الأحد 20 أبريل 2025
توفّي يوم الأربعاء 19 فبراير/ شباط 2025 في العاصمة المالية باماكو، المخرج السينمائي سليمان سيسي عن عمر يناهز 84 عاما. وقد شكّلت وفاته نهاية فصل بارز في تاريخ السينما الأفريقيّة؛ إذ فقدت القارّة أحد أعمدتها الإبداعيّة.
لم يكن سليمان سيسي مجرّد اسم لامع في بلده فحسب، بل امتدّ تأثيره ليشمل الساحة السينمائيّة الأفريقيّة والعالميّة. كان أوّل مخرج من أفريقيا جنوب الصحراء يحصد جائزة في مهرجان كان (Cannes) السينمائي. وهو إنجاز لم يكرّس مكانته فحسب، بل فتح أبواب العالميّة أمام سينما القارّة من خلال أعماله الملتزمة ذات الطابع الشاعري، والمتجذرة في واقع أفريقيا ما بعد الاستعمار. رسم سيسي صورة سينمائية مغايرة، تنبض بقضايا الهوية والعدالة وكرامة الإنسان الأفريقي، ليبقى إرثه حيّا في وجدان السينما العالميّة.
وُلِد سيسي في باماكو عام 1940، لكنّه قضى سنوات طفولته في داكار السنغال، التي كانت آنذاك إحدى المستعمرات الفرنسيّة في غرب أفريقيا.
انتقل والده إلى داكار بدافع العمل، قبل أن تعود الأسرة إلى مالي عقب استقلالها عام 1960. أثناء إقامته في داكار تولّد لدى سيسي الشغف بالسينما، ما دفعه إلى متابعة دراسة الإخراج السينمائي في موسكو بين عامي 1963 و1969، حيث تلقّى تدريبه تحت إشراف المخرج السوفييتي البارز «مارك دونسكوي»، الذي سبق أن تتلمذ على يديه المخرج السنغالي الشهير «عثمان سمبين».
على الرغم من أنّ سيسي أخرج تسعة أفلام فقط على مدار خمسة عقود - من بينها ثلاثة أفلام فقط منذ مطلع القرن الحادي والعشرين - فإنّ هذا العدد المحدود يعكس التحدّيات البنيويّة التي تواجه صناعة السينما في أفريقيا، خارج إطار الصناعة السينمائيّة النيجيريّة "نوليوود" على الأقلّ. ومع ذلك، تميّزت أعمال سيسي بجودة فنيّة عالية، ما رسّخ مكانته رائدا من روّاد السينما الأفريقيّة.
استندت شهرة سليمان سيسي إلى حدّ كبير على جودة الأفلام التي أنجزها خلال الفترة الأكثر ازدهارا، في مسيرته المهنيّة بين عامي 1975 و1987، حيث قدّم خلالها أربعة أعمال شكّلت حجر الأساس في مسيرته. كانت البداية بفيلم "Den Muso" (الفتاة الصامتة) عام 1975، الذي تناول قضايا التمييز ضدّ المرأة في المجتمع المالي، تلاه فيلم "Baara" (العبء) عام 1978، الذي استكشف من خلاله الصراعات الطبقيّة والظروف القاسية للعمال.
عكست هذه الأفلام التزام سيسي بتقديم سينما ذات بعد فكري وثقافي، تتناول قضايا الهويّة والعدالة، ممّا عزّز مكانته كأحد أبرز الأصوات السينمائيّة في أفريقيا والعالم
أخرج سيسي سنة 1982 فيلم "Finye" (الريح)، الذي تناول تمرّد الشباب ضد الأنظمة السلطويّة في أفريقيا ما بعد الاستعمار، وهو موضوع كرّسه بعمق في عمله الأشهر "Yeelen" (النور) عام 1987. حصد هذا الفيلم - الذي استند إلى الأساطير والتقاليد البامبارية - جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان السينمائي، ليصبح أوّل فيلم أفريقي ينال مثل هذا التقدير في مهرجان يشتهر باحتفائه بالاتجاهات السينمائيّة الطليعيّة.
عكست هذه الأفلام التزام سيسي بتقديم سينما ذات بعد فكري وثقافي، تتناول قضايا الهويّة والعدالة، ممّا عزّز مكانته كأحد أبرز الأصوات السينمائيّة في أفريقيا والعالم.
حظي فيلم "Yeelen" (النور) بإشادة واسعة، ليس فقط باعتباره إنجازا بارزا في تاريخ السينما الأفريقيّة على الساحة الدوليّة، بل أيضا كنموذج لنهج سينمائي جديد، يعكس عمق التقاليد السرديّة الشفويّة والروحانيّة في غرب أفريقيا. وقد تميّز الفيلم بجماليّات تصويريّة لافتة، مقدّما سردا أسطوريّا بالغ الرمزيّة، يتمحور حول صراع بين ابن متمرّد ووالده المستبدّ، في سياق زماني غير محدّد، يعكس حقبة ما قبل الاستعمار في أفريقيا.
برز سيسي كصانع أفلام قادر على تجاوز الحدود التقليديّة للواقعيّة الاجتماعيّة، منتقلاً إلى أسلوب سينمائي أفريقي أكثر رمزيّة، ما أكسب أعماله طابعا من الأصالة الثقافيّة التي تتجاوز الأطر الغربيّة.
جاء هذا الأسلوب السينمائي ليشكّل قطيعة مع تيار الواقعيّة الاجتماعيّة الذي ساد السينما الناطقة بالفرنسيّة في غرب أفريقيا، خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، وهو التيار الذي لطالما عُدّت أفلام عثمان سمبين أبرز تجلّياته. وقد سبق لسيسي نفسه أن نال استحسان النقاد بفضل التزامه الواقعية الاجتماعية ذات البعد السياسي في أعماله المبكرة، مثل: "Den Muso" و"Baara"، اللذين تناولا قضايا العدالة الاجتماعيّة وحقوق الفئات المهمّشة.
برز سيسي مع "Yeelen"، كصانع أفلام قادر على تجاوز الحدود التقليديّة للواقعيّة الاجتماعيّة، منتقلاً إلى أسلوب سينمائي أفريقي أكثر رمزيّة، ما أكسب أعماله طابعا من الأصالة الثقافيّة التي تتجاوز الأطر الغربيّة. وقد أدى هذا التحوّل إلى تصنيفه، من قبل العديد من النقّاد، كمخرج أعاد تعريف السينما الأفريقية من خلال دمج عناصر التراث المحلي بالمنظور السينمائي العالمي.
غالبًا ما يُدرَج "Yeelen" إلى جانب أفلام أخرى عكست صورة أفريقيا الريفية التي لم تطلها التأثيرات الاستعمارية الغربية، وأبرزها "Wend Kuuni" عام 1982 للمخرج البوركينابي «غاستون كابوري» و"Yaaba" عام 1989 ل«إدريسا ويدراوغو»، حيث شكّلت هذه الأعمال مجتمعةً تيّارا سينمائيّا جديدا، يستلهم هويّته من عمق التجربة الثقافيّة الأفريقيّة.
أوّلاً، لم تكن الواقعيّة الاجتماعيّة قط الجماليّة المهيمنة الوحيدة في سينما غرب أفريقيا خلال الستينيات والسبعينيات. وثانيًا، رغم أنّ أفلام سليمان سيسي المبكّرة، مثل: "Den Muso" و"Baara" و"Finye" يمكن تصنيفها جزئيّا ضمن إطار الواقعيّة الاجتماعيّة، فإنّها تميّزت بتضمين تسلسلات رمزيّة معقّدة وغامضة، ما يعكس نهجه السينمائي متعدّد الرؤى.
ظلّت أعمال سيسيه تشكّل قوة دافعة في السينما الأفريقيّة، حيث لم تقتصر أهمّيتها على سياقها التاريخي، بل امتدّت لتؤكّد استمراريّة تأثيره والنقاش حول أعماله.
يمكن تعريف الفلسفة الفنيّة لسيسي بكونها عمليّة تجمع بين الحلم والخيال، لكنّها تظلّ متجذّرة في الواقع. يتجلّى هذا التوجّه بوضوح في "Finye"، حيث تؤدّي عناصر الطبيعة، مثل: "الماء والريح" أدوارا رمزيّة، لتعكس صراع الشباب ضد الأنظمة السلطويّة، في إطار سياسي يدين الدكتاتورية العسكريّة.
ومن الجدير بالذكر أنّ اختزال الهويّة الأفريقيّة في نمط سينمائي أو سردي محدّد - كالتقابل بين الريف والحضر - يمثّل تبسيطا مخلّا، إذ لا يمكن حصر "الأصالة" الثقافيّة ضمن حدود شكل فنّي واحد.
شهد النصف الثاني من القرن العشرين تحوّلات اجتماعيّة وسياسيّة عميقة، حيث تحوّلت آمال الاستقلال إلى ما يشبه "كوابيس استعمارية جديدة" في أجزاء واسعة من القارّة. ومن هذا المنطلق، سعى المخرجون الأفارقة إلى تقديم رؤى تعكس جوانب الحياة الأفريقية، بعيدا عن تأثيرات القوى الاستعماريّة السّابقة.
وبصرف النظر عن هذا الجدل، ظلّت أعمال سيسيه تشكّل قوة دافعة في السينما الأفريقيّة، حيث لم تقتصر أهمّيتها على سياقها التاريخي، بل امتدّت لتؤكّد استمراريّة تأثيره والنقاش حول أعماله.
من أبرز إنجازاته فوزه بجائزة "Étalon de Yennenga" في مهرجان فسباكو عامي 1978 و1980، عن فيلميه بارا وفينيا. وفي عام 2023 كرّمته جمعية المخرجين الفرنسيين بجائزة "Carrosse d'Or" خلال مهرجان كان السينمائي تقديراً للسمات الرياديّة في أعماله، وجرأة رؤيته السينمائيّة. وقد شملت قائمة الفائزين السابقين بهذه الجائزة عدداً من المخرجين الغربيين البارزين، من بينهم «مارتن سكورسيزي» و«جين كامبيون»، بالإضافة إلى عثمان سيمبين، الذي يعدّ رمزا سينمائيّا بالنسبة لسيسي.
تحمل هذه الجائزة أهميّة خاصّة وتُعدّ تكريما مستحقّا، حيث مثّلت إنجازاً بارزا في المسيرة الحافلة للمخرج المالي العظيم. وعلى الرّغم من تراجع إنتاجه الإبداعي في سنواته الأخيرة، إلّا أنّ منحه جائزة كاروس الذهبية شكّل تقديرا مُنصفا لمخرج كان، خلال السبعينيات والثمانينيات، واحداً من أكثر السينمائيين إبداعاً، ليس في أفريقيا فحسب، بل على مستوى العالم.
قبل وفاته بأيّام قليلة - 15 فبراير/ شباط 2025 - نال تكريما بمدينة بانجول من البعثة الطبيّة «سونو ريو»، في بادرة تؤكّد استمرار تأثيره العميق في المشهد السينمائي.
كان من المقرّر أن يترأّس لجنة تحكيم الأفلام الطويلة في مهرجان فسباكو 2025 تتويجا لمكانته البارزة في الصناعة السينمائيّة، إلّا أنّ القدر حال دون ذلك، إذ رحل قبل أن يؤدّي هذا الدور. والمفارقة أنّ صباح يوم وفاته، وخلال مؤتمر صحفي في باماكو، عبّر عن امتنانه العميق لهذا التكريم، قبل أن يخطفه الموت.
نأمل أن تدفع وفاته المزيد من عشاق السينما والنقاد الأفارقة لاكتشاف أعماله، التي لا تزال شاهدة على قدرته في تسخير الفن لخدمة قضايا القارّة. إنّ إرث سيسي لا ينحصر في أفلامه فحسب، بل يمتدّ إلى الأثر العميق الذي تركه في الأجيال الجديدة من صناع السينما، ما يضمن استمرار صوته، رغم غيابه، في تشكيل المشهد السينمائي الأفريقي والعالمي.