تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الاثنين 28 أبريل 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
قص

عيادة أمانو

18 مارس, 2025
الصورة
geeska cover
Share

في صباح يوم سبت ضبابي كئيب كنت في مكتبي أصبّ قهوة لنفسي، وأستعد لكتابة تقرير مملّ للرئيس، جلست أمام الحاسوب الآلي متعبة، ومذاق مرّ في فمي، ثم أدركتُ أن دورتي الشهرية متأخّرة ثلاثة أسابيع كاملة.

لاحقاً، وعندما عدت إلى غرفتي تأمّلت جسدي عارياً أمام المرآة، أبحث عن الشّرخ الذي حدث فيه، في أي متاهة يختبئ فيه الوجود الآخر، بدا لي غريباً، غير مبالياً، ومثالياً إلى حد كبير. ولكنّه لا ينتمي إليّ بكل الأحوال، مجرّد شيء من الأشياء الجميلة في هذا العالم.

في ذلك اليوم كتبتُ في مذكّرة جوّالي بأنّني "أشعر بالانتهاك".

في المستشفى قابلتُ فتاة حاملاً في الشهور الأخيرة، كانت تُمسك بطنها المنتفخ بلطف بالغ، زاد المنظر من هلعي وغثياني.

أخبرني الطّبيب بما كنت أخشاه، ثم أضاف بابتسامة "لا يوجد ما يدعو إلى القلق، سوف تنجبين طفلاً جميلاً يشبه والده"، لم أردّ عليه بل اكتفيت بحمل جسدي بالخروج، ورأيت الفتاة بالوضعية نفسها المثيرة للكآبة.

قضيتُ اليوم بأكمله أهيمُ في الشّوارع بخطواتٍ بطيئة، كل شيء حولي غارقٌ في سكُون يفرضه الضّباب الكثيف الذي يلفّ المدينة، الهواء رطب، والأرض مبلّلة ببقايا مطرٍ خفيف هطل قبل قليل، وأنا أستمع صوت أم كلثوم لتكتمل دراماتيكية المشهد.

أعطني حريتي أطلق يديَّ .. إنّني أعطيت ما استبقيت شيّئا.

في المساء رجعتُ مشياً بالأقدام، لأنّي تركت سيارتي في المنزل والمواصلات العامة لم تعُد تناسبني.

في الأسابيع القادمة سوف أفكّر بالموت كأفضل حلٍّ لأزمتي، وكوسيلةٍ لاسترجاع جسدي المنهُوب، سوف يتملّكني غضبٌ شديد، وفي حالة من اليأس، سأقرّر أن لا أشارك أحداً بالأمر، وأن أتعامل معه بكلّ ما لديّ من عنفٍ وقسوة، وهذا ما فعلت!

الّنساء في عالمي ضائعات، ولا يتّخذن قرارات فيما يخصّ أجسادهن علناً ومن دون موافقة، والإجهاضُ جريمة تغرَّم صاحبتها، ولكن هذا لا يعني أنه لا يحدُث، إنه فقط حدثٌ غير معلَن، البعض منّا تحمل عارها إلى بلد آخر حيث يوجد مكان يحتويه، والبعض قد يحصل على مساعدة من نوع آخر، وفي حالتي وجدت عيادة تديرها امرأة تُدعى "فاتي".

توجد عيادة أمانو في حيّ مكتظّ بالسّكان، حيث تتراصّ البيوت كأنها تتّكئ على بعضها البعض، تاركةً ممرّات ضيقة يمرّ منها نسيم حارُّ، يحمل معه رائحة البهارات وأصوات الحياة اليومية، والأزقّة مليئة بالنّاسِ طوال اليوم، أطفالٌ يجرون ويضحكون، نساء يتبادلن الأحاديث من النوافذ المفتوحة على بعضها، حيث صدى ضحكاتهنّ وأصواتهنّ يصلُ إلى كلّ زاوية، والّرجال على الأرصفةِ يجلسون على مقاعدَ خشبيّة قديمة، ويلعبون الدُومينو، لقد كان وما زال أكثر الأماكن صخباً في المدينة!

تبدو العيادة متواضعةً ومخفيةً عن الأنظار واجهتها باهتة، وجدرانها تحملُ أثار زمنٍ مضى، بينما يقف لوحُ إشارة قديم عند المدخل، تغطّيه طبقةٌ من الصدأ ومنقوشٌ عليه رقم بالكاد يمكن قراءته من دون تفاصيل أخرى.

يسودُ المكان هدوء ثقيل، يكسره بين الحين والآخر صوت خطواتٍ حذرة أو همساتٍ مقتضبة بين الزّوار، الرّدهة صغيرة، ومؤثثة بأثاث بسيط ومقاعد بلاستيكيّة مصطفّة على الجانبين، الإضاءة خافتة، ووجوه الفتيات مغطّاة بأوشحة سوداء، مما يُضفي على الجو إحساسًا بالكِتمان والانكِماش، هناك أيضاً بعض الملصقات الطبية التي تشير إلى معلومات غير ذي صلة.

فاتي ومساعدتها تتحركان بهدوء، كأنهما معتادتانِ على التّعامل مع زوّار يتشاركون ذاتَ القلق، وذات الرّغبة في إنهاء شيء ما قبل أن يُصبح أثقل مما يُحتمل.

خلف بابٍ داخليّ مغلق، تترأس غرفة الفحص، حيث سرير طبي مغطّى بملاءةٍ بيضاء، وأدوات مرتّبة بعناية على طاولة معدنية باردة، والرائحة الممزوجة بين المطهّرات والقلق تملأ المكان، في حين تبدو الأجواءُ مشحونةً بالمشاعر المتناقضة: الخوف، التّرقب، وربما الفراغ وعدم اليقين.

انغرستُ في الكرسي أنتظر دوري، كما أخبرتني المساعدة.

كنّا ثلاثة أشخاصٍ مجهولي الهويّة، ضحايا الجهل والغباء، لم تفكّر أيّا منا عندما كان الجسدُ ملتحماً بالجسدِ، ويؤدّي رقصة الموت أن للجنس أبعاد أخرى متّصلة بالأمراض والأطفال، شعرتُ بعطفٍ بالغ تجاههنّ، أردتُّ معانقتهنّ والتّحدث باستفاضة عما حدث، ولكنّني لم أفعل أيّا من هذا وسرعان ما نادت فاتي باسمي.

أمرتني أن أستلقِي على ظهري في سريرٍ ضيق، وبدأت تسألني عن اسمي، وعمّا يدفعني للقيام بما أقومُ به، وعندما لم أعطها أجوبةً أخبرتني بحزمٍ بأنّها لن تَتعامل مع مهبل امرأة لا تعرف عنها شيئاً.

أعطيتها أجوبة مقتضبة، وأنا أكاد أختنق من الخوف.

بعد قليل وضعت المرأة شيئاًّ معدنياً بين فخذيّ، وبدأتُ أتألّم بصورةٍ لم يسبق لي أن عرفتها، ولكنّني منعت نفسي من البكاء، وتركتُ فاتي تقوم بعملها.

فكّرتُ في أمّي، وأدركتُ أنني تجنّبت الحديث معها منذ ذلك الصباح، أصبحت الآن شخصا غريبا عنّي، وقرّرت أن لا أسكن مع والداي عندما أحلّ مشكلتي هذه.

لم أعرف متى خلصت، فقد كنتُ مستغرقة في قلقٍ وألم فظيعين.

أخبرتني المرأة بأن الأمر قد انتهى، وساعدتني على الجلوس، ثم أعطتني دواء مخفّفا للألم، ونهضتّ بصعوبة.

كان السّرير وما حوله قد تحوّل إلى دماء، وأردت أن أصرخ، ولكنني لم أستطع.

ساعدتني المساعدة للوصول إلى سيارة أجرة طلبتها لي، كان العالم في الخارج مختلفاً بشكلٍ مؤلم.

في السّيارة بكيتُ بحرقة، وكانت تلك أول مرة شعرت فيها بالخوف من الموت، ولزمنٍ طويل لازمَني الإحساس بالعار، وكم تمنيتُ أن يتلاشَى هذا الشعور، وأن يعود كلّ شيء إلى طبيعته.

كان ذلك الحدث قد حدّد مصيري، وأصبح عليَّ التّحلي بشجاعة امرأة معلّقة من مصيرها، وأن أواصل ملأ فراغي الممتدّ خارج جسدي بمعاني مستخرجة من عالم تجنّبت الاحتكاك به منذ فترة، ثم اختصرت الحدث بأكمله بالاستلقاء، وبحواراتٍ صامتة حول الأمومة والطّفولة وعن أشياء من هذا القبيل.