الأربعاء 19 نوفمبر 2025
تخيل أن امرأة في قرية رواندية تختبئ مع طفلها خلف جدار طيني، تسمع وقع الأقدام يقترب، وصوت مذياع يبث نداءً صريحاً: "اقطعوا الأشجار الطويلة". لم تكن تعرف أن هذا الشعار الرمزي يعني قتل جيرانها من التوتسي، ولا أن تلك اللحظة ستتحول إلى علامة فارقة في التاريخ الحديث، حيث انطلقت واحدة من أسرع الإبادات الجماعية وأكثرها وحشية. هذه الحكاية الصغيرة ليست سوى مرآة لملايين القصص الأخرى، من الكونغو إلى دارفور، من ناميبيا إلى إثيوبيا.
إن الإبادة الجماعية فعل يطمس الذاكرة، ويكتم الأصوات المعارضة، ويحوّل الإنسان إلى مجرد رقم في سرديات السلطة والعنف. إنها قتل للروح الجماعية قبل الجسد، وصناعة صمت إجباري يرافقه إنكار رسمي أو تبرير "تمديني". لهذا يصبح من الضروري دق ناقوس الخطر لأجل مواجهة الحاضر حيث ما زالت الإبادات تجري بوجوه مختلفة: في الشرق الأوسط، في آسيا، وفي مناطق أخرى من العالم.
وأي دراسة نقدية لهذه الظاهرة لا بد أن تنطلق من الوعي بأن الإبادة ليست طارئة على مسار التاريخ، بل هي جزء من آلية بناء الدول، وإعادة تشكيل المجتمعات وفق منطق القوة، سواء كانت هذه القوة استعمارية وافدة، أو سلطة إقليمية مجاورة، أو نظاماً داخلياً يسعى إلى التطهير العرقي أو الثقافي.
يبدو مفيدا، قبل الولوج إلى الموضوع، التوقف عند المفهوم الإبادة الجماعية، حيث نجده لم يظهر إلا في منتصف القرن العشرين، حين صاغه رجل القانونالبولندي رافائيل ليمكين عام 1944 في كتابه "Axis Rule in Occupied Europe". وقد جمع ليمكين بين الكلمة اليونانية) genos العِرق أو الجماعة) واللاتينية) cide = القتل)، ليعبّر عن جريمة تهدف إلى القضاء المادي والروحي على جماعة بشرية بأكملها.
المهم في تعريف ليمكين أنه لم يحصر الإبادة في القتل الجسدي فحسب، بل أدرج ضمنها ما سماه "الإبادة الثقافية" ((cultural genocide ؛ أي تدمير لغة الجماعة ودينها وعاداتها ومؤسساتها، باعتبار أن محو الهوية الثقافية لا يقل خطورة عن محو الأجساد. وقد كان هذا البعد الثقافي حاضراً بقوة في تجارب الاستعمار والإقصاء في أفريقيا، حيث ارتبط العنف العسكري دائماً بسياسات لغوية ودينية وتعليمية تسعى إلى إعادة تشكيل الإنسان الأفريقي وفق نموذج القوة المهيمنة.
الإبادة ليست قتلاً للجسد فقط، بل قتلٌ للروح الجماعية وصناعة صمتٍ إجباري يرافقه إنكار رسمي أو تبرير تمديني
ثم أدرجت اتفاقية الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، لمنع جريمة الإبادة والمعاقبة عليها (1948) التعريف القانوني الذي يركّز أكثر على القتل الجسدي، لكنها أبقت الجدل مفتوحاً حول البعد الثقافي. ومنذ ذلك الحين ظل النقاش قائماً بين الباحثين: هل تكفي المعايير القانونية لفهم خطورة الإبادة؟ أم يجب النظر إليها كتجربة اجتماعية –أنثروبولوجية أوسع، تشمل محو الرموز والذاكرة والهوية؟
ولو عدنا إلى قارتنا الأفريقية، لوجدنا أن تاريخها مثخن بأشكال متعددة من الإبادة، بعضها جرى على أيدي قوى استعمارية أوروبية جاءت باسم "التمدين" و"التحديث"، وبعضها الآخر ارتُكب بين دول أو جماعات عرقية متجاورة داخل القارة نفسها. تكشف هذه الحقيقة أن الإبادة ليست استثناءً، بل جزء من "العلاقة السياسية" حين تتحول القوة إلى وسيلة لإلغاء الآخر. ومن منظور أنثروبولوجي وثقافي، يمكن القول إن هذه الإبادات لم تكن مجرد تدمير للأجساد، بل كانت محواً للذاكرة الجماعية: للغات وللرموز وللشعائر التي كانت تشكّل هوية الجماعات.
أولى المحطات التي تفرض نفسها هي تلك التي رافقت الاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر. لم يكتف الاستعمار بتقسيم أفريقيا على الخرائط، بل فرض تقسيمات قسرية جديدة على الأرض والإنسان. في الكونغو على سبيل المثال، تحولت البلاد تحت حكم ليوبولد الثاني ملك بلجيكا إلى مسرح لأبشع الجرائم: قطع الأيادي كعقوبة جماعية، العمل القسري الذي أدى إلى موت الملايين، واستنزاف الموارد البشرية والطبيعية بشكل ممنهج.
هنا تظهر الإبادة لا كفعل مباشر في ساحة معركة، بل كممارسة اقتصادية يومية، تختزل الإنسان إلى أداة إنتاج يُفنى بمجرد استنزافه. إنها إبادة "هادئة" في ظاهرها، لكنها تترك وراءها فراغاً حضارياً لا يقل عن المجازر الصريحة.
في ناميبيا، ارتكب الألمان ما يُعتبر أول إبادة جماعية في القرن العشرين ضد شعبي الهيريرو والناما. بعد تمرد السكان المحليين على المستعمر، قررت القوات الألمانية الرد بإبادة شاملة: قتل جماعي وطرد إلى الصحراء ومنع من الوصول إلى مصادر الماء ومعسكرات اعتقال. هذه الحادثة، التي غالباً ما يجري تجاهلها في السرديات الأوروبية، تكشف كيف أن الإبادة كانت جزءاً عضوياً من مشروع الاستعمار، وسابقة لما سيأتي لاحقاً في أوروبا نفسها خلال الحربين العالميتين.
الإبادة ليست شذوذاً عن مسار التاريخ، بل أحد وجوهه القاتمة التي تتكرر كلما غاب الوعي، وانتصر الإقصاء
بيد أن الإبادة في أفريقيا ليست حكراً على الاستعمار الخارجي. فحين خرجت الدول الأفريقية من ربقة الاستعمار، ورثت أنظمة سياسية هشة ومجتمعات مشرذمة. في بعض الحالات، استُخدمت الهويات الإثنية والدينية كأداة للسيطرة، فتحولت الخلافات الاجتماعية إلى وقود لحروب إبادة.
أوضح مثال على ذلك هو رواندا سنة 1994، حين تحوّل خطاب الكراهية الممنهج إلى مجازر أودت بحياة ما يقارب 800 ألف إنسان من التوتسي والهوتو المعتدلين. ما يهم هنا ليس فقط حجم المأساة، بل الطريقة التي تمّت بها: إذ كانت الإبادة عملاً جماعياً، شاركت فيه وسائل الإعلام والأجهزة الإدارية، بل وحتى الجيران. هذه المشاركة الواسعة تكشف أن الإبادة ليست دائماً قراراً فوقياً من الدولة وحدها، بل يمكن أن تتحول إلى ثقافة مُعاشة، تُنتجها البنية الاجتماعية نفسها حين تتشبع بخطاب الكراهية.
تكررت الصورة في سياق مختلف في دارفور بالسودان، لكن النتيجة كانت متشابهة: عمليات تطهير عرقي استهدفت مجموعات بعينها، تحت غطاء حرب أهلية وصراع على الموارد. هنا يظهر البعد الأنثروبولوجي للإبادة بشكل واضح، فهي لم تكن فقط قمعاً عسكرياً، بل أيضاً محاولة لطمس البنية القبلية والثقافية لمجموعة بعينها، من خلال إحراق القرى، واغتصاب النساء كوسيلة لتفكيك الهوية الجمعية، وتشتيت السكان.
إذا نظرنا إلى هذه الأمثلة مجتمعة، نجد أن المشترك بينها هو تلاقي منطق الدولة بمنطق العنف. فحين تتأسس الدولة على إقصاء الآخر، أو على منطق الهيمنة العرقية أو الاستعمارية، تصبح الإبادة خياراً "عقلانياً" في نظر السلطة. لكنها عقلانية مدمرة، لأنها تفترض أن الاستقرار لا يتحقق إلا بإلغاء التنوع. ومن هنا تأتي خطورة الإبادة: فهي ليست فقط جريمة ضد الإنسانية، بل أيضاً جريمة ضد إمكانية العيش المشترك.
الاستعمار الأوروبي قدّم نفسه مشروعاً لإنقاذ الأفارقة من بدائيتهم، فيما كان يبني مختبراً للإبادة باسم "التمدين والتحرير"
في المستوى الثقافي، تمثل الإبادة محاولة لقطع السلسلة الرمزية التي تربط الإنسان بماضيه وجماعته. حين يُقتل شخص، يُمحى جسده؛ لكن حين يُمحى شعب، فإن ما يُقتل هو لغته وأمثاله الشعبية وأغانيه وذاكرته. ولهذا نجد أن كثيراً من الإبادات رافقتها سياسات لمحو الثقافة: فرض اللغة الاستعمارية، تدمير المقدسات المحلية، تشويه الرموز التاريخية. وكأن القتل لا يكتمل إلا حين يصبح الآخر غير قادر على رواية حكايته. هذا البعد هو ما يجعل من دراسة الإبادة ضرورة أنثروبولوجية، لأن فهمها يتطلب قراءة في الرموز والمعاني، لا في الدماء وحدها.
من اللافت أن كثيراً من هذه الإبادات جرى تبريرها بخطابات "تمدينية" أو "تحريرية". الاستعمار الأوروبي اعتبر نفسه مشروعاً لإنقاذ "الأفارقة" من بدائيتهم، والحكومات الأفريقية التي مارست العنف اعتبرت نفسها تحافظ على "الوحدة الوطنية". هذه الخطابات تفتح باباً لفهم أعمق: الإبادة ليست دائماً فعلاً وحشياً بلا غطاء، بل كثيراً ما تأتي ملفوفة بلغة نبيلة، تُقنع الفاعل ببراءة فعله. وهنا تكمن خطورة الذاكرة الانتقائية، لأنها تترك الماضي بلا مساءلة، وتسمح بتكرار الجرائم في صور جديدة.
اليوم، حين ننظر إلى ما يجري في العالم من عمليات تطهير عرقي في الشرق الأوسط (غزة تحديدا) وآسيا، ندرك أن دروس أفريقيا لم تُستوعب بعد. الإبادة ليست حدثاً من الماضي البعيد، بل هي احتمال قائم دوماً، يطفو كلما اختل ميزان القوة، أو استُعملت الهوية كسلاح سياسي. ومن هنا فإن استعادة تاريخ الإبادات في أفريقيا ليس مجرد تمرين أكاديمي، بل هو فعل تحذيري، يعيد إلى الواجهة سؤال: كيف يمكن منع تكرارها؟
ما يحدث في غزة اليوم يذكّرنا أن دروس إفريقيا لم تُستوعب بعد: حين يتحول الأمن إلى ذريعة للفناء، ويصبح الخطاب السياسي غطاءً للإبادة
الجواب لا يكمن في القوانين الدولية وحدها، رغم أهميتها، بل في بناء ثقافة مضادة للإقصاء. فالمجتمع الذي يحفظ تنوعه هو الأكثر مناعة ضد منطق الإبادة. لهذا يصبح العمل على حفظ الذاكرة، وتدريس التاريخ كما هو لا كما يُراد له أن يُكتب، شرطاً أساسياً لبناء حصانة ثقافية. كما أن مساءلة الماضي، عبر الاعتراف بالجرائم والاعتذار عنها كما بدأ يحدث في بعض الدول الأوروبية تجاه ماضيها الاستعماري، هو جزء من هذا المسار، كما في الاعتراف الألماني المتأخر بجرائمها في ناميبيا.
إن نقد تاريخ الإبادات في أفريقيا يكشف في النهاية أن هذه الجرائم لم تكن مجرد انحرافات، بل كانت جزءاً من ديناميكيات القوة في العالم الحديث. وهي تذكّرنا بأن الإبادة ليست شذوذاً عن مسار التاريخ، وإنما هي أحد وجوهه القاتمة التي قد تتكرر في أي مكان إذا غاب الوعي وانتصرت نزعات الإقصاء.
وليس علينا أن نذهب بعيدًا لندرك ذلك؛ فالمشهد الإنساني في غزة اليوم يضعنا أمام امتحان أخلاقي مشابه. فالقصف العشوائي واستهداف المدنيين وتهجير السكان ومحو البنية العمرانية وتجفيف الموارد الحيوية كلها ممارسات تحمل سمات واضحة لما سماه رافائيل ليمكين بـ"الإبادة الثقافية" قبل أن تكون إبادة جسدية. ما يحدث هناك يعيد إلى الواجهة الأسئلة التي طرحها التاريخ الإفريقي: كيف يتحول الأمن إلى ذريعة للفناء؟ وكيف يبرر الخطاب السياسي العنف باسم "الحماية" أو "التحرير"؟
إذا كانت إفريقيا قد علّمتنا أن الإبادة ليست استثناءً، فإن غزة تؤكد أن الصمت الدولي يعيد إنتاج نفس الكارثة في زمننا. ومن هنا يصبح واجبًا ثقافيًا وأخلاقيًا أن نمنح الضحايا صوتًا عبر جعل ذاكرتهم جزءًا من ذاكرة إنسانية أشمل. فالمجتمع الذي يحفظ تنوعه ويقاوم الإقصاء هو الأكثر مناعة ضد منطق الإبادة، والإنسانية التي تتذكر ولا تنسى هي الأقدر على منع تكرار المأساة.