الخميس 5 ديسمبر 2024
شهدت حرب 15 أبريل/ نيسان 2023 في السودان جملة من الانتهاكات وجرائم الحرب، سواء إثر العمليات العسكريّة بين طرفيها الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، التي صارت تأخذ مستويات انكماش عسكري في مناطق مثل دارفور وتتوسّع في أقاليم الوسط وشرق البلاد. ارتبكت الانتهاكات وجرائم الحرب وما تزال أثناء العمليات العسكريّة أو جراء تداعيات الحرب مخلِّفة خسائراً فاضحة، وتداعياتٍ كارثيّة على كافة الأصعدة، لا سيما الإنساني بأبعاده النفسية والاجتماعية والاقتصادية.
يأتي التوثيق الصحفي لانتهاكات وجرائم الحرب بكونه ضرورة تحتمها ضرورة الجهود المبذولة والمتضافرة لإيقاف الحرب أولاً، والسعي إلى تحقيق العدالة وبناء السلام وتعزيز حقوق الإنسان بعد أفولها ثانياً. يسهم التوثيق الصحفي للانتهاكات والجرائم التي ارتكبت خلال الحرب في نقل الصورة القاتمة والسوداوية لها إلى العالم، ما قد يؤدي إلى زيادة الضغط على أطرافها من أجل إيقافها من جهة، وزيادة مناصرة ضحاياها من جهة أخرى. فضلا عن إسهامه مستقبلا بشكل أصيل في إثبات الجرائم والانتهاكات عند المؤسسات القضائية، إضافة إلى إسهامه المحوري في تحقيق المصالحة المجتمعية وتعزيز العدالة الانتقالية.
تزداد ضرورة التوثيق الصحفي لانتهاكات وجرائم الحرب في السياق الحاليّة بسبب الفجوة الإعلامية الكبيرة في السودان من ناحية، وتفاقهم الأزمة الكارثية دون أي جهود مبشرة في الأفق بإيقافها في القريب المنظور على الأقل. ففي ظل ضعف ومحدودية تغطية الإعلام السوداني وسط التحديات والمخاطر الكبيرة، تبرز الأهمية القصوى لهذا النوع من العمل الصحفي، وتتكشف ضروريتها للحظة لخلق مناصرة أكبر، وللتاريخ لحفظ ذاكرة الأحداث، والمستقبل للمساهمة في تحقيق العدالة والمصالحة وبناء سلام شامل ومستدام.
تكمن الأهمية القصوى للتوثيق الصحفي لانتهاكات وجرائم الحرب بمختلف أشكالها ومستوياتها في قدرته اللامتناهية على الضغط للتدخل آجلاً وعاجلاً لإيقاف الحرب، وإنهاء العنف. كما يشكل تهديدًا للأنظمة السلطوية والاستبدادية في أوقات السلم قبل الحرب من خلال الرصد والمراقبة، إلى جانب ما يمثله من مخاطر حاسمة للمجرمين ومرتكبي الانتهاكات، فضلاً عن قدرته على حفظ ذاكرة أحداث الحروب والنزاعات المسلحة بكل تفاصيلها. فالتوثيق الصحفي يتجاوز مجرد نقل الأخبار تفاصيل الوقائع ليصبح أداةً حيوية لترسيخ قيم العدالة والمصالحة والمساواة وتعزيز شروط النزاهة والسلام المستدام .
على الصعيد الاجتماعي يعمل هذا التوثيق الصحفي على حفظ ذاكرة مصائر وأوضاع الجميع خلال الماساة؛ حيث يعمل بشكل أصيل وجوهري في الحفاظ على إحصائيات القتلى والجرحى والمفقودين والمختفيين والمهجرين قسرًا، مما يؤدي إلى إعلام ذويهم بمصائرهم مما يقودهم إلى تحديد كيفية التعامل مع هذه الحالات، وكيفية معالجة آثار وفجوات فقدهم أو بُعدهم. كما يتمتع القدرة الكبيرة على زيادة رفع الوعي المحلي والعالمي بالفظائع المرتكبة، مما يعزز التضامن بين المجتمعات المحلية والدولية مع الضحايا، ويدعم الجهود في تقديم الدعم النفسي والمادي لهم، ويعزز من جهود المصالحة المجتمعية بعد انتهاء النزاع. ناهيك عن توفير الحماية للمدنيين من خلال فضح انتهاكات حقوق الإنسان، ودعوة الجهات المعنية للتحرك والتدخل، بالإضافة إلى قدرته على تعزيز روح المساءلة من خلال إذكاء شعور المواطنين بضرورة محاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب، ما يُسهم في بناء مجتمع أكثر عدالة.
سياسيًا، يمكن للتوثيق الصحفي، أن يُحفّز الضغط الدولي على أطراف الحرب والجهات المتورطة في دعمها بشتى الطرق، مما قد يؤدي إلى فرض عقوبات أو تدخلات دبلوماسية لوقف النزاع. كما أن توثيق ممارسات الاحتجاز والاعتقال والاختفاء والتهجير القسري صحفيًّا ونشرها، قد يشكل ضغطًا هائلاً على مرتكبيها للإفراج عنهم، مما يؤدي إلى إذكاء غضب وغبن شعبي تجاه الجناة. هذا ويساهم في زيادة الوعي السياسي داخليًا، مما يشكل ضغطًا على طرفي الحرب لتغيير توجهاتهما، وتحسين سياساتهما تجاه الصراع، وإيجاد حلول سياسية سلمية.
اقتصاديا، قد يسهم توثيق الانتهاكات وجرائم الحرب، واستخدامها لاحقاً لتحقيق العدالة وتعزيز السلام في خلق مناخ وبيئة مستقرة وآمنة، مما يشجع على زيادة فرص الاستثمار وازدهار الأنشطة الاقتصادية، وتعزيز فرص التنمية الاقتصادية المستدامة. كما يسهم التوثيق الدقيق في دعم قضايا التعويضات للضحايا سواء كانوا أفرادًا أو مجتمعات، ما يساعد في إعادة بناء المناطق المتضررة. علاوة على تأثير التغطية الإعلامية التوثيقية في فتح مسارات تقديم المساعدات الإنسانية والمالية لإعادة الإعمار بعد انتهاء الحرب.
ثقافيًا، يعمل التوثيق الصحفي لانتهاكات وجرائم الحرب على حفظ الذاكرة الجماعية للأجيال القادمة، ويمنع نسيان الفظائع التي ارتكبت، مما يساعد في فهم الأسباب الحقيقية للنزاع وتجنب تكرار الأخطاء في المستقبل. فضلا عن بناء سرديات تاريخية دقيقة وصحيحة تسهم بشكل ما في تعزيز الشعور بالهوية الوطنية المشتركة. كما يعمل على نقل القصص الشخصية والحكايات تجاه الانتهاكات وطرائق المقاومة والصمود في آن؛ حيث أن التوثيق يعطي صوتًا للضحايا والشهود، مما يُثري النسيج الثقافي للبلاد، ويضمن أن تُروى قصص الذين تأثروا بالحرب للتوظيف حاضرًا ومستقبلًا.
على المستوى القانوني، قد يلعب التوثيق الصحفي دوراً محورياً مهماً، فهو بمثابة مصدر موثوق وذا مصداقية ودقة عالية من خلال التوثيق بالصورة والصوت والنص والسياق للأدلة والوثائق التي يمكن استخدامها في المحاكمات المحلية أو الدولية ضد مرتكبي الجرائم. هكذا يتم التصدي لثقافة الإفلات من العقاب، مما يعزز سيادة القانون ويؤسس لعدالة دائمة.
ومن المحاسن الكبرى لضرورة الإنخراط في التوثيق الصحفي لانتهاكات وجرائم الحرب وقيمته على الصحافة كمهنة والاعلام كعملية ومنظومة نسقيّة، أن الأخيرة تفرض على الصحفيين ظروفاً وتطوراتٍ ستفصي بهم استخدام معظم الأدوات ووسائط الإعلام المختلفة إن لم يسعون إلى استغلال جميعها بكل ما يتمتعون به من قوة وجهد وإمكانيات مالية ومهارية.
تفرض المسؤولية الاجتماعيّة والأخلاقية والمهنية بجانب شروط الحرب وتداعياتها على الصحفيين تحدياً مهنياً تقودهم إلى استغلال كل طاقاتهم، وتوظيف كل طرق وأدوات واستراتيجيات التوثيق الصحفي المختلفة والمتنوعة واستخدام كل الأشكال الجديدة للاعلام والصحافة - مثل الصحافة الاستقصائية والبناءّة وصحافة البيانات وصحافة الحلول حالياً - لتغطية الأحداث ما قد يشجعهم تلقائيًا إلى مزيد من الإبداع والاكتشاف ومزيد الاحتراف والنضج في ممارسة المهنة.
لم تدخل الكثير من الممارسات والأفعال ذات الطابع الحقوقي والأخلاقي التي تحدث أثناء الحروب والنزاعات سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي دائرة المحظور والممنوع قانونياً وأخلاقياً إلا حديثاً، ومع ظهور الدولة الوطنية القطرية وتطورها التاريخي، ولم تُقنن بمعاهدات وقوانين دولية باعتبارها جرائماً وإنتهاكاتٍ صارخة لحقوق الإنسان إلا مع دخول القرن الثامن عشر، إنما وجدت وضعها القانوني دولياً وإقليميّاً مع الحرب العالمية الأولى.
حيث قبلت الكثير من الدول انتهاكات معينة لقوانين الحرب جرائماً وقُنن معظمها في اتفاقيات لاهاي عام 1899 وعام 1907. ثم جاءت فكرة المعاقبة وبقية الإجراءات التي تصب في خانة إنصاف الضحايا لاحقاً. وتعد معاهدة فرساي لعام 1919، واتفاق لندن لعام 1945، واتفاقيات جنيف لعام 1949 من أهم مراحل تطور فكرة وآليات وأدوات العقاب لإنتهاكات وجرائم الحرب بمختلف أشكالها ومستوياتها.
في الحقبة المعاصرة، تمت ملاحقة قانونية لانتهاكات وجرائم الحرب بمختلف أشكالها ومستوياتها، والحُكم على مرتكبيها بأنواع مختلفة من العقاب؛ أقلها مستوى الإدانة الكتابية والاستنكار وأشدها الحُكم بالإعدام مع وقف التنفيذ. ومحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية أهم المؤسسات التي تسعى إلى تعزيز العدالة وحقوق الإنسان على المستوى العالمى من خلال العمل على تنفيذ القانون الدولي بتفرعاته المختلفة سواء على مستوى الأفراد أو الدول والمؤسسات.
لعبت الصحافة دائماً دوراً أصيلاً في نقل معاناة الضحايا أثناء الحروب والنزاعات المسلحة، وذلك استجابةً لالتزامها المبدئي في معرفة الحقيقة والوصول إليها، وتوثيقها ونقلها إلى الجميع بأكبر قدر ممكن من الانتشار، ما أدى إلى أن يصبح الجزء الأكبر من ممتهنيها ضحية وهدفاً مباشراً للأنظمة السلطوية في أوقات السلم قبل الحرب، من أجل إخفاء فظائعها والتستر عن جرائمها.
يتمتع الصحفي بقدرات ويمتلك من الأدوات والمهارات والحصانات القانونية ما لا يمتلكه غيره من الأفراد والجماعات ذاتياً ومهنياً، ما يساعده كثيراً على الركض وراء الحقيقة في أحلك الظروف وأسوأ الحالات، لكشف فظائع المجرمين والفسدة والطغاة، مما قد تسهم في الحفاظ على أرواح الضحايا والمدنيين الأبرياء، ما يدفع مجرمي الحرب إلى وقف ممارساتهم الإجرامية وإنهاء أفعالهم العنيفة الدموية.
تعمل التغطية الصحفية للحرب - بجانب إسهامها في حفظ لحظة الحرب بشكل دقيق وشامل مما يساعد في فهم السياقات والأسباب والآثار طويلة الأمد للصراع، ويمنع تحريف الحقائق أو نسيان الجرائم - على نشر الوعي وإفهام العالم بحجم وعمق المعاناة والانتهاكات التي تُرتكب، مما يشكل رأيًا عاماً يزيد من الضغط على أطراف الحرب لإيقافها مع إسهامها الكبير في إثارة انتباه المنظمات الإنسانية والدولية إلى الأوضاع على الأرض. مما قد يؤدي إلى تدخلات إنسانية وحقوقية لحماية المدنيين، وتقديم المساعدات الضرورية، ويعزز من تحفيز المجتمع الدولي على اتخاذ خطوات سياسية ودبلوماسية حاسمة للضغط على أطراف النزاع للوصول إلى حلول سلمية تنهي الصراع وتعيد بناء السلام.
يؤكد الصحفي والسكرتير العام لنقابة الصحفيين السودانيين، محمد عبدالعزيز، في مقابلة معه، "أن التوثيق الصحفي يعتبر أداةً حاسمة في الكشف عن الحقيقة وحماية المدنيين في سياق النزاعات المسلحة؛ لذا فالتزام الصحفيين رغم التهديدات الأمنية والتحديات الكبيرة والمتنوعة التي يواجهونها أثناء تغطيتهم للحرب، وإنخراطهم في توثيق جرائم وإنتهاكات التي ترتكب بشكل منهجيّ مهني احترافي، يُعد موقفاً أصيلاً لممارسة المهنة، والتي قد يسهم في تحقيق العدالة. كما يرسل التوثيق الصحفي رسائلاً واضحة بأن الانتهاكات والجرائم المرتكبة لن تمر دون عقاب، إلى جانب إسهامه المحوري في حفظ سجل دقيق للأحداث، مما يساعد الأجيال القادمة على فهم الماضي وتجنب تكرار الأخطاء".
تقول منظمة "هيومن رايتس ووتش"، إن محاسبة الأفراد على الجرائم الفظيعة قد تساعد على ردع الانتهاكات المستقبلية وتعزيز احترام سيادة القانون. كما قد تساعد جهود العدالة الجنائية على استعادة الكرامة للضحايا من خلال الاعتراف بمعاناتهم والمساعدة على إنشاء سجل تاريخي يحمي من التحريف على يد من ينكرون وقوع الفظائع. فالقانون الدولي يُلزم الدول بمقاضاة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، وجرائم الإبادة الجماعية بشكل صارم وحاسم. ومما يؤكد على مدى فاعلية العمل الصحفي التوثيقي انه بمختلف اشكاله المرئية والمسموعة والالكترونية والصوتية انه من اهم الادوات المعتمدة لدى مكتب الادعاء العام في المحكمة الجنائية الدولية".
إن التوثيق الصحفي بمختلف الادوات الإعلامية مثل الصور والفيديوهات والتسجيلات الصوتية يشكل إسهاماً اصيلاً في المساهمة في تحقيق العدالة والمصالحة وتعزيز حقوق الإنسان وزيادة مناصرة العالم للأزمة. فتصوير أدق وأصغر التفاصيل مثل الشظايا ووجوه بعض المتورطين، وركام تدمير البنية التحتية وإعداد القتلى والجرحى والمعطوبين بأسمائهم وعناوينهم بالدقة الزمنية والمكانية والسياق خلال الحرب قد يشكل دليلاً حاسماً وشهادةً دامغة لدى المحاكم المحلية والدوليّة لمحاسبة مرتكبي الجرائم وتحقيق العدالة للضحايا.
شهدت الحرب في السودان مجموعة واسعة من الانتهاكات وجرائم الحرب بمختلف أشكالها ومستوياتها، التي وثقتها التغطية الصحفية بضعفها ومحدوديتها ومنظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية. وقد كان وقعها على الفئات الضعيفة/المستضعفة كالأطفال وكبار السن والنساء الحوامل والمرضعات وذوي الاحتياجات الخاصة وفاقدي الأبوين والمشردين بل حتى النازحين بمختلف أجيالهم الزمنية أشد سوءاً، وأكثر كارثيّة. وكل ذلك وسط سيناريوهات غير مبشرة بآفاق لحل الأزمة.
يؤكد المحامي والمدافع الحقوقي، عبدالباسط الحاج، في مقابلة معه، "أن استمرار وقوع الانتهاكات خلال الحرب، وبخاصةً على المدنيين يعود إلى عدم إلتزام أطراف النزاع بقوانين الحرب التي تحرّم الكثير من الممارسات أثناء الحرب، فمنذ بداية الحرب ارتكبت أطرافها جملة انتهاكات ضد المدنيين بشكل مباشر؛ إذ قامت قوات الدعم السريع بإقتحام منازل المواطنين المدنيين ونهب ممتلكاتهم، وارتكبت جرائم اعتداء جنسي واغتصاب ممنهج، وغيرها من السلوكيات التي منعها القانون الدولي الإنساني والقانون العرفي، ويجب التعامل مع كل هذه الجرائم مستقبلاً من خلال فتح تحقيقات جنائية وطنية مستقلة ونزيهة، عندما يتحقق شرط وجود مؤسسات وطنية قوية، كما أن هنالك بعض الجرائم قد تدخل ضمن اختصاص المحاكم الدولية مثل المحكمة الجنائية الدولية التي لها اختصاص قضائي في إقليم دارفور".
تشمل الجرائم والانتهاكات التي ما تزا لترتكب: القتل الجماعي والمجازر ضد المدنيين، النزوح واللجوء والتهجير القسري، العنف الجنسي والجنساني مثل الاغتصاب والتحرش والاعتداء على اساس النوع الاجتماعي، التعذيب وسوء المعاملة للمدنيين والاسرى، الاحتجاز والاعتقال التعسفي والاختفاء القسري، النهب وتلتدمير العمدي للممتلكات والبنية التحتية العامة والخاصة، الحصار وحرمان المدنيين من المسادات الإنسانيّة بالمنع من وصولها عمدًا، التجنيد القسري للأطفال، استهداف المدنيين بشكل مباشر أو غير مباشر على أساس قبلي أو سياسي أو مهني، القتل خارج نطاق القانون مثل: مشاهد قتل الرؤوس من أفراد من كلا طرفيّ الحرب.
كما يعد هجوم القوات على المناطق بجانب تهجيراً سُكانها قسراً ممارسة كل الجرائم والانتهاكات عليهم أدت إلى تعطيل الزراعة موسمين كاملين، مما انعكس على دخول البلاد في أزمة نقص حاد في المواد الغذائية، الأمر الذي ساهم في تفاقم الأزمة الإنسانية لدرجة بلوغ بعض المناطق إلى حالة المجاعة كما أعلنت في ولاية شمال دارفور مؤخراً.
في واقع الحال، تسبب الحرب في إرهاق الاقتصاد السودانيّ بمختلف مصادره البشريّة والماليّة، والذي كان هشاً ومأزوماً من الأساس، بشكل أدى إلى تداعيه وانهياره بصورةٍ شبه كاملة. وقد ساهم هذا الانهيار - وما يزال يسهم بوتيرةٍ مخيفة بجانب توقف المساعدات الإنسانيّة وإعاقة طرفي الحرب من وصولها - في إضعاف كارثيّ لمستوى حياة السودانيين المعيشيّة التي هي في الواقع صعبة ومزرية وقاهرة في أصلها، لدرجة إعلان حالة المجاعة في ولاية شمال دارفور.
أدخلت الحرب البلاد في دوامة أزمة حقوق الإنسان كارثيّة شاملة؛ حيث تتمازج وتتداخل خيوط مأساة السودانيين المضاعفة مع الأزمة الاقتصادية والسياسية، بشكل أدى إلى خلق وضعيّة تاريخيّة سوداء وقاتمة للغاية للسودان حاليًا. وتتشابك خسائر البلاد مالياً مع استمرار الحرب وتطوراتها لدرجة التماهي، ما يؤدي إلى إشكاليّة معقدة وصعبة وقعت خلالها أبشع الجرائم وأوحش الأفعال وأعنف الممارسات. وهذه الإشكالية تتظهر في أن أكثر من 15 مبادرة محلية وإقليمية ودولية فشلت في إيقاف الحرب وإحلال السلام، أو إنقاذ أكثر من 54% من السودانيين من خطر الجوع والمجاعة.
تكمن الفجوة الكبيرة لجانب التوثيق الصحفي لجرائم وانتهاكات الحرب في الحرب السودانيّة الحالية في ضعف ومحدودية التغطية الصحفية للحرب بشكل عام محليًا وعالميًا. حيث يؤدى هذا الضعف تلقائيًا إلى إضعاف توثيق الانتهاكات والجرائم التي ترتكبها أطراف الحرب. فتغطية الإعلام السوداني والخارجي العالمي المتواضعة والضعيفة للحرب يفضي مباشرةً إلى غياب شبه تام لتوثيق كل الأفعال والممارسات المؤذية والوحشيّة والعنيفة والإجرامية بأدق وأصغر تفاصيلها، التي ما تزال ترتكب خلال الحرب، مما يسهم هذا الضعف والمحدودية إلى إضعاف مناصرة العالم للازمة السودانيّة لمحدودية ادراكها للصورة السُوداء والقاتمة الكلية لها.
كما أنه من التداعيات الخطيرة الأخرى لهذه الفجوة المركبة أن وجود هكذا بيئة حرب غير مغطى إعلامياً بجانب ضعف مراقبة المنظمات الحقوقية والإنسانية لها قد يتيح كثيراً لأطراف الحرب مساحاتٍ واسعة للتمادي في ارتكاب الجرائم والانتهاكات، كما قد يساهم هذا الغياب الكبير في توثيق احداث الحرب بكل تفاصيلها في مزيد من ضعف ومحدودية توافر الأدلة والوثائق والشهادات التي قد يوفرها الإعلام بالصورة والصوت والنص لقوة موضوعيتها ومهنيتها وشمولها - بحكم اعتراف المؤسسات الدولية بها - للمؤسسات القضائية والقانونية، التي قد تسهم في تحقيق العدالة للضحايا ومحاسبة المتورطين ومرتكبي الانتهاكات وجرائم الحرب.
لذا، تشكل التغطية الصحفية للحرب أهمية قصوى للأفراد والمجتمع والدولة، الأمر الذي قد يسهم في خلق اوضاعاً جديدة أكثر إنصافًا وعدالة وسلام على المستويين القريب والبعيد. فضرورة حضور وسائل الإعلام في أرض الواقع لتغطية الحرب بكل تفاصيلها وتطوراتها تكمن في جانبها الوظيفي المسؤول لنقل وتوثيق لحظات الانكسار والضعف وحالات المقاومة والصمود في آن للاستفادة منها، وتوظيفها بشكل إيجابي حاضرًا ومستقبلًا.
يمكن للإعلام السوداني بمختلف أشكاله وأدواته أن يلعب دورا محوريا رغم جملة التعقيدات والتحديات شديدة الخطورة، وذلك بالتعزيز من فرص تكثيف الجهود لزيادة جانب التغطية التوثيقية الصحفية عن قصد لانتهاكات وجرائم الحرب الحاليّة في البلاد، ومما يعزز من صموده أيضاً، من خلال اتخاذ جملة إجراءات وصياغة مجموعة من الاستراتيجيات والمقاربات، تتمثل أهمها في ضرورة التمسك بالاستقلالية عن الأطراف المتنازعة مع المحافظة على حياديتها المهنية، مما قد يعزز مصداقيتها بشكل واسع وأكبر وأعمق لدى الجمهور المحلي والخارجي.
كما يجب تجنب نشر الشائعات أو المعلومات غير المؤكدة، وضرورة التدريب على التخطيط اللوجستي وعلى الأمن والسلامة وتأمين المعدات والحماية الرقمية، لتعزيز كيفية العمل في مناطق النزاع وكيفية التعامل مع المخاطر والتهديدات المحتملة والتحديات المتوقعة مع ضرورة التنسيق مع المنظمات الإنسانية. هذا وينبغي كذلك التدريب والتطوير المستمر على التحصين ضد الدعاية والتوازن في التغطية من خلال الوعي والإدراك الكافي بالدعاية الحربية وأساليب وسياقات التضليل والتعميم الإعلامي الممنهج من قِبل أطراف النزاع.
كما أن مزيدا من التغطية الصحفية الموثِقة لانتهاكات وجرائم الحرب، تضافر الجهود بشكل جاد ومسؤول لاستغلال منجزات الثورة المعلوماتية والتقنية من خلال زيادة الحماية الرقمية مع ضرورة زيادة الوعي في استخدام أشكال الصحافة الجديدة كالصحافة الاستقصائية، وصحافة البيانات، صحافة مابعد النزاع، وصحافة الحلول، والصحافة التمكينية والبناءة. كما يجب زيادة جهود توفير الدعم النفسي للصحفيين وتقدير جهودهم والتأكيد على أهمية دورهم الأمر الذي يسهم في رفع وتعزيز معنوياتهم أثناء التغطية من الميدان، مع ضرورة التعاون الدولي مع وسائل الإعلام الدولية للتبادل المهني وتعزيز التجارب بجابن الاستفادة القصوى من والحماية والدعم القانوني الدولي التي توفره لهم القوانين والمعاهدات والمواثيق الدولية والإقليمية وحتى المحلية. والاكثر أهمية بالضرورة على المجتمع الصحفي زيادة الوعي وفهم السياقات المحلية بشكل أكبر وأعمق مما يعزيز حضوره العضوي لدى المجتمعات ويزيد من مصداقية عملهم لديهم، ويبني مزيد من شبكات المصادر المحلية الموثوقة التي يمكن الاعتماد عليها للحصول على معلومات دقيقة وآمنة.
في الخلاصة، يلعب الإعلام دورًا محوريًا حاسمًا أثناء الحروب والنزاعات المسلحة، ولا سيما في جانبه التوثيقي لانتهاكات وجرائم الحرب التي ترتكب خلالها. فقد يسهم التوثيق الصحفي للاخيرة في تحقيق العدالة والمصالحة واستدامة السلام، كما يساعد بشكل أساسي في تعزيز حقوق الإنسان وصون الكرامة الإنسانيّة، وإضعاف مساحات الجريمة والافلات من العقاب، كما يسهم بصورةً اصيلة في حفظ الذاكرة الجماعية للشعب ولاجياله، مما يعزز جهود إحلال التعاون والعيش المشترك في سلام وتجنب تكرار الأخطاء مما يؤدي إلى تعزيز فرص الحياة الكريمة المنشودة.