الأربعاء 12 نوفمبر 2025
تكتسب زيارة رئيس جمهورية صوماليلاند، عبد الرحمن محمد عبد الله (عرو)، إلى العاصمة القطرية الدوحة، دلالة سياسية تتجاوز الطابع البروتوكولي المعتاد. فهذه الزيارة تأتي في لحظة إقليمية مضطربة، لتعكس تحوّلًا ملموسًا في توجه هرجيسا الدبلوماسي، الذي بات أكثر انفتاحًا على شركاء غير تقليديين، في سياق سعيها الدؤوب لكسر العزلة الدولية، وتعزيز تموضعها السياسي في بيئة استراتيجية شديدة التعقيد.
تتجاوز الدوحة، في هذا السياق، مجرد محطة عابرة ضمن جولة علاقات عامة، لتمثل نقطة ارتكاز محتملة في شبكة التحالفات الجديدة التي تسعى صوماليلاند إلى نسجها، في إطار سعيها لفتح قنوات تواصل جديدة مع القوى الفاعلة في معادلات الإقليم. في المقابل، تُبدي قطر اهتمامًا واضحًا بإعادة توسيع هامش حضورها الدبلوماسي في منطقة القرن الأفريقي، مستفيدةً من موقعها الوسيط، ومن قدرتها على التحرك المرن في هوامش السياسة الإقليمية.
سبقت هذه الزيارة -وهي الأولى من نوعها لرئيس من صوماليلاند إلى الدوحة قطر- تسريبات حول نية قطر فتح مكتب تمثيلي في هرجيسا. فُسّرت هذه الخطوة؛ التي لم يُعلن عنها رسميًا، في دوائر عدة على أنها مؤشر رمزي على اعتراف ضمني بخصوصية حالة صوماليلاند. وقد مهدت لهذه الزيارة لقاءات تمهيدية غير معلنة، جمعت شخصيات من الجانبين، بهدف التفاهم على أولويات مشتركة، في مقدمتها التعاون الاقتصادي، وتبادل الرؤى بشأن الأمن البحري والتوازنات المتغيرة في الإقليم.
تشير هذه التحركات، وإن بدت محدودة في ظاهرها، إلى ما هو أعمق: انفتاح مدروس بين طرفين يملكان دوافع مختلفة، لكنهما يتقاطعان في قراءة دقيقة للواقع الجيوسياسي، وهو ما يجعل من زيارة الدوحة نقطة اختبار مبكرة لمستقبل علاقة قد تكون أكثر أهمية مما توحي به عناوين الأخبار.
بالنظر إلى ديناميات القرن الأفريقي المتسارعة، تبرز صوماليلاند ككيان جيوسياسي يصعب تجاهله في الحسابات الإقليمية والدولية الراهنة. ما يلفت الانتباه في هذه المرحلة أن أهمية "هرجيسا" لم تعد حبيسة سياقها المحلي أو محصورة في طموحاتها التقليدية لنيل الاعتراف الدولي، بل باتت تستمدّ جزءًا متزايدًا من زخمها من عاملين استراتيجيين يفرضان حضورها المتصاعد في معادلات الفعل الدولي.
يتمثّل الأول في موقعها الجغرافي المحوري على الضفة الجنوبية لخليج عدن، وبالقرب المباشر من مضيق باب المندب، أحد أبرز الممرات الحيوية للتجارة العالمية. وقد ازدادت حساسية هذا الموقع في ضوء التطورات الجيوسياسية الأخيرة، ولا سيما الحرب الإسرائيلية المتواصلة على غزة، وما رافقها من تصعيد عسكري واسع النطاق في البحر الأحمر، والذي بلغ ذروته في الاشتباك الإسرائيلي–الأميركي مع إيران. أعادت هذه التحولات رسم أولويات القوى الكبرى في المنطقة، خصوصًا ما يتعلق بأمن خطوط الملاحة البحرية، واستقرار تدفق الطاقة.
أما العامل الثاني، فهو الانخراط المتنامي لبعض القوى الكبرى، تتقدمها الولايات المتحدة، في مقاربات أمنية جديدة إزاء منطقة القرن الأفريقي، تُعيد من خلالها تقييم الأهمية الاستراتيجية للمواقع الساحلية في صوماليلاند. وقد تجلّى هذا التوجه بشكل واضح في الزيارة الرفيعة المستوى التي أجراها وفد أميركي إلى مدينة بربرة، في 19 يونيو/ حزيران 2025، ترأسه قائد القيادة الأميركية في أفريقيا (أفريكوم)، الجنرال مايكل لانغلي. وقد ناقش الوفد مع حكومة صوماليلاند سبل توسيع آفاق التعاون الأمني، وتطوير البنية التحتية للميناء. في خطوة تعكس تحوّل النظرة الأميركية إلى صوماليلاند باعتبارها منصة أمنية بديلة، وأكثر مواءمة للمتغيرات الإقليمية، مقارنةً ببعض المواقع التقليدية مثل جيبوتي، التي أثار تموضع القاعدة الصينية فيها حفيظة دوائر أميركية نافذة.
تشير هذه التحركات، وإن بدت محدودة في ظاهرها، إلى ما هو أعمق: انفتاح مدروس بين طرفين يملكان دوافع مختلفة، لكنهما يتقاطعان في قراءة دقيقة للواقع الجيوسياسي، وهو ما يجعل من زيارة الدوحة نقطة اختبار مبكرة لمستقبل علاقة قد تكون أكثر أهمية
لا يعيد هذا التحوّل في النظرة الدولية إلى صوماليلاند فقط رسم موقعها ضمن المعادلة الإقليمية، بل يضعها في موقع متقدّم يؤهّلها للعب دور محوري في أي تصور مستقبلي لترتيبات الأمن البحري في منطقة القرن الأفريقي. وهو ما دفع عددًا من العواصم الإقليمية، بما في ذلك الدوحة، إلى إعادة تقييم أدواتها السياسية وآليات انخراطها في مقاربة ملف صوماليلاند–الصومال، سعيًا للتكيّف مع معطيات الواقع الناشئ، دون أن يعني ذلك بالضرورة المساس بالثوابت المعلنة للنظام الإقليمي القائم.
سعت قطر على مدى العقدين الماضيين إلى ترسيخ مكانتها، وسيطا دبلوماسيا في النزاعات الإقليمية، لا سيما في البيئات التي تعاني من هشاشة سياسية أو صراعات مزمنة، مستفيدة من مرونة سياستها الخارجية وعلاقاتها المتوازنة. فقد توسطت قطر بين جيبوتي وإريتريا عام 2010، حيث أرسلت قوات حفظ سلام تمركزت على الحدود لمدة سبع سنوات، قبل انسحابها عام 2017 في أعقاب الأزمة الخليجية. وفي السودان، رعت اتفاق الدوحة للسلام في دارفور عام 2011. كما لعبت الدوحة دورًا في تهدئة الخلاف بين كينيا والصومال بشأن النزاع البحري، قبيل اللجوء إلى محكمة العدل الدولية. ومؤخرًا، أدّت الدوحة دورًا بارزًا في اتفاقية السلام بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا، من خلال استضافة محادثات بين الجانبين، قبل أن يُوقّع الاتفاق النهائي في واشنطن الأسبوع الماضي.
هذا الإرث من الوساطات، المدعوم بقدرة قطر على التحرك بين أطراف متخاصمة دون استفزاز أي منها، منحها موقعًا دبلوماسيًا فريدًا، في بيئة تتسم بتعدد المحاور وتضارب المصالح. فهي تحتفظ بعلاقات مع الحكومات المركزية، كما تنخرط بهدوء مع كيانات شبه مستقلة، دون أن تمارس ضغوطًا علنية أو تفرض أجندات جاهزة.
من هذا المنطلق، يمكن فهم اللقاء الذي جمع رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية القطري، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، برئيس صوماليلاند المنتخب حديثًا، عبد الرحمن محمد عبد الله (عرو)، يوم أمس الإثنين، بوصفه تحركًا محسوبًا ضمن مقاربة قطرية تقوم على الانفتاح البراغماتي. فرغم أن مضمون اللقاء لم يخرج عن الإطار التقليدي للمواقف المعلنة، التي تؤكد على "أمن واستقرار القرن الأفريقي" و"أهمية التواصل البنّاء بين الصوماليين"، فإن مجرّد استقبال رئيس صوماليلاند في هذا التوقيت يفتح الباب أمام صيغ تواصل غير تقليدية، تعكس حساسية اللحظة وتحولات الإقليم، بما يجعل من الدوحة، مرة أخرى، وسيطًا محتملًا في واحد من أكثر الملفات تعقيدًا في القرن الأفريقي.
في ضوء ما سبق، يمكن قراءة التحرك القطري الأخير باعتباره محاولة لتوسيع نطاق انخراطها الدبلوماسي في القرن الأفريقي، من خلال استكشاف إمكانية إعادة تفعيل مسار التفاوض بين مقديشو وهرجيسا، بعد سنوات من الجمود والتعثر، حيث تشير معطيات دبلوماسية إلى أن هذا التوجّه يأتي في أعقاب تراجع دور الوساطة التركية، وجمود كل المفاوضات السابقة بين الطرفين دون أن تحقق اختراقًا ملموسًا.
لقد بدأت أولى المحاولات الرسمية لتقريب وجهات النظر بين الطرفين في لندن عام 2012، تلتها جولات متقطعة في تركيا والإمارات وأديس أبابا وجيبوتي، وشهدت بعضها توقيع بيانات نوايا أو تفاهمات مبدئية، لكنها لم ترتقِ إلى مستوى الاتفاقات السياسية الملزمة. واتسمت هذه المفاوضات بالهشاشة وضعف الاستمرارية، في ظل غياب ضمانات دولية واضحة، وتباين عميق في مواقف الطرفين إزاء مسألة السيادة، وتضارب الرؤى حول الهوية الوطنية، فضلًا عن تشابك أجندات الفاعلين الإقليميين والدوليين في المنطقة.
لا تبدو فرص نجاح أي وساطة محتملة، بما في ذلك الوساطة القطرية، ممكنة من دون تفكيك البنية السياسية العميقة التي تحكم الحالة الصومالية، لا سيما ما يتصل بمفاهيم السيادة والدولة الوطنية واستعادة الاستقلال
في هذا السياق، لا تبدو فرص نجاح أي وساطة محتملة، بما في ذلك الوساطة القطرية، ممكنة من دون تفكيك البنية السياسية العميقة التي تحكم الحالة الصومالية، لا سيما ما يتصل بمفاهيم السيادة والدولة الوطنية واستعادة الاستقلال، وهي مفاهيم راسخة في الوعي السياسي لصوماليلاند، وتشكل جزءًا من مشروعها الرمزي والمؤسساتي منذ إعلان استعادة الاستقلال في مطلع التسعينيات.
إن تجاوز حالة الانسداد التفاوضي يتطلب مقاربة واقعية، تراعي خصوصيات السياق المحلي، وتؤسس لمسار تدريجي يقوم على الثقة المتبادلة والانفتاح المتدرج، لا على الضغوط أو الحلول الجاهزة. ويتعين على أي وسيط تجنّب المساس العلني بالمكتسبات الرمزية التي تراها هرجيسا أساسًا لكيانها السياسي، والعمل بدلًا من ذلك على بناء إطار تفاوضي واقعي، يوازن بين رهانات الوحدة السياسية واعتبارات الاعتراف الفعلي، ضمن بيئة إقليمية شديدة الحساسية.
في هذا الإطار، عكس البيان القطري الصادر عقب لقاء الرئيس عبد الرحمن "عرو" برئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية القطري، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، تمسّكًا بالموقف التقليدي الداعم لوحدة وسيادة الصومال، مؤكدًا على "أمن واستقرار القرن الأفريقي" و"أهمية التواصل البنّاء بين الصوماليين". وهي عبارات مألوفة في الخطاب الدبلوماسي الإقليمي، تنسجم مع الإجماع الدولي الراهن بشأن و"حدة الصومال".
رغم أنه من المبكر إصدار أحكام نهائية بشأن مآلات هذا اللقاء، إلا أن إشاراته الأولية تكشف عن مفارقة سياسية لافتة: انفتاح تكتيكي في القنوات الخلفية، يقابله خطاب دبلوماسي شديد التحفظ في العناوين العلنية. وهي معادلة دقيقة تتطلّب قدرًا كبيرًا من المواءمة بين ضرورات الواقعية السياسية ومتطلبات الاتساق الرمزي، خاصة في لحظة إقليمية تشهد إعادة تشكيل تموضع الفاعلين غير التقليديين في هندسة التوازنات الهشة.
لا يتوقف مستقبل صوماليلاند على انتظار اعتراف دولي قد لا يأتي قريبًا، بل على قدرتها في مراكمة الحضور السياسي الذكي، وبناء شراكات واقعية تُراعي منطق المصالح
في المقابل، تدرك صوماليلاند أن معركتها من أجل الاعتراف لا تُحسم فقط في أروقة القانون الدولي، بل تُدار أيضًا في قلب شبكة المصالح الجيوسياسية وتشابكات النفوذ الإقليمي والدولي. وهي، وإن ظلت تراهن على التعاطي معها كطرف سياسي، يمتلك مبررات قانونية وتاريخية، لا مجرد قضية داخلية عالقة ضمن العملية (اللانهائية) لإعادة بناء الدولة الصومالية، فإنها تدرك في الوقت ذاته أن تحقيق هذا الهدف يتطلب انخراطًا ذكيًا، يتجاوز الرمزيات إلى هندسة واقعية للتموضع الخارجي.
غير أن هذا الرهان، على وجاهته السياسية، لا يُعفي النخب الحاكمة في هرجيسا من مسؤوليتها المباشرة عن تعثّر جهود انتزاع الاعتراف الدولي على مدى العقود الثلاثة الماضية. إذ أخفقت الحكومات المتعاقبة في صوماليلاند في بلورة رؤية دبلوماسية استراتيجية متكاملة، وظلّ خطابها السياسي حبيس سردية داخلية تُعيد إنتاج منطق المظلومية تجاه المجتمع الدولي، دون أن يُترجم ذلك إلى تحرك خارجي فعّال، يستند إلى منطق المصالح المتبادلة، وتوسيع قاعدة التحالفات، وبناء شبكات تواصل مؤسسية مع الفاعلين الدوليين المؤثرين.
إذا كانت هشاشة الدولة الصومالية المركزية قد حالت دون تبلور طرف تفاوضي مستقر يمكن البناء عليه سياسيًا، فإن ذلك لا يُسقط عن صوماليلاند مسؤولية افتقار مشروعها إلى دينامية دبلوماسية قادرة على تجاوز الأطر التاريخية التقليدية. فالمراهنة على سردية رمزية، في غياب أدوات التفعيل الواقعي، جعلت مشروع الاعتراف عرضة للتآكل التدريجي أو الجمود داخل سردية تاريخية لم تعد، في ذاتها، كافية لحشد التأييد أو إحداث اختراق فعلي في موازين الفعل السياسي الإقليمي والدولي.
في المحصلة، لا يتوقف مستقبل صوماليلاند على انتظار اعتراف دولي قد لا يأتي قريبًا، بل على قدرتها في مراكمة الحضور السياسي الذكي، وبناء شراكات واقعية تُراعي منطق المصالح. والانفتاح القطري، وإن اتسم بالحذر، يوفّر فرصة لاختبار نماذج جديدة من التواصل، تتجاوز منطق الإنكار أو المجاملة، دون أن تتورط في صدام مع الثوابت الدولية بشأن وحدة الصومال.
إن التعاطي مع صوماليلاند بوصفها فاعلًا له وزنه في معادلة الأمن الإقليمي لا يعني بالضرورة الاعتراف بها كدولة مستقلة، لكنه يتطلب مقاربة أكثر نضجًا، تتفهم خصوصيتها، وتمنحها مساحة تفاوض سياسي مرن. هذا المسار -إذا ما أُحسن بناؤه- قد لا يفضي إلى الاعتراف الفوري، لكنه كفيل بإعادة ترتيب العلاقة بين هرجيسا ومقديشو، وبمنح صوماليلاند أدوات أكثر واقعية لإدارة توازناته الهشة، بعيدًا عن منطق الإقصاء أو الإنكار.