تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

السبت 8 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
رأي

وحدةٌ متشظّية: ثلاثةُ عقودٍ من الفيدرالية الإثنية في إثيوبيا

27 أكتوبر, 2025
الصورة
وحدةٌ متشظّية: ثلاثةُ عقودٍ من الفيدرالية الإثنية في إثيوبيا
Share

تعود جذور النظام الدستوري الإثيوبي الحالي إلى لحظة اضطراب غير مسبوقة. فقد خرجت "جبهة تحرير شعب تيغراي" (TPLF) من رحم الحرب حركةً مسلّحة تطمح إلى استقلال الإقليم، ثم انتهت في مفارقةٍ لافتة إلى أن تكون أحد مهندسي النظام الفيدرالي الذي يحكم إثيوبيا اليوم. ولإدراك كيف تحوّل هذا النزوع الانفصالي إلى نصوصٍ دستورية، لا بدّ من وضعه في سياق التحوّلات الكبرى أواخر القرن العشرين: نهاية الحرب الباردة وتوتّرات القرن الأفريقي وبلدٌ أنهكته سنواتٌ طويلة من القمع والصراع.

بحلول أواخر الثمانينيات، تحالفت الجبهة مع حركات تمرّد قومية أخرى لتشكّل "الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا" (EPRDF).ورغم لغتها الماركسية-اللينينية، تبنّى الائتلاف في الوقت نفسه خطاب الديمقراطية والدستورية الذي شاع بعد الحرب الباردة. وفي قلب هذا المشروع رسخ مبدأ "حقّ القوميات والشعوب في تقرير المصير، حتى حدّ الانفصال". كان القادة يتغذّون من تياراتٍ عالمية صاعدة، لكنّهم أيضًا حريصين على تثبيت مكاسبهم على الأرض.

على الضفة الإقليمية، تعزّز هذا الخيار بعدة صدمات تمثلت بالتحوّل الإسلامي في السودان، انهيار الدولة في الصومال، وحروب إريتريا وجنوب السودان، وكلّها كشفت هشاشة دولٍ قامت على تسويات رخوة. أما القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، فرأت في استقرار إثيوبيا أولويةً استراتيجية درءًا لفشلٍ دولتي جديد في القرن. داخليًا، كان الإرهاق حالة عامة؛ مواطنون يتطلّعون إلى هدنة، مجتمع دولي متحمّس لانتقالات ديمقراطية، جيران يتخوّفون من العدوى، ومتمرّدون منتصرون يسارعون إلى ترسيخ الحكم. مزيجٌ سريع الاشتعال لا يترك مجالًا كبيرًا لتأنّي صناعة الدساتير.

هكذا تبلور الرهانُ الإثيوبي الكبير على الفيدراليةُ الإثنية. وقد ثُبِّت هذا الاختيار في دستور 1995، فارتقت الإثنية إلى المبدأ الناظم للدولة. وبعد ثلاثة عقود، جاءت الحصيلة أبعد ما تكون عن الاستقرار. يقف الدستور الإثيوبي اليوم حالةً فريدة عالميًا تتمثل ببنية تأسيسية مُعلَنة ومنظَّمة حصرًا على أسسٍ إثنية.

البنية القانونية

لا يكتفي دستور الجمهورية الفيدرالية الديمقراطية الإثيوبية بتبنّي الفيدرالية؛ بل يُنشئ اتحادًا إثنيًا-إقليميًا تُسنَد فيه السيادة لا إلى شعبٍ إثيوبي واحد، بل إلى الأمم والقوميات والشعوب في إثيوبيا. وتمنح المادة 39 كلَّ واحدةٍ من هذه الجماعات "حقًّا غير مشروط في تقرير المصير، بما في ذلك الحقّ في الانفصال"، مع نصوصٍ إجرائية واضحة لتنظيم الاستفتاءات سواء لتأسيس ولاياتٍ جديدة أو للخروج من الاتحاد نفسه.

ولم تبقَ هذه الأحكام مجرّد نصوص، ففي الأعوام الأخيرة أُنشئت ولاياتٌ جديدة عبر استفتاءات ذات إطارٍ إثني مثل: إقليم سيداما (2019)، وإقليم شعوب جنوب غرب إثيوبيا (2021)، ثم تواصل تفكيك "إقليم الأمم والقوميات والشعوب الجنوبية" بعد 2023. وكلّها قامت على منطق الحكم الذاتي الإثني، لا على اعتباراتٍ إدارية أو وظيفية خالصة.

تؤكّد خبرة ثلاثة عقود ما حذّرت منه الدراسات المقارنة. لم تُخفِّف الفيدرالية الإثنية حدّة الصراع، ولم تحمِ الأقليات، ولم تدفع بعجلة التنمية. على العكس، غذّت النزوح وعمّقت الانقسامات وأضعفت قدرات الدولة

بهذا تختلف الصيغة الإثيوبية جذريًا عن اتحاداتٍ مثل: ألمانيا أو الولايات المتحدة، وتقترب أكثر من نماذج الاتحاد السوفيتي ويوغوسلافيا: وحداتٌ تُعرَّف بوصفها «أوطانًا إثنية» مدعومة بإطارٍ قانوني يُطَبِّع فكرة الانفصال. يصف الباحثون هذا النمط بـ"الفيدرالية الإثنية"، وتحمل أدبيات العلوم السياسية بشأنه تحذيراتٍ صريحة من مخاطره.

دروس مقارنة

تكشف الخبرة المقارنة أن الفيدرالية الإثنية تميل إلى توسيع الشروخ لا إلى تحجيمها. وتُظهر أبحاث دون برانكاتي أن اللامركزية قد تخفف النزاعات أحيانًا، لكنها تزيد احتمالاته حين تُقوّي الأحزاب المبنية على الهوية. وفي هذا الإطار، يدفع تمكين النخب الإقليمية إلى التعبئة على أساس الانتماء، فتصير الهوية عملة السياسة.

يبيّن هنري هيل، في قراءته للاتحاد السوفيتي وغيره، أن الاتحادات الإثنية تُنتج نخبًا جاهزة للانفصال، قادة محليون يمتلكون الدافع والأدوات لابتزاز المركز بالتلويح بالانسحاب كلما ضعُف. وتؤكد فاليري بَنس وفيليب رودِر أن تحويل الأقاليم إلى وحدات ذات طابع إثني يخلق مطالب سلطة مزدوجة تنفجر مع الأزمات.

على النقيض، نجحت اتحادات مثل: كندا وبلجيكا وسويسرا في الصمود عبر توزيع الصلاحيات، وصناعة اعتماد متبادل بين المستويات، وتجنّب دسترة الانفصال. يخلُص دانيال تريزمان إلى درسٍ صريح: تمنح الاستقلاليةُ المدروسة قدرًا من الاستقرار، لكن الفيدرالية الإثنية المقترنة ببندٍ للانفصال تُراكم قابليةً كامنة للتفكك. لذا يبدو النموذج الإثيوبي أقرب إلى رهانٍ عالي المخاطر على تفتيت الدولة منه إلى تجربةٍ فدراليةٍ عادية.

التجربة الإثيوبية

تؤكّد خبرة ثلاثة عقود ما حذّرت منه الدراسات المقارنة. لم تُخفِّف الفيدرالية الإثنية حدّة الصراع، ولم تحمِ الأقليات، ولم تُيسّر التنمية؛ بل غذّت النزوح، وعمّقت الانقسامات، وأضعفت قدرات الدولة. فبدل تهدئة التوترات زادتها البنية الإثنية-الإقليمية اشتعالًا. بين 2017 و2018 أدّت اشتباكات حدود أوروميا–الصومال وفي غرب غوجي–غيديو إلى نزوحٍ يناهز المليون، وهو رقمٌ استثنائي خارج الحروب الشاملة. وفي 2020–2021 شهد إقليم بني شنقول–قوموز مجازر ضد مدنيين على أساس الهوية، فيما تعرّضت أوروميا لموجاتٍ متكرّرة من عنفٍ مُؤَثْنَن وثّقتها منظمات محلية ودولية.

جاءت الحرب الشمالية (2020–2022) كارثية: فوفق «أوبسالا لبيانات النزاعات» سجّلت إثيوبيا وأوكرانيا معًا ما لا يقل عن 180 ألف قتيلٍ في المعارك عام 2022، ما يضع حرب تيغراي بين الأكثر فتكًا عالميًا، فيما تجاوزت تقديرات الوفيات الزائدة في تيغراي وحدها مئة ألف. وبحلول منتصف 2024 قدّرت "المنظمة الدولية للهجرة" عدد النازحين داخليًا بنحو 4.38 ملايين. وهكذا، رسّخت هذه البنية حالة انعدام الأمن.

تمنح المادة 39 كلَّ واحدةٍ من هذه الجماعات "حقًّا غير مشروط في تقرير المصير، بما في ذلك الحقّ في الانفصال"، مع نصوصٍ إجرائية واضحة لتنظيم الاستفتاءات سواء لتأسيس ولاياتٍ جديدة أو للخروج من الاتحاد نفسه

لم تُحصّن المنظومة الأقليات بل كشفتها؛ ففي الأقاليم المعرَّفة هويّاتيًا والمناطق الحدودية كثيرًا ما تصبح الأقليات عرضةً للإخلاء أو الاعتداء، وتكرّرت الفظائع في بني شنقول–قوموز ضد "الغرباء"، عمليًا، حين تُنظَّم السيادة على أساس الهوية، تصبح حقوق المواطنة رهينة الانتماء والمكان، على نقيض المنطق الحمائي في الفيدراليات الليبرالية. إلى جانب ذلك، أدّى النموذج إلى تفتيت الجهاز الأمني. فقد تمدّدت القوات الخاصة الإقليمية، وولاؤها في الغالب للنخب المحلية حتى غدت تشكيلاتٍ موازية، وعندما حاولت الحكومة الفيدرالية حلّها عام 2023 اندلعت اضطرابات في أمهرا، كاشفةً رسوخ عسكرةٍ إثنية متبادلة الريبة.

اقتصاديًا، جاءت الكلفة فادحة. فقد تقوّضت مكاسب أوائل الألفية تحت وطأة انعدام الأمن؛ حذّر البنك الدولي مرارًا من ضغوطٍ كلية وتضخّم مرتفع وتعطّل للاستثمارات، واتّسعت الحاجات الإنسانية حتى تجاوز عدد المحتاجين للمساعدة عشرين مليونًا في 2024، وكان الصراع محرّكًا رئيسيًا إلى جانب صدمات المناخ. وعلى المستوى السياسي، يكافئ البناء الدستوري "المزايدة الإثنية" حيث تُبنى الانتخابات والاستفتاءات على وعد المادة 39 بحقّ الانفصال، فيتسابق القادة على ترسيم حدود جديدة أو المطالبة بأقصى درجات الحكم الذاتي، مطمئنين إلى شرعنة الدستور لهذه المطالب، ويُدفَع حتى المعتدلون إلى مجاراة المتشدّدين. هكذا تنزلق السياسة من تنافسٍ بين مواطنين إلى تفاوضٍ دائم بين "سياداتٍ إثنية".

أمثلة مضادّة مُضلِّلة

يدافع مؤيّدو هذا النظام، رغم سجله، بالاستشهاد بدولٍ متعددة القوميات مثل: بلجيكا وكندا والهند وسويسرا، غير أنّ هذه المقارنات تنهار عند أول تدقيق. فكندا وبلجيكا، على عمق انقسامهما، لا تمنحان "حقّ الانفصال" دستوريًا؛ وتعتمدان بدلًا من ذلك على مساوماتٍ بين الحكومات، وأطر حقوق وطنية، وتحويلاتٍ مالية لصون الوحدة. وقد ضيّقت المحكمة العليا الكندية صراحةً هوامش كيبيك بدل أن تُدستِر الانفصال. أمّا الهند فأعادت تنظيم ولاياتها على أسسٍ لغوية ضمن اتحادٍ ذي مركز قوي، بلا بندٍ للانفصال، مع أحزاب وطنية تعبر خطوط الهوية. وفي نيجيريا، ما بعد بيافرا، جرى تفتيت الأقاليم الكبرى إلى ولاياتٍ أصغر لكبح الهيمنة الإثنية، وهو مسارٌ أبعد ما يكون عن الفيدرالية الإثنية. وسويسرا بدورها كانتوناتها متنوّعة، لكنها لا تقوم على "أقاليم إثنية"؛ فالمواطنة تُبنى على السويسرية لا على الانتماء إلى جماعة محددة. تُظهر هذه الحالات فارقًا حاسمًا يتمثل بأن الاتحادات التي تصمد تنزع الإثنية عن السيادة، وتنكر الانفصال الدستوري؛ أمّا إثيوبيا فاختارت العكس تمامًا.

تمنح الاستقلاليةُ المدروسة قدرًا من الاستقرار، لكن الفيدرالية الإثنية المقترنة ببندٍ للانفصال تُراكم قابليةً كامنة للتفكك. لذا يبدو النموذج الإثيوبي أقرب إلى رهانٍ عالي المخاطر على تفتيت الدولة منه إلى تجربةٍ فدراليةٍ عادية

تنتهي التجربة إلى توازنٍ «خاسر–خاسر». فالتفاوض الدائم تحت ظلّ الانفصال يحوّل أي خلافٍ طبيعي إلى أزمةٍ وجودية تهدّد تماسك الدولة. وعلى مستوى الأقاليم، تمنح السيادة الإثنية قدرًا من الوجاهة، لكنها تُحمِّل الأكثريات عبءَ رعاية أبناء قومهم أينما كانوا، فتُنعش المطالب القصوى وتستدرّ ردودًا اتحادية مضادّة. أمّا الأقليات فغالبًا ما تعيش في "أقاليم اسمية" بحمايةٍ أضعف وحقوقٍ أكثر هشاشة. اقتصاديًا، يطرد انعدامُ الأمن الاستثمار ويُثقِل المالية العامة، وسياسيًا يدفع البناء الدستوري إلى مزايدات الهوية على حساب السياسة البرامجية. تلك هي مفارقة التصميم الدستوري الإثيوبي حيث يرسّخ اللا-أمن بدلا من معالجته.

إعادة التفكير في "المقايضة"

سعى الدستور إلى حلّ معضلةٍ قديمة تتمثل بكيف يشعر شعبٌ شديد التنوع بالأمان داخل دولةٍ واحدة؟ فجاء الجواب بمنح كل أمّة وقومية وشعب سيادةً دستورية، بما في ذلك حقًّا غير مشروطٍ في الانفصال. لكن ما أريد له أن يثبّت البلاد تحوّل عمليًا إلى مصدرٍ عميق لعدم الاستقرار. فـ"المقايضة الكبرى" المتمثلة بالسيادة في مقابل الأمن لم تُنتج أيًّا منهما. ما كان يُفترض أن يكون ضمانة حماية زاد مواطن الضعف، خصوصًا لدى الأقليات، وحوّل الدولة إلى ساحة تنازعٍ إثني. وهكذا، تحقّق ما نبّهت إليه المقارنة السياسية: تصدّعاتٌ متصلّبة، ونخبٌ مُعدّة للانفصال، ولا-أمنٌ مترسّب. وبدل ترسيخ الاستقرار، ثبّت الدستورُ سياسةَ حافة الهاوية وعمّق انعدام الثقة.

الخلاصة أنّ الخروج من هذا المأزق يبدأ بإعادة تخيّلٍ شجاعة للنظام الاتحادي. تسوية جديدة تنزع الإثنية من تعريف السيادة، وتكفل الحقوق وطنيًا، وتُبقي حكمًا محليًا فاعلًا للخدمات، وقبل كل شيء تُنشئ حوافز حقيقية لتعاونٍ عابرٍ للهويات. مثل هذا الإطار وحده يمكن أن يفتح طريقًا واقعيًا إلى الاستقرار والكرامة والازدهار، وهي وعودٌ طال انتظارُ الإثيوبيين لها، ولم يروا منها إلا القليل.