تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الاثنين 24 مارس 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
رأي

زوال القذافي: منحة أم محنة للسودان؟

17 فبراير, 2025
الصورة
geeska cover
Share

دُهِش العالم عام 2011، وهو يرى شرارة الثورة في بنغازي الليبية في 17 فبراير/ شباط.  كان عداد سنوات الحكم للعقيد معمر القذافي عند اندلاع الثورة تجاوز الأربعين سنة. هذه الفترة الطويلة كانت كفيلة بخلق عداوات مع دولة تارة، ثم التحول لصداقتها تارة أخرى، تبعاً لتقلبات السياسة.  

انتهزت الخرطوم تقلبات المنطقة، فانقلبت على العقيد، وساهمت بالإطاحة به، مستندة على تاريخ طويل من سوء الجوار والأذى، أضمره القذافي حيناً وأعلنه حيناً آخر. لكن الخرطوم التي لم تسمع نصيحة إنجمينا التي قالت إن إبعاد القذافي هو فتح لصندوق الباندورا، تحصد زرعها، وهو على الأرجح ليس الحصاد الذي أراده النظام السابق.  

السودان وتقلبات العقيد 

كان السودان، بحكم الجوار، جزءاً أصيلاً من تقلبات العقيد في سياسته الخارجية. ساعد القذافي الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري (1969-1985) عام 1971، عندما قام الشيوعيون بانقلابهم، في 19 يوليو/تموز؛ فأنزل الطائرة التي كانت تقل قادة الانقلاب المقدم بابكر النور والرائد فاروق حمدالله، عند عبورها فوق الأجواء الليبية، وقام باعتقالهم وتسليمهم لجعفر النميري عندما استعاد السلطة بعد ثلاثة أيام من الانقلاب.

 عندما وقعت الحكومة السودانية وحركة التمرد بجنوب السودان، عام 1972، اتفاقية أديس أبابا للسلام تحول النميري إلى خصم لدود للقذافي، باعتبار ما قام به النميري ردة نحو المعسكر الغربي.  تبع ذلك دعم لتحالف المعارضة السودانية "الجبهة الوطنية"، وفتح معسكرات تدريب لعناصرها، حتى يتمكنوا من الإطاحة بنميري عسكرياً. وقد كانت آخر محاولات الجبهة الوطنية هو انقلاب 2 يوليو/تموز 1976 الذي قاده العميد معاش محمد نور سعد، والذي كُتب عليه الفشل، مدعوما من ليبيا. بعد أن وقعت المصالحة الوطنية عام 1977، لم يترك العقيد السودان في حاله؛ فقام عام 1983 بدعم التمرد في جنوب السودان فور اندلاعه، وأتبعه بقصف  لمقر الإذاعة والتلفزيون عام 1984 بأمدرمان. 

 شهدت فترة الديمقراطية الثالثة (1986-1989)، بعد الإطاحة بنميري عبر انتفاضة مارس/ آذار-أبريل/نيسيان 1985، علاقات جيدة بين الخرطوم وطرابلس، واستمرت هذه الأوضاع إلى ما بعد انقلاب الجبهة الإسلامية القومية، في 30 يونيو/ حزيران 1989، والذي قاده العميد حسن عمر أحمد البشير (1989-2019).

ممن انتقمت الخرطوم؟ 

لم تنج علاقة حكومة الجبهة الإسلامية مع الجماهيرية الليبية من تقلبات القذافي، فقد وجد العقيد ضالته للي ذراع الخرطوم من خلال ملف دارفور والحرب التي اندلعت فيه عام 2003. سبق وأن كان الإقليم ساحة خلفية للحرب الليبية-التشادية، في ثمانيات القرن الماضي، لكن المعادلات وأشكال التدخل هذه المرة اختلفت. 

لم تختلف أزمة دارفور عن غيرها من الملفات في تعامل القذافي معها؛ فكان حيناً وجاءً للحكومة السودانية في وجه تدويل الأزمة، وحيناً آخر يحتضن الجماعات المسلحة، ويقدم لها الدعم. كانت محاولات التهدئة تستبطن عداء خفياً للحكومة، فقد وقف مع إدريس ديبي في السنوات التي شهدت العلاقات بين الخرطوم وإنجيمنا توتراً، وكان أبرزها عملية الذراع الطويل في مايو/أيار 2008، والتي قامت بها حركة العدل والمساواة الدارفورية بهدف الإطاحة بنظام البشير، مستفيدة من الدعم التشادي والتمويل الليبي. عندما هدأت العاصفة بين البشير وديبي، انعكس ذلك إيجاباً بتوقيع اتفاق إطاري بين الحكومة السودانية وحركة العدل المساواة، في شباط/فبراير 2010، لعب ديبي دوراً محورياً لإتمامه. وعندما منعت إنجمينا خليل من دخول أراضيها بعدما هدد بالانسحاب من مفاوضات الدوحة؛ وجدت سفينة العدل والمساواة مرسى لها على الشواطئ الليبية. 

وجدت العديد من الدول الأوربية والغربية فرصة للانتقام من القذافي، عندما اندلعت شرارة الثورة في بنغازي. فتحت ذريعة حماية المدنيين، استطاع حلف الناتو أن يتدخل عملياً في الشأن الليبي؛ معرقلاً جهود الاتحاد الأفريقي، ضارباً بها عرض الحائط. وتحول قرار مجلس الأمن رقم 1973 من حماية المدنيين إلى الانخراط عملياً في تغيير النظام.   

أوردت التقارير وقتها أن عددا من الدول تدعم عملية "الحامي الموحد"، الاسم الذي أطلق على قصف الناتو لليبيا. كان السودان من بين هذه الدول، حيث قدمت الخرطوم عرضاً لفتح أجوائها لطيران حلف الناتو من أجل تطبيق حظر الطيران.  

كثرت التكهنات حول مشاركة السودان من عدمه، ثم تحول النقاش لتحديد أسباب التدخل: هل كان وسيلة للتقرب من المجتمع الدولي والحصول على رضاه؟ أم أن توهم واعتقاد السلطات وقتها بأن الربيع العربي، هو ربيع الإسلام السياسي دفعهم للتدخل في ليبيا؟ أم كان لسبب آخر؟

أعلن البشير، الرئيس المخلوع، في لقاء جماهيري حاشد في أكتوبر/ تشرين الأول 2011 أن الحكومة السودانية تدخلت في ليبيا، وقدمت السلاح للثوار الليبيين انتقاماً من معمر القذافي، ودوره السلبي في دعم حركات التمرد على امتداد تاريخ السودان. وقال إن جزءاً من السلاح الذي حرر طرابلس كان سودانياً. 

اعتبر والي شمال دارفور حينها، عثمان يوسف كبر، سقوط نظام القذافي تطوراً في عملية السلام بدارفور أكثر من اتفاقيتي أبوجا والدوحة للسلام. وزعم أمين حسن عمر، كبير مفاوضي الحكومة بمنبر الدوحة، أن مصدر التهديد قد زال بزوال القذافي، وأن محنة الخرطوم تحولت إلى منحة.  وتوالى تقديم الحكومة السودانية للدعم الفني والاستخباراتي، عندما ساهمت في القبض على رئيس المخابرات الليبي عبد الله السنوسي. لكن هل أصابت سهام الخرطوم لوحة الاستقرار أم أن غمرة الفرح أوهمتها بذلك؟  

الجبهة الثورية 

ضاقت الأرض الليبية بخليل إبراهيم، فقرر مغادرتها قبل أن يقع في قبضة المخابرات السودانية، والعودة لإقليم دارفور في سبتمبر/أيلول 2011 – الأمر الذي طالما سعت الخرطوم لمنعه. بعد عودة خليل إلى الأراضي السودانية، حدث تطور مهم في العمل المسلح في السودان متمثلاً في تشكيل الجبهة الثورية السودانية. قررت الحركات المسلحة الرئيسية في السودان: حركة تحرير السودان – جناح عبد الواحد، حركة تحرير السودان – جناح مناوي، حركة العدل والمساواة، والحركة الشعبية لتحرير السودان- قطاع الشمال؛ في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2011، التحالف تحت راية واحدة بهدف إسقاط النظام في الخرطوم.  

لم يؤثر مقتل خليل إبراهيم في ديسمبر/كانون الأول 2011 على التحالف الناشئ؛ فقد تولى رئاسة الحركة أخوه، جبريل إبراهيم – وزير المالية الحالي. انطلقت عمليات الجبهة الثورية في أواخر فبراير/شباط 2012 باحتلال منطقتي جاو وتروجي بجنوب كردفان؛ مما أمَّن الطريق بين مناطق سيطرة الحركة الشعبية – قطاع الشمال بجبال النوبة ودولة جنوب السودان.

شاركت حركة العدل والمساواة تحت مظلة الجبهة الثورية، بدعم من دولة جنوب السودان، في احتلال هجليج في أبريل/ نيسان 212.  وقد ألحقت عملية احتلال هجليج، رغم قصر مدتها، خسائر كبيرة بالاقتصاد السوداني؛ حيث فقد الجنيه السوداني ما يربو على 20٪ من قيمته أمام العملات الأجنبية، خسائر بلغت قيمتها 700 مليون دولار للحقل الذي يساهم بحوالي نصف إنتاج السودان النفطي.  

عقب انهيار المحادثات بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية – قطاع الشمال في 26 أبريل/ نيسان 2013، قامت الجبهة الثورية، في اليوم التالي، باحتلال مدينتي أم روابة وأبو كرشولا بكردفان. ورغم أن الجبهة انسحبت من أم روابة بعد ساعات من احتلالها، لكنها استطاعت المحافظة على أبو كرشولا لمدة شهر. وبحسب ياسر عرمان، مسؤول العلاقات الخارجية في الجبهة الثورية، فإن العملية العسكرية كان لها هدفان: احتلال الأبيض، والتوجه للخرطوم في حال السيطرة على الأبيض. 

الدعم السريع 

شكَّلت العقيدة القتالية للحركات المسلحة تحدياً حقيقياً للحكومة؛ فقد اعتمدت على خفة الحركة وكثافة استخدام الذخيرة. أعادت الحكومة لمواجهة هذه المعضلة، هيكلة قوات حرس الحدود والمجموعات العربية المسلحة، مكونة، عام 2013، ما بات يُعرف بقوات الدعم السريع. استطاعت هذه القوات تحقيق نجاحات في محاربة الحركات المسلحة بدارفور، فهزمت قوات مناوي في معركة دونكي البعاشيم عام 2014، ثم قصمت ظهر حركة العدل والمساواة، في 2015، في معركة قوز دنقو.  

بطبيعة الحال، انتشرت قوات الدعم السريع على الحدود السودانية الليبية لقطع خطوط إمداد الحركات المسلحة، ومنع تدفق المقاتلين على جانبي الحدود. وقد أورد تقرير لمسح الأسلحة الصغيرة عام 2018، جوانب من نشاط الدعم السريع غير القانوني، مثل الاتجار بالبشر – رغم حصوله على دعم الاتحاد الأوربي لمكافحة الهجرة – وبيع السلاح، وتوريد المخدرات إلى ليبيا من خلال وجودها على المثلث الحدودي بين السودان وجنوب السودان وأفريقيا الوسطى. 

تصاعدت أسهم محمد حمدان دقلو "حميدتي" عند الرئيس المخلوع، بسبب النجاح الذي حققه في محاربة الحركات المسلحة، مما دفعه للتغاضي عن انتهاكات الدعم السريع وجرائمه. وذهب أبعد من ذلك عندما وصف قرار تكوين الدعم السريع  بأنه "أحب القرارات وأفضلها". وقد أولى البشير تأمين سلطته ونفوذه العناية على حساب الحفاظ على تطوير وتحديث القوات المسلحة، وذلك بعد فشل المحاولة الانقلابية عليه عام 2012

لعل الحرب الدائرة اليوم، وحالة عدم الاستقرار التي لم يشهد لها السودان مثيلاً، قد نضجت ظروفها بعد تمدد الدعم السريع عقب الثورة السودانية (2018-2019)، لكنها لم تكن لتنضج لولا الذرة التي سقاها البشير.

الحرب الليبية 

قررت الحكومة السودانية التدخل في ليبيا للقضاء على مصادر عدم الاستقرار في السودان: العقيد معمر القذافي،  معتقدة أنه بزوال القذافي سيزول التهديد. لكن الخرطوم لم تكن مستعدة للتعامل مع الحرب الليبية وتبعاتها. وقد أثرت الحرب اللبيبة سلباً على استقرار السودان عبر أمرين إثنين: موقف الحكومة السودانية، ومشاركة الحركات المسلحة الدارفورية في النزاع.

عند تفجر الأوضاع في ليبيا عام 2014، كانت الحكومة السودانية تؤمن حدودها عبر القوات الليبية السودانية المشتركة. قامت الحكومة السودانية بدعم مجموعة فجر ليبيا، ذات التوجه الإسلامي، والتي تسيطر على الغرب الليبي، وذلك عبر العتاد العسكري إلى مطار معيتيقة. أدى هذا الموقف لتدهور العلاقات مع الشرق الليبي، الذي كانت تتهمه الخرطوم بتهديد أمنه القومي بإيواء الحركات المسلحة الدارفورية. على إثر هذا التدهور، انسحب الجانب الليبي، في 2015، من القوات المشتركة لتأمين الحدود، خاصة وأن المجموعات القبلية التي تشكل قوام القوة المشتركة من الجانب الليبي، كانت تتلقى رواتبها من حكومة عبد الله الثني في الشرق الليبي.

شكلت الحرب الليبية باباً كبيراً للارتزاق؛ فقد كان الاستعانة بمرتزقة أجانب أقل من ناحية التكاليف مقارنة بالتجنيد أوساط الليبيين، إذ أن موت المرتزق لا يستدعي دفع دية لذويه، عكس المقاتل الليبي الذي يطالب أهله بالدية. استطاعت الحركات المسلحة الدارفورية إعادة بناء نفسها، وتسليح أفرادها عبر القتال بجانب أحد الفرقاء الليبيين – خاصة شرق ليبيا. كما أنها استفادت من عمليات تهريب السلاح والمركبات والوقود من ليبيا إلى دارفور، حسب تقرير أممي. ورغم العلاقات الوطيدة بين الخرطوم والغرب الليبي؛ فقد استعانت السلطات الليبية في طرابلس بحركة العدل والمساواة. 

لا تزال ليبيا إلى يومنا هذا معبراً للسلاح والمقاتلين في الحرب الدائرة في السودان، وقد كشف تقرير لجنة الخبراء الأممية الخاصة بليبيا، والصادر أواخر عام 2024، أن الدعم السريع هو المستفيد الرئيس من دور القوات المسلحة العربية الليبية التي يقودها خليفة حفتر. ويستفيد الدعم السريع من تدريب مقاتليه على استخدام المدفعية، وعبر توفير طرق إمداد جوية وبرية داخل الأراضي الليبية. كما أن التقرير أشار إلى أن حركة تحرير السودان – جناح مناوي نجحت في تجنيد مجموعة من قبيلة الزغاوة التشادية، وإدراجهم ضمن صفوف الحركة في ليبيا، قبل أن ينخرطوا في الحرب. 

بعد أربعة عشر سنة من التدخل السوداني في ليبيا، تبدو الصورة أكثر قتامة مما كانت عليه. عملت السلطات السودانية على إبعاد أحد الشرور بالنسبة لها، لكنها لم تعمل على منع تكراره.  سواء أكانت الحكومة السودانية على دراية بخطواتها أم لا، وسواء أكان تأييد الإطاحة بالقذافي استحق ما يدفعه السودانيون اليوم أم لم يستحق؛ فالأكيد أن الوضع الحالي بليبيا يشكل تحدياً للأمن القومي السوداني، وبصورة أخطر مما كانت عليه أيام القذافي.