الأربعاء 9 يوليو 2025
يعدّ المؤرّخ والمفكّر النيجيري تويين فالوﻻ (Toyin Falola) من أهمّ الأسماء في حقل الدراسات الأفريقيّة المعاصرة، باعتبار تعدّد مرجعياته ومساهمته لأكثر من أربعة عقود في إعادة تشكيل المنظور الأكاديمي للكتابة عن أفريقيا وتاريخها ومجتمعاتها وهويّاتها. راكم عبر مسيرته العلميّة أكثر من 200 مؤلّف منشور بين كتب فرديّة، ودراسات جماعيّة، ومداخلات نظريّة، ومقالات علميّة، ما جعله أحد أكثر المؤرّخين الأفارقة إنتاجا وتأثيرا في المشهد الأكاديمي العالمي.
ينتمي منجز فالوﻻ إلى ما يمكن تسميته بتاريخ ما بعد الاستعمار؛ حيث لا يكتفي بمجرد تأريخ الوقائع، بل يسعى إلى تفكيك البُنى المعرفيّة التي أنتجها الاستعمار الغربي حول أفريقيا، وإلى إعادة مركزية الذات الأفريقيّة بوصفها منتِجة للمعرفة، لا مجرّد موضوع للدراسة. تتوزّع كتبه بين موضوعات الذاكرة الجمعيّة، والتاريخ الثقافي، والعلاقات بين الدين والسياسة، والنقد الفكري للعولمة النيوليبرالية، مما يجعل مشروعه أقرب إلى حقل متعدّد التخصّصات تتداخل فيه أدوات المؤرّخ، والأنثروبولوجي، والمنظّر الثقافي، والناقد الاجتماعي.
تُشكّل هذه الغزارة المعرفيّة معضلة منهجيّة، أمام أي قارئ أو باحث يسعى إلى احتواء مشروع فالوﻻ ضمن إطار واحد. فتنوّع اشتغالاته وإنتاجه الغزير، يعقد مهمة الإمساك بمرجعيّته الفكريّة أو تحوّلاته المنهجيّة دون الانزلاق إلى التبسيط أو التعميم.
أرمي هنا التفاعل مع هذه الإشكالية، بالتركيز على أحدث ثلاثة مؤلّفات صدرت له؛ منذ سنة 2022 تقريبا، وهي الفترة التي شهدت تراكمًا جديدًا في كتاباته من حيث الأسلوب والموضوع. والتي أفترض أنها تُمثّل خلاصة تطوّر مشروعه، كما أنها تحمل ملامح نضج رؤيته بعد عقود من الإنتاج والتفاعل الأكاديمي المتواصل. وتتجلّى هذه المرحلة المتأخّرة في مؤلفات مثل: كتاب "الروحانية الأفريقية والسياسة ونظم المعرفة: الكلمات المقدسة والمجالات المقدّسة" (2022)، وكتاب "إنهاء الاستعمار في الدراسات الأفريقية: إنتاج المعرفة، الفاعلية، والصوت" (2022)، وكتاب "السير الذاتية الأفريقيّة والتمثيلات الثقافيّة: سرد التقاليد" (2023).
حيث تتوزّع اهتماماته بين نقد الهيمنة المعرفيّة الغربيّة، واستعادة النظم الروحيّة والسياسيّة الأفريقيّة، وتحليل السرديات الذاتيّة بوصفها تعبيرا عن الذاكرة الثقافيّة وتمثيلا للهويّات المعاصرة.
يُعدّ كتاب "الروحانية الأفريقية والسياسة ونُظم المعرفة: الكلمات المقدّسة والمجالات المقدّسة"، عن دار (Bloomsbury Publishing)، من بين أبرز مؤلّفاته الحديثة، وأكثرها دلالة على نضج مشروعه الفكري. يقع في صلب اهتمامه بتحليل العلاقة المركّبة بين المعرفة والسلطة، إلّا أنّه يفتح هنا أفقا جديدا من خلال التركيز على البعد الروحي والميتافيزيقي، كرافعة لتشكّل المعنى والنظم الاجتماعيّة والسياسيّة في المجتمعات الأفريقيّة. صحيح أن الكتاب امتداد لأعمال سابقة تناول فيها قضايا الذاكرة والتاريخ والهويّة، لكنّه هنا يذهب أبعد نحو مساءلة الجذور الرمزيّة والمعرفيّة التي تقوم عليها هذه البُنى من داخل الحقول الدينيّة نفسها.
يطرح فالوﻻ سؤالا جوهريّا مفاده: كيف تؤسّس الكلمات المقدّسة، بما فيها الشفويّة والرمزيّة والأسطوريّة، مجالات للسلطة والمعرفة داخل التكوين الاجتماعي الأفريقي؟
تتمحور إشكالية الكتاب حول كيفيّة تداخل النُظم الروحية الأفريقيّة التقليديّة مع السياسة وإنتاج المعرفة، ويثير سؤالا جوهريّا مفاده: كيف تؤسّس الكلمات المقدّسة، بما فيها الشفويّة والرمزيّة والأسطوريّة، مجالات للسلطة والمعرفة داخل التكوين الاجتماعي الأفريقي؟ يجيب عن التساؤل انطلاقا من نقد جذري لتمثّلات الدين الأفريقي في الكتابات الاستعماريّة، معتبرا أنّ هذه الأخيرة شوّهت البنية العميقة للروحانيّة الأفريقيّة، وحجّمتها ضمن تصنيفات تبسيطية من قبيل: "الخرافة" أو "الوثنية"، وهو ما يسعى إلى تجاوزه عبر إعادة بناء اللغة المعرفيّة التي تتكلّم بها هذه النُظم من الداخل.
ينطلق فالوﻻ من فرضيّة أنّ الروحانية الأفريقيّة ليست مجرّد نظام طقوسي أو بعد لاهوتي مغلق، بل هي في جوهرها نظام إبستمولوجي يمثل تقاطعا لإنتاج المعرفة مع بناء السلط، وتشكيل الهويّات، وتنظيم الفضاء العام. فالأسطورة والتراتيل والطلاسم والأسماء المقدّسة ليست عناصر هامشيّة، بل بنية تأويليّة ومعرفيّة تنتج المعنى وتنظّم الفعل الجماعي. يعرض فالوﻻ نماذج ملموسة من جماعات اليوروبا وغيرها، تحلل كيفيّة تشكّل السلطة من داخل الحقول الروحيّة، وكيف تحوّلت الكلمات المقدّسة إلى أدوات فاعلة في التنظيم الاجتماعي، بل وفي الحركات المقاومة للاستعمار أيضا.
يتناول فالوﻻ بالتفصيل الأدوار المتقاطعة للكهنة والأئم، والقساوسة باعتبارهم حاملي معرفة، وممثّلي سلطات رمزيّة في المجال الأفريقي، ويبيّن كيف أنّ هذه الشخصيات لعبت أدوارا سياسيّة في فترات الأزمات، وفي إدارة الصراعات المجتمعيّة، وفي صياغة الخطاب السياسي المحلي، مستعرضا بذلك تاريخا غير مرئي للبنية السياسيّة الروحيّة. يربط كل ذلك بانتقاد صارم للأراء الغربيّة التي قرأت الدين في أفريقيا إمّا من زاوية لاهوتيّة تبشيريّة أو من زاوية علمانيّة اختزاليّة، وبدلا من ذلك يقترح استعادة المفاهيم الأصليّة التي عبّر بها الأفارقة عن أنفسهم بوصفها نقطة انطلاق ضروريّة لأي مشروع معرفي مضاد للاستعمار.
منهجيا، يستند إلى تعددية في المقاربة تستحضر أدوات الأنثروبولوجيا والدراسات الدينيّة ونقد المعرفة والتحليل السياسي، كما يدمج بين المقاربة التأريخيّة والسيميائيّة في فهم الرموز والكلمات. فضلا عن ذلك يتميّز الأسلوب التحليلي بتوازن بين الرؤية من الداخل - باعتباره ابنا للتجربة الثقافية الأفريقية - وبين الصرامة النقديّة التي تمنعه من الوقوع في فخ التمجيد الهوياتي أو التموقع الأيديولوجي. بل إنّ فالوﻻ يُبقي على مسافة نقديّة حتى داخل التحليل الروحاني، فيُظهر كيف أن بعض الأنساق الدينيّة نفسها قد أنتجت علاقات سلطة غير عادلة، وهو ما يضيف إلى الكتاب عمقا تأويليّا إضافيّا.
يقترح استعادة المفاهيم الأصليّة التي عبّر بها الأفارقة عن أنفسهم بوصفها نقطة انطلاق ضروريّة لأي مشروع معرفي مضاد للاستعمار
يشكّل هذا الكتاب محطّة مفصليّة في مسار فالوﻻ الفكري؛ إذ يعبّر عن تحوّل نوعي من الاشتغال على الذاكرة الجماعيّة والتاريخ السياسي، إلى الغوص في بنية الوعي الأفريقي، كما تتجلّى في أنساقه الرمزيّة المقدّسة. بينما كانت أعماله السابقة تركّز على تمثيل التاريخ وتفكيك الكولونياليّة، فإنّ هذا العمل يقدّم مستوى أعمق من مساءلة جذور إنتاج المعرفة ذاتها.
لكل ذلك يمكن القول بأن "الروحانية الأفريقية ليست سردية عفويّة، بل نظاما حيّا للوجود، تُنتج من خلاله السياسة والمعرفة والهوية". فالوﻻ لا يعيد فقط الاعتبار للبعد الروحي في تشكيل الواقع، بل يُظهِر كيف يكون المقدّس - حين يُفهم من الداخل - فضاءً لتفكيك السلطة وتوسيع أفق الذات.
يأتي كتاب "إنهاء الاستعمار من الدراسات الأفريقيّة: إنتاج المعرفة، الفاعلية، والصوت" عن (Cambridge University Press)، بوصفه مساهمة عميقة في قلب الحقل نفسه الذي كان فالوﻻ جزءًا من تكوينه: حقل الدراسات الأفريقيّة. لكن الكتاب لا يكتفي بأن يكون تأريخا أو نقدا للحقل، بل هو إعلان واضح عن لحظة إعادة تموقع معرفي، يسعى من خلالها فالوﻻ إلى مساءلة الشروط التي بُنيت عليها المعرفة عن أفريقيا، وطرح بدائل منهجيّة لتحريره من قيوده المؤسّسية الغربيّة.
قد يبدو عنوان الكتاب وكأنّه ضمن سلسلة من الأدبيات التي تناولت "تفكيك الاستعمار"، فإنّ ما يميّزه هو الجمع بين التحليل الإبستمولوجي والخبرة الميدانيّة والمؤسّساتية التي راكمها، فالوﻻ كأستاذ ومحرّر وباحث في جامعات الشمال والجنوب.
يتمحور حول إشكاليّة مفادها أنّ الدراسات الأفريقيّة، بوصفها مجالا أكاديميّا تمّ ترسيخه في الغرب منذ منتصف القرن العشرين، نشأت في ظلّ علاقات غير متكافئة بين المعرفة والسلطة، فبالرغم من تطوّرها النظري بقيت إلى حدّ بعيد محكومة بمرجعيّات ومعايير ومؤسّسات لا تعكس الواقع الأفريقي، بقدر ما تعيد إنتاج صورة عنه في إطار أيديولوجي أو استشراقي. لا يقدّم فالوﻻ هذا النقد من موقع الضحية أو المظلوميّة، وإنما يبني أطروحته على معاينة تحليليّة لآليات إنتاج المعرفة، من اختيار المواضيع إلى اللغة إلى تمويل الأبحاث، وصولا إلى تصنيف المجلات وشروط النشر والترقية الأكاديميّة. وهو بذلك يُسائل البنية الكاملة للحقل، لا فقط مضمون الدراسات، بل آليات اشتغالها وحدود استقلاليتها.
يبيّن من خلال أمثلة متعدّدة كيف أنّ الأصوات النسائية، المهمّشة، المحليّة، بل حتى الجامعات الأفريقيّة نفسها، لا تزال تُدار معرفيّا من خارجها، رغم الخطابات التي تدّعي العكس
يُقسّم فالوﻻ تحليله إلى مستويات متداخلة، تبدأ من مساءلة علاقة "المعرفة بالفاعليّة" (agency)؛ أي قدرة الباحثين والمجتمعات الأفريقية على أن يكونوا منتجين للمعنى لا مجرّد مواضيع للبحث، ثم ينتقل إلى قضية "الصوت" (voice)، أي مَن يتحدث باسم أفريقيا، وبأي لغة، ولمن، ومن يُسمَع ويُمنح الشرعيّة؟ يبيّن من خلال أمثلة متعدّدة كيف أنّ الأصوات النسائية المهمّشة المحليّة، بل حتى الجامعات الأفريقيّة نفسها، لا تزال تُدار معرفيّا من خارجها، رغم الخطابات التي تدّعي العكس.
يحضر في هذا الكتاب اهتمام خاصّ بما يُسمّيه فالوﻻ "سياسات المعرفة"، حيث يُظهر كيف أنّ تمويل الأبحاث والمنظمات المانحة، والمجلات المفهرسة، ومراكز الدراسات الكبرى في الغرب، تُمارس أشكالا من السيطرة الناعمة على المحتوى المعرفي المنتج عن أفريقيا. وهو بذلك لا يهاجم "الغرب" بوصفه كيانا خارجيّا، بل يُحلّل علاقات القوّة المتداخلة التي تجعل من الإنتاج الأكاديمي نفسه ساحة لصراع التمثيل والموقع والرمزية. في المقابل، يقترح مجموعة من المسارات التحريريّة التي لا تقتصر على "أفريقانية" الدراسات شكلا، بل تدعو إلى استعادة الفاعليّة من خلال الانخراط في مشاريع معرفيّة جديدة، تستلهم من السياقات المحليّة، ومن المعارف الشفويّة والحركات الاجتماعيّة، كما تدعو إلى إعادة الاعتبار للغات المحليّة، ولمفهوم "المعرفة الواقعة" لا "المعرفة عن".
منهجيا، يتميّز الكتاب بجمعه بين التحليل النقدي للمؤسّسات والخطابات، وبين التأمّل الذاتي في تجربة الكاتب كباحث أكاديمي اشتغل لسنوات في بيئات متباينة. كما يستند إلى تراث ما بعد الكولونيالية، لكنّه يتجاوزه من خلال دعوة واضحة إلى الانخراط في بناء بدائل منهجيّة حقيقيّة، بدل الاكتفاء بالتفكيك أو اللوم. فالوﻻ هنا ليس منظّرا فقط، بل يمارس كتابة سياسيّة بمعناها المعرفي، يضع فيها اليد على مكامن الاختلال البنيوي في طريقة إنتاج المعرفة عن أفريقيا.
يشكّل الكتاب بذلك لحظة مفصليّة في كتابات فالوﻻ، ليس بوصفه فقط مؤرّخا أو مثقّفا أفريقيّا، بل مفكّرا يعمل من داخل الأكاديميّة العالمية لتفكيك شروطها، ومن داخل الحقل لتوسيع حدوده، في اتجاه ما يسميه "الإنتاج الأفريقي للمعرفة"، لا يتوقّف عند حدود الهويّة، بل يتجاوزها نحو بناء استقلال معرفي فعلي، يعيد للعالميّة معناها العادل والمفتوح.
يأتي كتاب "السير الذاتية الأفريقية والتمثيلات الثقافية: سرد التقاليد"، ليشكّل امتدادا طبيعيّا لما يمكن تسميته "الطور السردي" في مسار فالوﻻ الفكري، حيث تتقاطع الذاكرة الفرديّة مع الذاكرة الجمعيّة، ويُعاد من خلاله طرح سؤال التمثيل الثقافي بوصفه فعلا سياسيّا ومعرفيّا في آن. وإذا كان فالوﻻ قد اشتغل سابقا على قضايا التاريخ الشفوي والهويّة الثقافيّة، فإنّ الكتاب يضيف بعدا نوعيّا إلى مشروعه من خلال تركيزه على السيرة الذاتيّة بوصفها وثيقة سرديّة، تكثّف العلاقات بين الفرد والمجتمع والذاكرة والسلطة.
يركّز فالوﻻ على مفهومي "الذات القَصَصيّة" و"التقاليد المُرويّة" باعتبارهما مدخلين لفهم كيف تُعاد كتابة الثقافة والهويّة عبر الحكي الفردي، في ظلّ محاولات مستمرّة لفرض سرديّة موحّدة حول ما تعنيه "أفريقيا"
لا يتعامل فالوﻻ مع السيرة الذاتيّة بوصفها مجرّد شكل أدبي أو اعتراف شخصي، بل يرى فيها ممارسة ثقافيّة حيويّة تحمل أنساقا معرفيّة بديلة، تعيد إنتاج التاريخ من موقع التجربة الحيّة. السرد الذاتي هنا ليس "فضفضة" فرديّة، بل تمرين على كتابة الذات بوصفها شاهدة على التحوّلات، وفاعلة في صياغة سرديّة مضادة للتاريخ الرسمي أو الكولونيالي. ينطلق فالوﻻ من تحليل نماذج متعدّدة من السير الذاتيّة والنصوص التمثيليّة التي كتبها أفارقة من خلفيات اجتماعيّة وجغرافيّة متعدّدة، ليكشف كيف تُستخدم الذاكرة الشخصيّة أداة لتفكيك السرديات المهيمنة، سواء تلك القادمة من الاستعمار أو من الدولة الوطنية لاحقا.
يستعرض الكتاب من خلال قراءات دقيقة، عددا من السّير والنصوص التي كُتبت بيد مفكّرين وفنانين وناشطين وقادة سياسيين، ويُبرز كيف تتوزّع تمثيلاتهم بين الحنين والمقاومة واستعادة التقاليد والبحث عن الذات في عالم يتغيّر بسرعة. يركّز فالوﻻ على مفهومي "الذات القَصَصيّة" و"التقاليد المُرويّة" باعتبارهما مدخلين لفهم كيف تُعاد كتابة الثقافة والهويّة عبر الحكي الفردي، في ظلّ محاولات مستمرّة لفرض سرديّة موحّدة حول ما تعنيه "أفريقيا".
كما يتوقّف فالوﻻ عند الدور الذي تلعبه الأشكال الفنيّة والتعبيريّة الأخرى - مثل السينما والشعر والأغنية - في توسيع أفق السيرة الذاتيّة، وتحويلها إلى خطاب ثقافي جماعي. ويُظهر كيف أنّ هذه التمثيلات لا تعمل فقط على استعادة الماضي، بل على مساءلة الحاضر واستشراف المستقبل، من خلال تقنيات تعبيريّة متداخلة، تعكس تعقيد التجربة الأفريقيّة في ما بعد الاستعمار. وهو في ذلك لا يفصل بين الشكل والمضمون، بل يرى أنّ الخيارات الأسلوبية - من اللغة إلى التقطيع الزمني إلى الأسطورة المُضمَنة - تعبّر هي الأخرى عن مواقف معرفيّة من الذات والواقع والتاريخ.
لا يعدّ هذا الكتاب مرجعا جماليّا للسيرة الذاتيّة، بل هو دفاع شامل عن الحق في الحكي، وعن مركزيّة الذات الأفريقيّة في إعادة تشكيل الذاكرة الجماعيّة
يُمثّل هذا الكتاب لحظة تأمّل عميقة في معنى الحكي وأدوات التمثيل، في علاقة مباشرة بمشروع فالوﻻ العام الذي يناضل من أجل إعادة تموقع المعرفة الأفريقيّة في قلب السرديّات العالميّة. وإذا كانت كتبه السابقة قد ركّزت على نقد البنى الكبرى - من الاستعمار إلى الدولة - فإنّ هذا العمل يتّجه نحو "الجزئي" بوصفه مدخلا لفهم الكلّي؛ حيث يصبح الحكي الشخصي حقلًا تتصارع فيه الذاكرة والمعنى والهويّة. وهو بذلك يُكمل الثلاثيّة التي بدأها في كتابيه السابقين، مضيفا بعدا سرديّا ومعنويّا إلى جدل المعرفة والسلطة.
لا يعدّ هذا الكتاب مرجعا جماليّا للسيرة الذاتيّة، بل دفاعا شاملا عن الحق في الحكي، وعن مركزيّة الذات الأفريقيّة في إعادة تشكيل الذاكرة الجماعيّة، وفضح التمثيلات السطحيّة أو المشوّهة. إنّه كتاب يستعيد للكتابة عن الذات معناها الكفاحي، ويمنحها سلطة مقاومة السرديّات المفروضة، ويجعل منها ميدانا لإعادة تشكيل التاريخ من الأسفل، وبصوت الذين عايشوه لا الذين كتبوه عن بُعد.
في ضوء تحليل ثلاثيته الأخيرة، يظهر بوضوح أنّ تويين فالوﻻ يواصل مشروعه في إعادة بناء المعرفة الأفريقيّة على أسس نقديّة، متحرّرة من الهيمنة الكولونياليّة، ومنخرطة في استعادة الصوت والفاعليّة من الداخل. لا تسعى هذه الكتب إلى إعادة تعريف أفريقيا في ضوء ما فُرض عليها، بل إلى استنطاقها بما تُنتجه من سرد وروح وذاكرة. وقد مكّن التركيز على هذه المرحلة المتأخّرة من منجزه من الكشف عن تحوّلات منهجيّة وخطابية تعبّر عن نضج رؤيته وتوسّع أفقها، بما يجعل من هذه الأعمال مدخلا ضروريّا لفهم طبيعة الرهانات المعرفيّة والسياسيّة في الكتابة عن أفريقيا اليوم.