الأربعاء 9 يوليو 2025
في بلد مثل الصومال حيث تتشابك التهديدات الأمنية والانقسامات السياسية والهشاشة المؤسسية والمجتمعية، يُعدّ الاستقرار هدفا بعيد المنال، يبرز جهاز الاستخبارات والأمن الوطني (NISA) لاعبا محوريا في معادلة الدولة الصومالية.
فهو ليس مجرد مؤسسة أمنية تقليدية، بل يمثّل- بحكم موقعه وتركيبته- أداة مركزية في هندسة موازين القوى، ودرعًا حساسًا في مواجهة تنظيمات العنف المسلح، وفي مقدّمتها حركة الشباب المرتبطة بتنظيم القاعدة. منذ تأسيسه ظلّ الجهاز ساحةً تقاطع فيها المصالح، وصندوقًا أسود لملفات الدولة الصومالية، ومحلَّ تجاذب دائم بين الرئاسة، والولايات الفيدرالية والشركاء الخارجيين.
تكتسب عودة مهد محمد صلاد لرأس الجهاز، في هذا السياق بالغ التعقيد، دلالات لافتة تتجاوز البُعد التنفيذي، لتلامس مشهدًا أوسع من التحولات السياسية، والتحالفات الإقليمية، والرهانات الأمنية المتسارعة
في منعطف حاسم في المشهد السياسي والأمني في الصومال، جاء قرار إعادة تعيين مهد محمد صلاد على رأس جهاز الاستخبارات والأمن الوطني، الذي أقره مجلس الوزراء في 1 يونيو/ حزيران 2025، ليشكل أكثر من مجرد خطوة إدارية روتينية. فهذا التعيين يحمل في ثناياه رسائل متعددة الاتجاهات، تُقرأ في ضوء حسابات داخلية متشابكة، واستقطابات إقليمية متجددة، وتحديات أمنية ضاغطة.
اختيار الرئيس حسن شيخ محمود لصلاد، المعروف بقربه العشائري والسياسي من دوائر القصر، يضع القرار في سياق الاستعداد المبكر للانتخابات المقبلة، حيث تبدو الحاجة ملحة لترتيب المشهد الأمني بما يتيح إدارة العملية السياسية بقبضة أكثر إحكامًا، وربما احتواء المعارضة بوسائل أكثر حزماً.
منذ تأسيسه ظلّ الجهاز ساحةً تقاطع فيها المصالح، وصندوقًا أسود لملفات الدولة الصومالية، ومحلَّ تجاذب دائم بين الرئاسة، والولايات الفيدرالية والشركاء الخارجيين
في الوقت نفسه، يُنظر إلى صلاد باعتباره رقما صعبا في المعادلة الأمنية، لما يمتلكه من خبرة ميدانية طويلة وشبكة علاقات راسخة داخل الجهاز، ما قد يتيح له إعادة رسم خطوط المواجهة مع حركة الشباب، خصوصًا في ظل اشتداد قبضتها على أطراف العاصمة.
غير أن البعد الأعمق في التعيين يتصل بمقاربة جديدة تجاه ملف التفاوض غير المعلن مع الحركة، فالتسريبات تشير إلى احتفاظ صلاد بخيوط تواصل خلفية مع بعض دوائرها، الأمر الذي يمنحه موقعًا استثنائيًا لإدارة هذا الملف المعقد.
إقليميا، يعكس تعيين صلاد تحوّلًا واضحًا في بوصلة التحالفات الخارجية، مع ما يحمله من دلالات على انزياح المشهد نحو محور الدوحة، مقابل تراجع النفوذ الإماراتي، والذي تجسّد في تهميش شخصيات كانت محسوبة على أبو ظبي، وفي مقدمتها المدير السابق للجهاز، عبد الله سنبلولشي.
بهذا المعنى، فإن عودة صلاد لا تُقرأ كتحول وظيفي فحسب، بل بداية لمرحلة جديدة تتشكل ملامحها وسط إعادة رسم موازين القوى داخليا، وتزايد زخم التدخلات الإقليمية والدولية في معادلة الأمن والسياسة بالصومال.
يُعدّ مهد محمد صلاد من أبرز الشخصيات الأمنية ذات الخلفية السياسية في الصومال، فخلال مسيرته راكم تجربة لافتة في مفاصل الدولة السيادية حيث شغل عضوية البرلمان الفيدرالي لولايتين متتاليتين (2012–2022)، كما فاز بعضوية مجلس الشعب الحالي للمرة الثالثة، قبل أن يتنحّى عن مقعده في البرلمان لتولي رئاسة جهاز الاستخبارات والأمن الوطني في فترة دقيقة بين عامي 2022 و2024.
تميّزت ولايته الأولى بمحاولات جادّة لإعادة هيكلة الجهاز وتفكيك شبكات النفوذ الشخصي التي تغلغلت في بنيته، إلى جانب إطلاقه عمليات أمنية نوعية ضد حركة الشباب، خصوصًا في العاصمة مقديشو والمناطق المتاخمة لها
عودة صلاد لا تُقرأ كتحول وظيفي فحسب، بل بداية لمرحلة جديدة تتشكل ملامحها وسط إعادة رسم موازين القوى داخليا، وتزايد زخم التدخلات الإقليمية والدولية في معادلة الأمن والسياسة بالصومال
سعى صلاد إلى تعزيز الطابع المهني للجهاز وتوجيهه نحو أولويات الأمن القومي، غير أن تجربته لم تكن بمنأى عن التحديات والإخفاقات. فقد وُجهت إليه انتقادات بتسييس المؤسسة الأمنية، وإقصاء بعض الكوادر لحسابات عشائرية أو سياسية، إلى جانب توتر علاقات الجهاز مع بعض الشركاء الدوليين والإقليميين، لا سيما الإمارات، بسبب تحولات في التموضع السياسي للدولة.
بين مساعيه للإصلاح وتهم الإقصاء، مثّلت فترة صلاد الأولى على رأس الاستخبارات محطة مفصلية في مسار جهاز تتنازعه التجاذبات السياسية والتحديات الأمنية الكبرى، ما جعل اسمه حاضرًا بقوة في أي نقاش حول مستقبل الأمن والاستقرار في البلاد.
أطلق صلاد فور تولّيه مجددًا قيادة جهاز الاستخبارات سلسلة تعيينات مفصلية، أعادت رسم المشهد الأمني في الصومال. لم تقتصر هذه التحركات على تغييرات هيكلية، بل شملت دمج منشقين عن حركة الشباب في مناصب حساسة، وتصفية شخصيات مرتبطة بالقيادة السابقة، وعودة ناعمة لرموز تيار المدير الأسبق فهد ياسين، ما يعكس ديناميات جديدة داخل المؤسسة الأمنية.
رغم التسويق لهذه الخطوات تحت غطاء الإصلاح والدمج، إلا أنها أثارت مخاوف أمنية من اختراق داخلي محتمل، وغياب الرقابة الفعالة. كما بدا واضحًا أن التعيينات جاءت وفق توازنات سياسية دقيقة، مدعومة من دوائر نافذة داخل القصر الرئاسي ورئاسة الحكومة.
في المجمل، تكشف هذه التحولات أن جهاز الاستخبارات بات ساحة لإعادة ترتيب موازين القوة، أكثر من كونه أداة لتعزيز الأمن الوطني، وسط مشهد سياسي مأزوم ومفتوح على كافة الاحتمالات.
تنتظر مهد محمد صلاد، في عودته المثيرة إلى قيادة جهاز الاستخبارات والأمن الوطني، حزمة من التحديات المعقّدة التي تتطلب توازنا حاذقا بين الحسم الأمني والرشد السياسي. فعلى رأس الأولويات، يبرز ملف إصلاح الجهاز من الداخل، عبر إعادة هيكلته وفق أسس مهنية واضحة، وتطهيره من شبكات النفوذ والولاءات الشخصية التي أضعفت فاعليته، وأفقدته مصداقيته في أعين الرأي العام.
غير أن التحديات الميدانية لا تقل وطأة، خاصة وأن كثيراً من المناطق التي تم تحريرها في فترة صلاد الأولى عادت لاحقاً إلى قبضة حركة الشباب، ما يضع علامات استفهام على نجاعة الاستراتيجية السابقة، ويُلزمه بتقديم مقاربة أمنية أكثر تماسكاً وواقعية.
وفي هذا السياق، تزداد حساسية موقعه بسبب ما يُتداول من اتهامات وشائعات حول صلات غير مباشرة ببعض دوائر الحركة، وهي اتهامات لا يكفي نفيها بل يجب تفنيدها عملياً، من خلال أداء ميداني حازم يُرسّخ انحياز الجهاز الكامل إلى معركة الدولة ضد الإرهاب.
مثّلت فترة صلاد الأولى على رأس الاستخبارات محطة مفصلية في مسار جهاز تتنازعه التجاذبات السياسية والتحديات الأمنية الكبرى، ما جعل اسمه حاضرًا بقوة في أي نقاش حول مستقبل الأمن والاستقرار في البلاد
على المستوى السياسي، يُنتظر من صلاد إدارة دقيقة للدور الأمني في ظل استقطاب حاد بين الرئاسة والمعارضة، بما يجنّب الجهاز التورط في حسابات تصفية الخصوم أو الانحياز في النزاعات السياسية. فالتعامل مع هذا الصراع يجب أن يكون محسوباً، يوازن بين متطلبات الولاء المؤسسي ومقتضيات الحياد الوطني، مع الحفاظ على صورة الجهاز باعتباره جهة مهنية محايدة تعمل لحماية الدولة، لا لتعزيز مواقع السلطة.
لا يقل تحدّي التنسيق مع الولايات الفيدرالية تعقيداً عن ما سبق، خاصة بونتلاند وجوبلاند، اللتين لطالما اتسمت علاقاتهما بالحكومة المركزية بالتوتر والتحفظ. وهنا يُفترض أن يمد صلاد الجسور من موقع الشراكة لا الوصاية، لبناء منظومة أمنية موحدة قادرة على مواجهة التهديدات العابرة للحدود الإدارية.
أما على الصعيد الخارجي، فلا تزال مسألة استعادة ثقة عدد من الشركاء الإقليميين والدوليين – ممن سبق أن أبدوا تحفظاً على تعيينه – من أبرز التحديات. ويتطلب ذلك التزاماً شفافاً برؤية أمنية شاملة، تعزز من موقع الصومال كشريك مسؤول في ملفات الأمن الإقليمي والدولي.
لا تمثل عودة مهاد محمد صلاد إلى رئاسة جهاز الاستخبارات إذن مجرد قرار إداري عابر، بل هي محطة مفصلية في لحظة دقيقة يتداخل فيها الأمني بالسياسي، وتتكثف فيها التحديات على المستويين الداخلي والخارجي. فإما أن ينجح في تحويل الجهاز إلى رافعة مؤسسية فاعلة، تستعيد ثقة الشارع، وتعيد رسم معادلة الردع في مواجهة الإرهاب، أو أن تتعثر تجربته مجددا تحت وطأة الشكوك والصراعات وسوء التقدير.
رغم ثقل التركة، فإن حجم الفرصة لا يقل عن جسامة التحدي. ويبقى الرهان الحقيقي على قدرة صلاد على تجاوز الحسابات الضيقة، وتقديم نموذج قيادي متماسك يوازن بين مقتضيات الأمن وضرورات بناء دولة مؤسسات، فالتاريخ في هذه اللحظة لا يمنح فسحة للتكرار، بل يطالب بنتائج ملموسة تصنع الفرق.