الأربعاء 19 نوفمبر 2025
ناندي جميلة راقصة بلا سبب. أحبُّ من الأيام جنونَها التي تجعلها تحرق الشمعات عند منتصف النهار. ناندي، الحزنُ لا يليق بها؛ ضحوكةٌ خجولة. وهذا قولُ أول كاتب نيليٍّ عشقَ ناندي قبل ديارها. ناندي، دعيني أختلي بكِ ومعكِ من وراء الحروف، لنحبَّ معًا ثم نكره، لنرقصَ معًا وفي أيدينا أكوابُ النبيذ، ثم لنُصغِ السمعَ إلى صوت الناي الذي تحبّينه. هذه الدنيا حُبلى بالأوجاع، فلنسترقْ بعضًا من الوقت لننسى الجراحَ والآلامَ والحروب. هذه الأرض خُلقت لممارسة الحب، عن قربٍ كان أو عن بُعد. فالأمر إليك فانظري بماذا تأمرين. نحن نحب الحياة ونحب بعضنا برغم العلل. وكما تعلمين أنا أحبك، ولا عاصم من عينيك يعصمني. دعينا من هذا يا ناندويتي فما هذا إلا مدخلٌ لحديثٍ آخر، فحديثي معكِ لم ينفد.
في هذه اللحظة تذكّرتُ أفريقيا، حيث مسقطُ رأسي وجرحي الذي لا يبرأ. أتذكّر ميدانَ قريتنا التي تلتفّ حولها الكثبانُ الرملية، وأتذكّر الصديقَ تنقَا. حين كنّا نتحدث عن الصدق والوفاء، كان صامتًا، سارحًا في خيالاته، جالسًا على مؤخرته بشكلٍ يبدو غريبًا، فهذه الساعة لديه ساعةُ الكيف. أنهى سيجارته الأخيرة، تلك السيجارة الملفوفة بنباتٍ أُتيَ به من السودان، من منطقة سنقو، وهو يساريٌّ متعصّب. أمّا أرباب، فهو إسلاميٌّ قد تتلمذ على يدي جدّه مؤسّس الحركة، وهو أيضًا راديكاليٌّ يتعاطى نبيذَ البلح في كلّ ليلة، ويحب التبق. أمّا ودُّ الجبل، فهو قوميّ الفكر، ذو مسافةٍ واحدةٍ من تنقا وأرباب.
دومًا ما يقول: "نحن القوميين نحبّ شعبنا كما هم، برغم الاختلاف، ولا نفرّق بين أحدٍ منهم. إننا بحاجةٍ إلى أناسٍ كأرباب وتنقا، يمينيًّا كان أو يساريًّا، إسلاميًّا كان أو شيوعيًّا، دينيًّا كان أو مُلحدًا؛ فنحن قوم، نحن أمّة سودانية. وواجبُ القوم والأمّة هو التنوع، فباقةُ الورد لا تكون جميلةً إلا بالتنوع. وإن لم ننظر إلى الأمور من هذه الزاوية، فإنّ فكرة (حرية الفكر) تبقى مجرّدَ شعار، وستبقى الفكرةُ لا يمكن التعبير عنها بحرّيةٍ إلا إذا وافقتْ فكرتي أو خدمتْ مصلحتي".
أبحث عن وطني كلَّ صباح كمن يبحث عن نظّارته وهو يرتديها. أقف أمام المرآة فلا أرى سوى نسخة باهتة منّي لتُقنعني أنني ما زلتُ على قيد الحياة
تقول إحدى الشخصيات الإنجليزية في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" مخاطبًا الشخصيةَ السودانية: "لا تستطيعون الحياة بدوننا، كنتم تشكون من الاستعمار، ولما خرجنا خلقتم أسطورة الاستعمار المستتر. يبدو أن وجودنا، بشكلٍ واضحٍ أو مستتر، ضروريٌّ لكم كالماء والهواء". ما لفتَ انتباهي قوله: "ولما خرجنا"، ولم يقل: "أخرجتمونا"، وإن دلّ هذا، فإنما يدل على أن الإنجليز لم يخرجوا بالقوة من السودان. ما يشغل بالي الآن تساؤلاتٌ غريبة: أأنتَ من تكذب علينا يا إنجليزي؟ أم المؤرخون هم الكاذبون؟ إن كنتَ أنت الكاذب، فالويل لك، وإن كان المؤرخون، فتبًّا لهم جميعًا.
يا تُرى، أَنَحنُ جيلٌ قرأ تاريخًا كاذبًا؟ اذهبوا فتحسّسوا من تاريخكم، فإني لكم من الناصحين.
منذ خروج الإنجليز، ما استطاع هذا الشعب أن يبني الدولة السودانية الجامعة. ولكن من باب الصدق، ومن نافذة المعطيات التاريخية، فإنكم يا إنجليز في فترة وجودكم، فعلتم أشياء يُشار إليها بالبَنان، على سبيل المثال لا الحصر: مشروع الجزيرة، وخط السكة الحديد الذي يربط بين الشرق والغرب، وبعضًا من الخزانات، وتركتم لنا جامعةً عريقة هي كلية غردون (الخرطوم)، التي لا تزال أفضل جامعةٍ في البلاد.
كأنّ صوتًا في داخلي يقول: لما خرجتم وتركتمونا مع الإنجليز السُّمُر، يبدو أن الإنجليز السُّمُر أشدُّ منكم قسوةً على البلاد والعباد.
نعم، صدقتَ قولًا حين قلتَ: " يبدو أن وجودنا، بشكلٍ واضحٍ أو مستتر، ضروريٌّ لكم كالماء والهواء".
نعم، من باب الاعتراف يبدو أننا قد فشلنا في بناء الدولة. وما بين التصديق والتكذيب أقول: لنا أملٌ بأن النجاح سيُولَد من رحم الفشل.
أكتبُ إليك يا وطن، لا لتُجيب، بل لتشهد أنّني ذات مساء، كنتُ حيًّا أكتب عن موت يسكنني بألمٍ لا يُقال
عليكِ مني سلامٌ يا أرضَ أجدادي.
ذات صباح سألتني ناندي قائلةً: من أنتَ، ومتى تتحرر؟
قلتُ: أنا أسيرُ الوهم، وسأتحرر عندما أقتل الأبَ بالمنظار الفلسفي.
فقالت ناندي: أتركنا من هذه الفلسفة العمياء التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع.
ومن قال لكِ إن الفلسفة عمياء؟ أليست الفلسفة أداةً للتفكير؟
ناندي: أخبرني عن قراءتك للدولة السودانية بعد عُمر النبوة؟
لا أعلم، فكلُّ توقّعٍ هو رجمٌ بالغيب، يعني لا أتوقّع شيئًا على سبيل الظن.
ناندي: لماذا؟
قبل اليوم توقّعتُ أشياء كثيرة، لكنها باءت بالفشل، كمثل الذاهابي الذي أشرقت عليه البهجةُ والسرور قبل غَسل الحجر، ثم حلّ به اليأسُ عند سماع خبر: "الحجر ظوّط!" أي خاوي من جرامات الذهب.
يا سادة ما بين سؤالٍ وسؤال، تولد أجيالٌ وتموت أجيال، دون أن تستوعب ما يحدث لها أو بها. وبما أنني ابنُ آدم الصغير، فهذا يعني أنني ابنُ نبيٍّ إن رجعنا إلى التاريخ الأول. لكنني لم أحظى بفهم السياسة السودانية، ببساطةٍ لأنها لم تُبنَ على أسسٍ وقواعد تصبُّ في مصلحة الشعب. الحقيقة المرة في بلاد السُّمر هناك غزّةٌ أُخرى، غزّةُ أفريقيا، تنزف بصمتٍ تحت أقدام العسكر.
أنا لاجئ داري هناك، أبحث عن وطني كلَّ صباح كمن يبحث عن نظّارته وهو يرتديها. أقف أمام المرآة فلا أرى سوى نسخة باهتة منّي لتُقنعني أنني ما زلتُ على قيد الحياة. ما معنى هذه الحرب التي لا تنتهي؟ ما معنى هذا الدمار الذي قضى ولا يزال يقضي على الأخضر واليابس؟ كيف تُفسَّر صرخاتُ الأطفال تحت رصاصات العسكر والملايش؟
الحقيقة المرة في بلاد السُّمر هناك غزّةٌ أُخرى، غزّةُ أفريقيا، تنزف بصمتٍ تحت أقدام العسكر
يا ترى كيف ينسى اللاجئُ معاناته في المنافي، ورأسُه يئنُّ من صخبٍ لا يُرى؟ أفكارُه تتساقط كرصاصات "الدوشكا" في صدور المدنيين العُزّل. أيامٌ لا تهبُــه الحياة، ولا تسمح له بالموت. ثمّة شعورٌ لا يُشبه الحزنَ ولا يرقى إلى مرتبة الاكتئاب. إنّه شيءٌ بين الغثيان الوجوديّ والملل الأنيق. لم يَعُد الموتُ مجرّدَ مفارقةٍ للحياة، بل صار أن تمشي فوق الأرض ميتًا، محمولًا على قدميك لا على التابوت. صار للوطن معنى آخر فهو تمرينٌ طويلٌ على تحمّل أصوات الرصاص ووهج البنادق.
أكتبُ إليك يا وطن، لا لتُجيب، بل لتشهد أنّني ذات مساء، كنتُ حيًّا أكتب عن موت يسكنني بألمٍ لا يُقال. لا تُفكّر في الأمر كثيرًا، فما زلتُ واقفًا في الصف، أرقبُ سفينتي المتّجهة نحو الشمال، أحملُ جوازَ سفرٍ لا يحمل اسمًا.
سأعودُ إلى الجنوب يومًا، وأكتبُ كتابها بعنوان (مواسم الهجرة إلى الجنوب) فلسفتُها «أبنتو»، رؤيتُها «سانكوفا»، فنّها «أفريكانزميات»، وتوجّهُها «سودانينزم».
إلى ذلك الحين... مخلِصُكم، أو ما تبقّى منه.