تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأحد 16 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
رأي

ورثة النضال في جنوب السودان... أي تأثير للظاهرة على مستقبل البلاد؟

6 سبتمبر, 2025
الصورة
ورثة النضال.. أي تأثير للظاهرة على مستقبل دولة جنوب السودان؟
Share

منذ إعلان استقلال دولة جنوب السودان عن السودان عام 2011، ظل إرث حرب التحرير الأخيرة (1983-2005) حاضرًا بقوة في الحياة السياسية، حيث أصبح المقاتلون الذين ساهموا في إنجاز الاستقلال أعمدة للنظام الجديد، غير أن مشهدًا آخر بدأ يطفو على السطح، وهو تعيين أبناء هؤلاء المسؤولين في مواقع حكومية مؤثرة.

هذه الممارسة، التي يُبرَّر اعتمادها باعتبارها امتدادًا طبيعيًا لتضحيات "المناضلين"، خلقت جدلًا كثيفًا في الساحة السياسية بين من يرونها اعترافًا مستحقًا ببطولات الماضي، ومن يعتبرونها عائقًا أمام بناء دولة حديثة قائمة على الكفاءة وتكافؤ الفرص، هذا الجدل يثير تساؤلات حادة حول مستقبل الدولة، ومعايير الحكم، وشرعية المشاركة السياسية في بلد ما زال في طور البناء والتأسيس.

في الأشهر القليلة الماضية، ومع دخول عدد من القادة المؤسسين للحركة الشعبية لتحرير جنوب السودان – الحزب الحاكم – مرحلة التقاعد بفعل عوامل التقدّم في العمر وتقديرات السياسة الداخلية، برزت موجة جديدة من التعيينات داخل أجهزة الدولة ومؤسسات الحكم، تمثّلت في صعود أبناء الصف الأول من قادة الحركة إلى مواقع قيادية عليا. وكان لافتًا أن أغلب هذه التعيينات شملت نساءً من أسر سياسية مرموقة، مثل أقوم أويت أكوت، ابنة نائب رئيس الحزب السابق وأحد مؤسسيه دانيال أويت أكوت، التي تم تعيينها في منصب وكيل وزارة الشباب والرياضة، إلى جانب أتونق كوال، ابنة النائب الثاني لرئيس الحزب كوال منيانق جووك، التي تولّت حقيبة وزارة التجارة. وأخيرًا، أقدم الرئيس سلفا كير ميارديت على تعيين ابنته الكبرى أدوت سلفاكير في منصب المبعوث الرئاسي للبرامج الخاصة.

بدلاً من أن يفتح هذا "التوريث السياسي" أفقًا جديدًا للبلاد، فإنه يضع الأبناء في قلب واقع سياسي مرسوم بعناية، محكوم بالتحالفات القديمة والمرارات العميقة، وهو واقع سيجعلهم أسرى للقيود نفسها التي كبّلت جيل آبائهم

حملت هذه التعيينات في ظاهرها طابعًا تعويضيًا لقيادات الحركة الذين خاضوا حرب التحرير الطويلة، وكأنها امتداد رمزي لتاريخهم النضالي. لكن في جوهرها أثارت مخاوف عميقة حول مستقبل العملية السياسية ومعايير الترقي داخل الحزب والدولة. فبدل أن تكون الكفاءة والمقدرة هي الأساس، بدا أن "الانتماء البيولوجي" أصبح جواز المرور نحو المناصب العليا، ما جعل معايير الحكم نفسها عرضة للتآكل.

يخشى مراقبون من أن يرسّخ هذا المسار شكلًا جديدًا من التوريث السياسي داخل النخبة الحاكمة في جنوب السودان، ويحوّل الحركة الشعبية من تنظيم ثوري نشأ على فكرة التحرير إلى مؤسسة عائلية، تُدار وفق منطق الامتيازات الموروثة، وهو ما يمثل تحديًا خطيرًا لبناء دولة ديمقراطية حديثة في جنوب السودان.

لقد خلقت موجة التعيينات المتتالية لأبناء الزعماء والقيادات التاريخية، الذين ما زال بعضهم على قيد الحياة من جيل التحرير، نقاشات واسعة حول رمزية الثورة ودلالاتها بالنسبة للشعب في جنوب السودان. فالتحرر الوطني لم يكن مجرد مشروع خاص بالنخبة، بل كان نتاج تضحيات جسيمة قدّمها غالبية أبناء وبنات البلاد، في ظل عمليات تعبئة وتحشيد ثوري اتخذت طابعًا أقرب إلى "تبرّع الأسر بأبنائها" للالتحاق بصفوف الجيش الشعبي لتحرير السودان.

من هذا المنطلق، كانت التوقعات الشعبية تميل إلى أن ثمار الاستقلال يجب أن تُجنى بشكل جماعي، وأن فرص المشاركة في الدولة ينبغي أن تكون متاحة أمام الجميع، لا أن تختزل في نطاق عائلي ضيق.

بدل أن تكون الكفاءة والمقدرة هي الأساس، بدا أن "الانتماء البيولوجي" أصبح جواز المرور نحو المناصب العليا، ما جعل معايير الحكم نفسها عرضة للتآكل

لكن، وبخلاف هذه التوقعات، فإن معظم الأسماء التي تم تعيينها مؤخرًا بقرارات رئاسية لم تأت عبر المسار التنظيمي للحزب أو من خلال القنوات الطبيعية للعمل السياسي. فهناك جيل واسع من الشباب في أعمارهم خاضوا غمار التجربة السياسية من مواقع مختلفة، في الجامعات، وفي ساحات القتال، أو عبر النشاط النقابي والمهني، غير أن هؤلاء ظلوا على الهامش، فيما حظي " الورثة" بالمناصب بحكم القرابة والنسب العائلي، هذا التفاوت عمّق الشعور بالغبن لدى قطاعات شبابية واسعة، وأعاد إلى الواجهة سؤالًا جوهريًا حول ما إذا كان التحرير قد تحوّل من مشروع جماعي إلى امتياز خاص.

تلك الخطوات، التي ربما وجدت مباركة أو قبولًا ضمنيًّا من المؤسسة الحزبية، تكشف جانبًا من طبيعة اتخاذ القرار داخل الحزب الحاكم نفسه، حيث بدا أن همّ القيادات التاريخية ينصرف أكثر إلى ضمان مستقبل أسرهم وأبنائهم بدل الانشغال الجاد بمستقبل البلاد نفسها. غير أن هذا المنطق يغفل حقيقة جوهرية مفادها أن النضال والتاريخ لا يمكن توريثهما، فهما سِمتان شخصيتان ارتبطتا بتجربة فردية عاشها جيل بعينه، وبالتالي، فإن أبناء وبنات القادة لن يرثوا بالضرورة ذلك التقدير الشعبي الذي ارتبط بتضحيات آبائهم، بل سيكونون في مواجهة مباشرة مع إرث وتجربة حكم مليئة بالإخفاقات على صعيد الاقتصاد، وبناء المؤسسات، وإدارة التنوع الاجتماعي والسياسي.

إلى جانب ذلك، فإن معظم هؤلاء "الورثة" يفتقرون إلى الأدوات السياسية والمعرفية التي تؤهلهم للقيام بدور قيادي حقيقي، أو تقديم مبادرات قادرة على إنقاذ البلاد التي ما زالت تعاني انقسامات رأسية عميقة، ومع غياب الكفاءة وضعف التجربة، يصبح الرهان على أسمائهم العائلية وحدها غير كافٍ لتأسيس شرعية سياسية، بل على العكس، قد يعمّق الهوة بين السلطة والمجتمع، ويقوّض فرص بناء نظام ديمقراطي مستقبلي قائم على المشاركة والشفافية.

المسألة الأخرى، وربما الأكثر خطورة، تكمن في أن الفرضية التي استندت إليها تلك التعيينات لن تصمد طويلًا، لأن الدولة لا يمكن التعامل معها كملكية خاصة تُدار وفق منطق العائلة والميراث، تلك هي الحقيقة الصادمة التي سيواجهها "الأبناء الورثة" عاجلًا أم آجلًا، في ظل غياب العزيمة السياسية والرؤية الوطنية التي فشل معها جيل المناضلين أنفسهم في صياغة تجربة حكم نموذجية، تستمد قوتها من مشروعية وأهداف الثورة. بذلك، يجد هؤلاء الأبناء أنفسهم مضطرين إلى مواجهة إرث الانقسامات والإخفاقات التي خلفها الآباء، لا سيما الانقسامات الحادة داخل النخبة السياسية، والتوترات الاجتماعية التي غذّت النزاعات منذ الاستقلال.

هذا المنطق يغفل حقيقة جوهرية مفادها أن النضال والتاريخ لا يمكن توريثهما، فهما سِمتان شخصيتان ارتبطتا بتجربة فردية عاشها جيل بعينه

بدلاً من أن يفتح هذا "التوريث السياسي" أفقًا جديدًا للبلاد، فإنه يضع الأبناء في قلب واقع سياسي مرسوم بعناية، محكوم بالتحالفات القديمة والمرارات العميقة، وهو واقع سيجعلهم أسرى للقيود نفسها التي كبّلت جيل آبائهم، وبذلك، لن يتمكنوا من وراثة التقدير المرتبط بالنضال، بل سيرثون بالضرورة الأزمات والاحتقانات السياسية والاجتماعية التي تعيشها البلاد اليوم، مما يحوّل الامتياز الموروث إلى عبء سياسي ثقيل بدلا من أن يكون مصدرًا لشرعية جديدة.

عليه، يمكن القول ببساطة إن الإجراءات الأخيرة التي جاءت بأبناء القادة في مواقع آبائهم قد تبدو في ظاهرها نافذة أمل جديدة. لكن في حقيقتها نافذة زجاجية مغلقة لا تسمح بمرور أي هواء نقي ينعش العملية السياسية أو يحرّك الواقع الجامد، بل على العكس، فإنها تهدد بمزيد من الاختناق السياسي، لأنها حملت رسالة خاطئة إلى الرأي العام لا أحد يرغب أو يستطيع تحمل مسؤولية تفسيرها. والأخطر من ذلك، أنها أعادت فتح السؤال من جديد حول مستقبل الدولة والحزب والعملية السياسية، خاصة في ظل اقتراب موعد الانتخابات العامة المقررة العام المقبل، في وقت يرزح فيه جنوب السودان تحت وطأة واقع سياسي واقتصادي مأزوم. في مثل هذه الظروف، تصبح التعيينات الموروثة عاملًا إضافيًا يضعف الثقة الشعبية، بدل أن تكون مدخلًا لإصلاح النظام السياسي أو إعادة تأهيله.

إن جنوب السودان، وهو بلد يواجه حالة مستمرة من السيولة السياسية والهشاشة المؤسسية، لن يجد طريقه إلى الاستقرار والتنمية إلا عبر مصالحة وطنية شاملة تفتح المجال أمام جميع مكوناته، وتعتمد على حوار صادق بين الحكومة والمعارضة. فالدولة التي تأسست على اتفاقيات السلام وتسويات الترضية والتوازنات الإثنية والمناطقية، لن تزدهر ما لم تُبنَ على إرادة حرة وقرار مستقل لجميع مواطنيها.

هنا تبرز مسؤولية القيادة، في الدولة والحزب على حد سواء، بأن تجعل الحفاظ على إرث النضال مقترنًا، وبالقدر نفسه، بواجب صون وحدة التراب الوطني، باعتبارها الأولوية القصوى في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ البلاد.