظة لإعادة تموضعه داخل الخريطة السياسية، باعتباره رقما لا يمكن تجاوزه في الحسابات القادمة.

إنجازات من ورق وابتسامات أمام الأضواء

حاولت الحكومة الفيدرالية الصومالية تضخيم زيارة رئيس الوزراء حمزة عبدي بري إلى مدينة لاسعانود، فقد وصف بيان صحفي الزيارة بأنها "تاريخية"، وتهدف إلى "ترسيخ السلام وتعزيز وحدة البلاد"، بالرغم من سياقها السياسي المعقّد والمشحون بالخلافات بين الحكومة المركزية والإدارات الإقليمية.
التقى بري خلال الزيارة، حسب البيان دائما، بقيادة إدارة خاتمو وزعماء عشائر وممثلي المجتمع المدني، وناقش معهم ملفات عامة تتعلق بالأمن والسياسة والتنمية. في المقابل، قدمت له إدارة خاتمو دعماً خطابياً للحرب ضد "الإرهاب"، وأكدت التزامها بالوحدة الوطنية، فيما وعدت الحكومة بإعادة تأهيل القوات الأمنية ودعم مشاريع تنموية في المنطقة.
يبقى إعلان الحكومة الفيدرالية اعترافها بإدارة خاتمو كولاية ضمن النظام الفيدرالي، من أبرز ما ورد في البيان، وذلك استناداً إلى إعلان محلي صدر في فبراير/ شباط 2023؛ في خطوة اعتبرها مراقبون مناورة سياسية أكثر من كونها تحولاً مؤسسياً فعلياً. كما أشار البيان إلى إطلاق بعض "المشاريع التنموية" التي لم تُحدَّد طبيعتها أو حجمها، إضافة إلى تسلّم رئيس الوزراء 25 سجيناً من صوماليلاند، في لفتة رمزية وُضعت ضمن سياق "المصالحة".
رغم كل ما ذُكر، يبدو أن البيان جاء في إطار حملة ترويجية لزيارةٍ مثيرة للجدل، تُقرأ في الغالب كخطوة سياسية لاستعادة نفوذ مفقود، أكثر من كونها مبادرة استراتيجية لحل الأزمات المزمنة في المنطقة.

الأهداف الخفية وراء الزيارة

على خلاف السردية الرسمية التي تبنّتها الحكومة الفيدرالية، تحمل زيارة رئيس الوزراء بري إلى مدينة لاسعانود أبعادًا سياسية خفية، تتجاوز مجرد إظهار الدعم لإدارة "خاتومو". فالمعطيات على الأرض تشير إلى أن الزيارة تنطوي على أهداف غير معلنة، يمكن تلخيصها في محورين رئيسيين:
1.محاولة بعث الذات من رماد التبعية
يحاول بري أن يعيد تقديم نفسه رجلا دولة يتمتع بالاستقلالية والحضور السياسي، مستثمرًا الرابط القبلي الذي يجمعه مع سكان لاسعانود لبناء قاعدة دعم محلية، تُعزز شرعيته المفقودة. بعدما ظل لأكثر من ثلاث سنوات محاصرًا في ظل رئيس يهيمن على القرار، ويعين أفرادًا من عائلته لحكم بلد هش يعيش على تفاهمات سياسية،
يرى مراقبون أن بري يسعى إلى إبعاد نعث وصمة التعبية عنه، بتقديم نفسه قائدا قادرا على توظيف سلطاته التنفيذية لخدمة مصالح محددة، وربما التمهيد لتقديم نفسه مستقبلًا صوتا حقيقيا لقبائل الدارود داخل منظومة الحكم الفيدرالي، بعد أن اتُّهم مرارًا بأنه بلا تأثير أو وزن حقيقي في المعادلة السياسية الصومالية.
2.مصير المؤتمر الوطني 
تزامنت الزيارة مع استعدادات مكثّفة من قبل الرئيس حسن شيخ محمود لعقد مؤتمر وطني شامل حول مستقبل النظام السياسي في البلاد، وبالرغم من كونه محاولة لتعزيز التوافق الوطني، فإن فتحرك بري نحو لاسعانود يثير تساؤلات جدّية حول نواياه الحقيقية.
تشير قراءات إلى أن رئيس الوزراء يخشى من استخدام منصة المؤتمر لتقويض سلطته أو حتى الدفع نحو إقالته، خاصة في ظل تنامي الضغوط من قبل زعماء ولايتي جوبالاند وبونتلاند، أحمد مدوبي وسعيد دني، اللذين يعتبران وجوده حجر عثرة في توازن القوى داخل الحكم الفيدرالي.
ما يزيد هذه الشكوك هو أن بري يُتهم بالسعي إلى إقصاء هؤلاء الزعماء من المشاركة في المؤتمر، مقابل الدفع بممثل ولاية "خاتومو" غير المعترف بها كيانا فيدراليا (إلا عند بري)، إلى طاولة الحوار، في خطوة تُقرأ على أنها محاولة لإعادة رسم التحالفات داخل النظام الفيدرالي، وتهميش القوى التقليدية الراسخة.


يحاول بري أن يعيد تقديم نفسه رجلا دولة يتمتع بالاستقلالية والحضور السياسي، مستثمرًا الرابط القبلي الذي يجمعه مع سكان لاسعانود لبناء قاعدة دعم محلية، تُعزز شرعيته المفقودة. بعدما ظل لأكثر من ثلاث سنوات محاصرًا في ظل رئيس يهيمن على القرار


بينما تثير هذه المناورة تساؤلات قانونية حول شرعية مشاركة "خاتومو" في مؤتمر وطني يفترض أن يجمع الحكومة الفيدرالية بالولايات المعترف بها دستوريًا، يرى البعض أن بري يحاول من خلال هذه الخطوة بعث رسالة مزدوجة مفادها: التأكيد على امتلاكه أوراقًا بديلة في مشهد سياسي متقلب، وإعادة التفاوض على موقعه داخل هرم السلطة في البلاد.

صوماليلاند: الحوارات إلى المقصلة

أدان مجلس الوزراء في جمهورية صوماليلاند زيارة رئيس الوزراء الصومالي، حمزة عبدي بري، إلى مدينة لاسعانود، شرقي البلاد. وأكد المجلس، في بيان صحفي، أن الزيارة تشكل تدخلًا غير مقبول في السيادة والاستقلال السياسي لصوماليلاند، معتبرًا إياها خطوة استفزازية، تستدعي اتخاذ إجراءات سريعة لحماية الحدود الوطنية وصون كرامة الدولة. 
كما ألغت الحكومة كافة المفاوضات الجارية مع الحكومة الفيدرالية في مقديشو، مؤكدة أن الزيارة تمثل تصعيدًا سياسيًا لا بد من مواجهته بموقف حازم ووطني، يعكس التزام صوماليلاند باستقلالها الكامل.
يرى مراقبون أن أولى الضحايا السياسيين المحتملين لزيارة رئيس الوزراء الصومالي حمزة عبدي بري إلى مدينة لاسعانود، هو رئيس ولاية بونتلاند سعيد عبد الله دني، الذي يطمح للترشح في الانتخابات الرئاسية المقررة عام 2026
هذه الزيارة، بما تحمله من رمزية قبلية وتوقيت حساس، تمثل خطوة قد تعيد خلط الأوراق في مناطق نفوذ دني التقليدية، خصوصًا إذا نجح بري في كسب تأييد زعامات العشائر المحلية في سول، الأمر الذي قد يمكّنه من التأثير على تشكيل البرلمان المقبل، لا سيما ممثلي عشائر الهرتي. 
هذا السيناريو من شأنه أن يحدّ من قدرة دني على توجيه العملية السياسية في مقديشو، ويضعف موقعه التفاوضي داخل الحكومة الفيدرالية، بل وقد يُقصيه تدريجياً من المشهد.


يرى البعض أن بري يحاول من خلال هذه الخطوة بعث رسالة مزدوجة مفادها: التأكيد على امتلاكه أوراقًا بديلة في مشهد سياسي متقلب، وإعادة التفاوض على موقعه داخل هرم السلطة في البلاد


في المحصلة، لا تبدو زيارة رئيس الوزراء بري إلى لاسعانود مجرد خطوة عابرة في أجندة حكومية اعتيادية، بل تعكس في جوهرها محاولة - متسرعة -لإعادة تموضع سياسي في مشهد بالغ التعقيد. 
غير أن هذه المحاولة، رغم ما تحمله من رسائل داخلية ورسائل موجهة للحلفاء والخصوم، تنطوي في ذات الوقت على مخاطر حقيقية، قد تسهم في تعميق الشروخ بين الحكومة الفيدرالية والإدارات الإقليمية، وتعيد تأجيج بؤر التوتر التي لم تندمل بعد.
يبقى السؤال المطروح: هل ستنجح هذه الزيارة في إعادة رسم خريطة النفوذ السياسي لصالح بري، أم أنها ستُسجّل كخطأ استراتيجي آخر يفاقم من هشاشة الدولة الصومالية، ويهدد توازنها الدقيق؟ والإجابة ستتضح في قادم الأيام، لكن المؤكد أن تداعيات هذه الزيارة لن تقف عند حدود مدينة لاسعانود.