الأحد 9 نوفمبر 2025
يأتي هذا المقال في أعقاب رحيل الكاتبة الجنوب أفريقية زوي ويكومب (Zoë Wicomb) في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2025، وهي واحدة من أبرز الأصوات التي بلورت ملامح الأدب الجنوب أفريقي المعاصر من داخل تجربة الهامش والمنفى. تمثّل وفاتها لحظة تأمّل في مسار إبداعي تجاوز حدود الجغرافيا والتاريخ الرسمي، ليعيد التفكير في مفاهيم الهوية والانتماء والذاكرة، واللغة ضمن سياقات ما بعد الاستعمار والفصل العنصري.
لقد شكّلت حياة ويكومب مختبرا سرديّا ونقديّا لفهم الكيفيّة التي تتقاطع بها التجربة الفرديّة مع التاريخ الجماعي، ولإبراز ما يمكن تسميته "كتابة الهامش عن ذاتها"، أي كتابة ترفض التصنيفات الثابتة، وتستدعي باستمرار سؤال "من يتكلّم؟" و"من يروي؟".
في هذا السياق، نسعى إلى قراءة تجربة ويكومب من خلال محورين متكاملين: الأوّل يتعلّق بتكوينها الأدبي والنقدي الذي يجمع بين الخيال السردي والتحليل الفكري، والثاني يتناول رهانات الهوية واللغة والمنفى التي جعلت من أعمالها مرجعا في أدب ما بعد الفصل العنصري.
لا يهدف هذا النص إلى تأبينٍ عاطفيّ بقدر ما يسعى إلى تفكيك الإرث الأدبي الذي تركته ويكومب بوصفه مشروعا فكريّا في كتابة الذات والآخر، وفي مساءلة العلاقة بين التاريخ والأدب، بين الوطن والمنفى، وبين اللغة والذاكرة.
إنّ استعادة سيرة ويكومب اليوم ليست مجرّد احتفاء بكاتبة رحلت، بل محاولة لقراءة الكيفيّة التي يمكن بها للأدب أن يُبقي الهامش حيّا في مواجهة النسيان، وأن يحوّل تجربة الاغتراب إلى أفق إنساني يتجاوز الحدود والخرائط.
وُلدت زوي ويكومب في قرية صغيرة بمنطقة ناماكوالاند في مقاطعة كيب الغربية بجنوب أفريقيا، في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 1948. تربّت في بيئة "ملوّنة" كما كانت تُسجّل رسميّا ضمن نظام الفصل العنصري (Apartheid)، وتلقّى أهلها اللغة الأفريكانية والإنجليزية في آن واحد، في بلد مُنظّم عبر تصنيفات عنصريّة وحواجز لغويّة واجتماعية.
الكتابة عند ويكومب تقع في تقاطع الوطن/المنفى، الهوية المتعدّدة، والتاريخ المهمل.
في عام 1968 تقريبا حصلت على البكالوريوس من جامعة ويسترن كيب (University of the Western Cape)، وهي مؤسّسة أُنشئت ضمن سياسات التعليم المنفصل، ثم غادرت جنوب أفريقيا عام 1970 إلى المملكة المتحدة لمواصلة دراستها في جامعة ريدنغ . وقد استقرّت لاحقا في غلاسغو، حيث شغلت منصب أستاذة في جامعة ستراثكلايد (University of Strathclyde)، قبل أن تُمنح وضعية أستاذة فخريّة.
شكّل هذا المسار الحياتي - من هوامش الجنوب الأفريقي إلى المنفى في الغرب ما يمكن أن نعتبره البُعد التكويني الأساسي لكتابتها: الكتابة عند ويكومب تقع في تقاطع "الوطن/المنفى" و"الهوية المتعدّدة" و"التاريخ المهمل".
كانت البدايات قصصية لدى ويكومب برائعة "لا يمكنك أن تضيع في كيب تاون" (You Can’t Get Lost in Cape Town) التي صدرت أوّل عمل رئيسي لها عام 1987 كأول مجموعة قصص قصيرة مترابطة يُمكن قراءتها كرواية في شكل قصصي.
تدور هذه القصص حول شخصية "فريدا شنتون"، وهي امرأة ملوّنة تنشأ في ناماكوالاند، تنتقل إلى كيب تاون للدراسة ثم إلى المملكة المتحدة، ويروي الكتاب مراحل تشكّل هويّتها في سياق الهامش واللغة والمؤسّسة الجامعية.
ما يلفت أنّ ويكومب تستثمر المكان كالريف والمدينة والجامعة والغربة ليس فقط بوصفه خلفيّة، بل فاعلا سرديا يُشكّل تجارب الشخصيات، وينعكس في بنيتها اللغوية والمكانية.
يُظهر تحليل أكاديمي أنّ المدينة كيب تاون تُقرأ بطرق مختلفة لدى من يعرف ثقافتها الجغرافية ومن لا يعرفها، ما يمنح النص بعدا سياقيّا يتجاوز مجرّد السرد.
يمكن القول إنّ هذا العمل يعكس بداية مشروع ويكومب في سبر أغوار الهويّة المتشعّبة في مجتمع "مختلط" لغويّا وعرقيّا، حيث تتقاطع الإنجليزية والأفريكانية مع تعقيدات الطبقة والمكان.
تؤكّد أنّ التحوّلات ما بعد الاستعمار والفصل العنصري لا تُلغي إشكالات الهويّة، بل تفتح مساحات جديدة من التوتّر والتجاوز.
في روايتها "قصة ديفيد" David’s Story, 2000))، توسّعت الرؤية لتشمل التاريخ الوطني - خصوصا تاريخ حركة التحرير الجنوب أفريقية - وعلاقة الأفراد بالحركة وبتصنيفات الملوّنين.
تطرح الرواية سؤالا محوريّا: "من يكتب التاريخ؟" عبر بنية سرديّة مزدوجة، تجمع بين حكاية معاصرة لشخصيّة ديفيد ديركسه، وبين سرد لتاريخ شعب الغريكوا (Griqua) من أصل خويخوي (Khoikhoi).
تستعمل ويكومب الرواية وسيلة للتأمّل في العلاقة بين السرد الشخصي والسرد الوطني، بين الذاكرة الجماعيّة والتاريخ الرسمي، ما يجعل العمل ليس حكاية فقط بل نقدا للتاريخ ولتحوّلات جنوب أفريقيا ما بعد الأبارتهايد.
إلى جانب الإنتاج الأدبي، نشرت ويكومب مقالات نقديّة وثقافية جُمعت في هذا الكتاب الذي يعكس توجّهها الأكاديمي العميق. فكتبت "العرق، الأمة، الترجمة: مقالات جنوب إفريقية 1990–2013" (Race, Nation, Translation: South African Essays, 1990–2013, 2018)، تناقش فيه العلاقة بين الأمة والعرق واللغة والترجمة والانتماء المتعدّد، وتؤكّد أنّ التحوّلات ما بعد الاستعمار والفصل العنصري لا تُلغي إشكالات الهويّة، بل تفتح مساحات جديدة من التوتّر والتجاوز.
يمثّل هذا الكتاب مرجعا أساسيّا لفهم فكرها النقدي حول ما بعد الكولونيالية، ودور الأدب في مساءلة التاريخ.
من أبرز محاور أعمال ويكومب موضوع الهوية الملوّنة في جنوب أفريقيا، فهي لا تقدّم هذه الهويّة كحالة ثابتة، بل كموقع من التداخل والتناقض: ليست "سوداء" ضمن تصنيفات المؤتمر الوطني الإفريقي، ولا "بيضاء" ضمن نظام الأبارتهايد، بل على تماس دائم مع الهامش.
هذا التوتّر بين التصنيف والإبداع يجعل كتابتها جذّابة نقديّا، إذ تسائل كيف تُبنى الهوامش وكيف تُكتب منها. وتضع ويكومب نفسها في موقع مزدوج: ككاتبة من داخل الهامش وناقدة لذلك الهامش في آن معا.
المشاهد البصرية في كتاباتها تحوّل اللغة إلى وسيلة لرؤية العنف التاريخي واستعادة الذاكرة، فيتحوّل المكان واللغة إلى أدوات جمالية ونقدية.
كما تستعمل ويكومب المكان (ناماكوالاند، كيب تاون، غلاسغو) بوظائف رمزية متباينة. فعلى سبيل المثال، في روايتها "أكتوبر" (October, 2014) تراوح بين غلاسغو ومنطقة نشأتها، لتجسيد حالة المنفى والعودة.
أمّا على مستوى اللغة، فإن انتقالها من بيئة أفريكانية إنجليزية إلى بيئة بريطانية يخلق تجربة لغويّة مزدوجة؛ إذ تصبح اللغة فضاء للهوية والصراع معا.
تُظهر دراسات أكاديميّة أن المشاهد البصرية في كتاباتها تحوّل اللغة إلى وسيلة لرؤية العنف التاريخي واستعادة الذاكرة، فيتحوّل المكان واللغة إلى أدوات جمالية ونقدية، لا مجرّد خلفيات قصصية.
تبدأ ويكومب أعمالها غالبا من نقطة "التاريخ المُغَيّب"، لتعيده إلى الحيز السردي. في قصة "لا يمكنك أن تضيع في كيب تاون" وفي رواية "قصة ديفيد"، تطرح أسئلة حول من يروي؟ ومن يكتب؟ ومن يتحمّل عبء الذاكرة؟
بحسب موقع جامعة ويسترن كيب (UWC)، فقد "منحت ويكومب صوتا لمن لم يُسمعوا، وابتكرت تداخلا بين النقد الاجتماعي والفن الأدبي".
كما تُعدّ تجربة الغربة والمنفى لديها حالة وجودية للكتابة، إذ تعيش الذات بين انتماءات متكسّرة تتيح حرية سرديّة وقلقا في آن واحد.
تُعدّ ويكومب من الأصوات الرئيسيّة التي جدّدت الأدب الجنوب أفريقي باللغة الإنجليزية من منظور الهامش والمنافي. وصفتها جامعة UWC بأنّها "إحدى أهم الكاتبات في جنوب أفريقيا في نهاية عصر الأبارتهايد وما بعده".
حصلت على جائزة ويندهام - كامبل (Windham–Campbell Prize) للخيال عام 2013، تقديرا لأسلوبها وقدرتها على معالجة موضوعات الهوية والانتماء.
تُعدّ تجربة الغربة والمنفى لديها حالة وجودية للكتابة، إذ تعيش الذات بين انتماءات متكسّرة تتيح حرية سرديّة وقلقا في آن واحد.
يتمثل إرثها الأدبي في جعل تجربة الملوّنين محورا في الأدب الجنوب أفريقي، وتجاوز الثنائية (أبيض/أسود) في السرد الأدبي. فضلا عن ترسيخ العلاقة بين السرد والفكرة، بين الفن والنقد، بين المحلي والعالمي.
رغم مكانتها البارزة، أشار بعض الباحثين إلى إشكاليات في تلقي أعمالها، فالبعض يرى أنّ تمثيلها لتجربة الملوّنين قد يُقرأ أحيانا بكونه تصويرا إثنوغرافيا أكثر من تحليل نقدي. كما يطرح المنفى الدائم سؤال الأصالة: هل يمكن للكاتبة أن تكتب بصدق عن الوطن وهي بعيدة عنه؟
ومع ذلك، فإنّ هذا التوتّر بين الداخل والخارج يمنح أعمالها طابعًا "ما بعد وطني"، يفتح الأدب الجنوب أفريقي على أفق إنساني واسع. برحيل زوي ويكومب فقد الأدب الجنوب أفريقي صوتا فريدا، لكن إرثها يظلّ حاضرا بوصفه مشروعا فكريّا وجماليّا في آن واحد.
مشروع يُظهر كيف يمكن للكتابة أن تكون مساءلة لا إجابة، وكيف يمكن للفنّ أن يتحوّل إلى وعي نقدي، وللهامش أن يصبح مركزا. تدعونا أعمال الراحلة إلى تأمّل أنّ "الوطن" ليس مكانا جغرافيّا فحسب، بل تجربة سؤال دائم، وأنّ "الهويّة" ليست معطى ثابتا، بل سيرورة مستمرّة.
تُقدّم ويكومب نموذجا فذّا للكاتبة التي جمعت بين العمق الأدبي والتأمّل النقدي، لتبقى أعمالها من أهمّ المراجع في دراسات ما بعد الاستعمار والهوية والمنفى.