الاثنين 23 يونيو 2025
رحل عن العالم الموسيقي المالي العالمي «تومانِي دياباتي» في 19 يوليو/ تموز 2024، قبل أيّام قليلة من إتمام عامه التّاسع والخمسين، وهو في أوج نشاطه الفنّي. يعدّ الراحل أحد أبرز السفراء الموسيقيين لشعب الماندِي في غرب إفريقيا؛ عازف على آلة الكورا ومؤلف موسيقي.
وُلد تومانِي في باماكو عام 1965، في وقت لم يكن فيه اسم عائلته دياباتي ولا آلته الموسيقيّة الكورا - وهي قيثارة أفريقيّة ذات 21 وترًا - معروفين خارج نطاق منطقة الماندِي. مع تقدّم مسيرته، أصبح والده «سيديكي دياباتي الأب» يُلقَّب بـ"ملك الكورا"، في حين رسّخ تومانِي مكانته عالميًا، محافظًا على تقاليد العزف التي ورثها. لكنّه أضاف إلى مؤلفاته لمسات ارتجالية وتأثيرات موسيقية معاصرة، من خلال تعاونه مع موسيقيين من تقاليد مشابهة حول العالم. وبحلول وفاته، كانت نجوميّة ابنه، «سيديكي دياباتي الابن» في صعود، ما يعكس استمرار هذا الإرث الموسيقي العريق.
ينتمي عازفو الكورا، مثل عائلة دياباتي، إلى تقليد موسيقي يمتدّ لقرون، هو تقليد الجِلي (griots) في غرب أفريقيا، وهم المؤرّخون والروّاة والموسيقيّون الذين حفظوا التراث الشفهي لشعوبهم. وقد استطاع تومانِي أن يتتبّع نسبه العائلي إلى الحقبة التي بسطت فيها إمبراطورية الماندِي (1226-1670) نفوذها على أجزاء واسعة من غرب أفريقيا، ما يؤكد عمق جذور هذا الإرث الموسيقي والثقافي الذي حمله عبر الأجيال.
شكّلت السنوات الأولى من حياة تومانِي دياباتي مرحلة حاسمة في صقل موهبته الموسيقيّة وتشكيل وعيه الفنّي؛ إذ نشأ في بيئة موسيقيّة تحتفي بتقاليد الجِلي (griots) التي تعود لقرون. سنة 1971 عندما كان في السّابعة من عمره، أصدرت الحكومة المالية مجموعة من ستّة أسطوانات فينيل، بعنوان المختارات الأولى من الموسيقى المالية (Prémiere Anthologie de la Musique Malienne)، والتي ضمّت أبرز الموسيقيين المحترفين في ذلك الوقت، وكان من بينهم والده، سيديكي دياباتي الأب، الذي كان بالفعل شخصيّة بارزة في المشهد الموسيقي التقليدي. لم يكن هذا الإصدار مجرد توثيق للتراث الموسيقي، بل مثّل لحظة فارقة في إضفاء طابع رسمي على الاعتراف بالموسيقى التقليديّة للماندِي على مستوى أوسع، ممّا أتاح لتومانِي منذ طفولته نموذجًا موسيقيًا راسخًا للاقتداء به.
لم يكن من المستغرب أن يسير تومانِي على خطى والده، فالموهبة الموسيقيّة لم تكن مجرّد اختيار فردي، بل إرثا ثقافيا متجذّر في العائلة. سافر لأوّل مرّة إلى الخارج عام 1987، للعزف ضمن فرقة والده في مهرجان أُقيم في لندن، نظمته الباحثة والموسيقية «لوسي دوران»، التي لعبت دورا مهمّا في توثيق ونشر الموسيقى التقليدية لشعب الماندِي. كانت الموسيقى الكلاسيكية للماندِي المعروفة باسم جاليا (Jaliyaa)، في ذلك الوقت قد بدأت تكتسب شهرة عالمية متزايدة، بفضل الإصدارات الموسيقية العديدة، والجولات التي قام بها فنانوها، ما جعل هذا التقليد ينتقل تدريجيّا من نطاقه الإقليمي إلى الساحة الدوليّة.
يُعدّ نمط جاليا أحد أقدم الأشكال الموسيقيّة في غرب أفريقيا، وهو ليس مجرّد أسلوب غنائي أو عزفي، بل منظومة ثقافيّة متكاملة تتمحور حول حفظ التاريخ الشفهي، ورواية القصص، ومديح الشخصيات البارزة في المجتمع. يتميّز هذا النمط بأداء غنائي قوي، يُقدَّم بصوت رجال ونساء ذوي قدرة خطابيّة وموسيقيّة عالية، ويُصاحبه عزف على آلات مميّزة، أبرزها قيثارة الكورا، والنغوني وهو عود رفيع الشكل، والبالا آلة خشبية تشبه الإكسيليفون.
حتى منتصف القرن العشرين، كان جاليا مهنة وراثيّة محصورة في عائلات معيّنة، أبرزها عائلات دياباتي وكوياتيه وسيسوكو؛ حيث كان أفرادها مسؤولين عن حفظ الذاكرة الجماعيّة للمجتمع، ونقلها عبر الأجيال. كانت هذه الموسيقى تُؤدّى في البلاطات الملكيّة والمناسبات الرسميّة والاحتفالات المجتمعيّة، وكانت العائلات الحاكمة في تاريخ الماندِي تُشكّل جمهورها الرئيسي، إذ كانت تعتمد على هؤلاء الموسيقيّين لتوثيق إنجازاتها وبطولاتها، ما جعل الموسيقيّين في هذا التقليد يتمتّعون بمكانة ثقافيّة وسياسيّة خاصّة.
وُلِد دياباتي ضمن هذا التقليد في فترة شهدت تحوّلات جوهريّة، حيث بدأ انفتاح المجال الموسيقي على جمهور أوسع، وتزايد الاهتمام العالمي بالموسيقى الأفريقيّة التقليديّة. تزامن ذلك مع تغير في طبيعة المهنة الموسيقيّة نفسها، فلم تَعُد مقتصرة على العائلات التقليديّة أو على الأداء داخل نطاق البلاط والمجتمع المحلي، بل بدأت تتّخذ طابعا أكثر احترافيّة، وانفتاحا على الجمهور العالمي.
في هذا السياق، لم يكن تومانِي مجرّد وريث لتراث والده الموسيقي، بل كان أيضا فاعلًا في توسيع حدوده، حيث استطاع من خلال مسيرته التي امتدّت 37 عاما أن ينقل موسيقى الماندِي إلى آفاق جديدة، سواء من خلال تطوير أسلوبه الخاص في العزف أو من خلال تعاونه مع موسيقيّين من ثقافات مختلفة.
وعليه، فإنّ اسم تومانِي دياباتي أصبح مرادفا ليس فقط للكورا، بل أيضا لإعادة تشكيل دور الموسيقى التقليديّة في سياقات جديدة، ما جعله أحد أبرز الشخصيات التي أسهمت في تعريف العالم بهذا الإرث الموسيقي الغني.
على الرّغم من نشأته في تقليد موسيقي قائم على الأداء الصوتي، اختار تومانِي دياباتي ألّا يغنّي، مفضّلًا التركيز على استكشاف الإمكانات الجماليّة والارتجاليّة لآلة الكورا نفسها. كان هذا القرار انعكاسا لرؤيته الموسيقيّة الفريدة؛ حيث سعى إلى تجاوز حدود الأداء التقليدي، جاعلًا من الكورا أداة تعبيريّة مستقلّة قادرة على حمل الخطاب الموسيقي بمعزل عن الصوت البشري.
انطلق تومانِي من دراسة وتشرّب الأرشيف التقليدي لموسيقى جاليا (Jaliyaa)، وهو في جوهره مجموعة واسعة من الألحان المصاحبة للأغاني، والتي يمكن أيضا تقديمها كمقطوعات فردية. لكن بدلاً من أن يقتصر على إعادة الإنتاج، سعى إلى تطوير أسلوبه الخاص في العزف؛ حيث تبنّى منهجا قائما على التدفّق الارتجالي؛ أي ابتكار الموسيقى في اللحظة ذاتها، مستلهمًا روح التقليد دون أن يكون مقيّدا بقواعده. وقد أدّى هذا الأسلوب إلى إعادة تعريف العلاقة بين العازف والآلة؛ حيث تحوّلت الكورا من مجرّد أداة مصاحبة إلى أداة حوار موسيقي مستقلّ.
قاد الفضول الموسيقي الدؤوب تومانِي إلى إنتاج 14 ألبوما تجاريّا، تنوّعت بين الأعمال الفرديّة التي تسلّط الضوء على براعته التقنيّة والتعبيريّة، والمشروعات التعاونيّة التي جمعت بينه وبين موسيقيّين من خلفيات موسيقيّة مختلفة. جاء ألبومه الأول «Kaira» عام 1988 بمثابة بيان موسيقي، يبرز قدراته في العزف الفردي على الكورا؛ حيث قدّم مقطوعات تعتمد على نقاء الصوت التقليدي، مع لمسات ارتجاليّة تعبّر عن رؤيته الموسيقيّة الخاصّة. وعلى النقيض من ذلك، كان ألبومه الأخير «The Sky is the Same Colour Everywhere» عام 2023 عملًا تشاركيّا جمعه مع العازف الإيراني «كيهان كلهر»، حيث امتزجت أصوات الكورا والكمان الإيراني (الكمنجة) في حوار موسيقي يعكس تلاقي التقاليد الموسيقيّة الارتجاليّة من غرب إفريقيا وآسيا الوسطى.
لم يكن تومانِي مجرّد عازف منفرد بارع، بل كان أيضا موسيقيّا ذا رؤية عالميّة، حيث سعى إلى توسيع حدود موسيقى الماندِي من خلال التعاون مع موسيقيين من مختلف التقاليد والأساليب. جمعته مشروعات موسيقيّة مع فنانين من أنماط متعدّدة، من بينهم: موسيقى الفلامنكو؛ حيث استكشف التفاعل بين إيقاعات الكورا والتقاليد الإيبيرية. والبلوز الأمريكي، من خلال تعاونه مع العازف «تاج مهال»، في محاولة لخلق جسور بين الموسيقى الأفريقيّة الأصليّة وتفرّعاتها في الشتات. والجاز التجريبي، من خلال عمله مع عازف الترومبون «روسويل رود»، حيث دمج الأسلوب الارتجالي الحرّ للجاز مع بُنية الجاليا التقليديّة. والموسيقى البرازيلية، عبر مشروعاته مع الشاعر «أرنالدو أنتونس» وعازف الجيتار «إدجارد سكاندورا»، ممّا أضفى بُعدا شعريّا جديدا على موسيقاه. والموسيقى الشعبيّة الأمريكيّة، من خلال شراكته مع عازف البانجو «بيلا فليك»، التي أبرزت القواسم المشتركة بين تقنيات العزف على الكورا والبانجو، باعتبارهما آلتين متجذّرتين في التراث الأفريقي.
إلى جانب انفتاحه على الموسيقى العالمية، حافظ تومانِي على ارتباطه الوثيق بتقاليد الماندِه، حيث عمل بشكل مكثف مع موسيقيين من ذات الإرث الثقافي، أبرزهم: «علي فاركا توري»، الذي مزج بين أسلوب البلوز الصحراوي وجذور موسيقى الجاليا، و«باسيكو كوياتيه» و«بالاك سيسوكو»، اللذان شاركاه في استكشاف إمكانات الكورا التقليديّة والمعاصرة. وابنه سيديكي دياباتي، الذي واصل المسيرة العائليّة مع إضافة لمسات حداثيّة على أسلوب العزف. فرقة "الأوركسترا المتماثلة" Symmetric Orchestra))، التي أسّسها ليجمع فيها بين أصوات الكورا والآلات الغربية، في محاولة لإعادة ابتكار موسيقى الماندِي بأسلوب أوركسترالي.
كما وصل بتعاونه إلى مستوى غير مسبوق، حين سجّل ألبوما مع أوركسترا لندن السيمفونيّة، ما مثّل تتويجا لمسيرته في توظيف الكورا ضمن سياقات موسيقيّة مختلفة، وإبراز قدرتها على التكيّف مع التقاليد الكلاسيكيّة العالميّة.
كان دياباتي صاحب رؤية موسيقيّة تجريبيّة، جعلت من الكورا أداة حوار موسيقي عالمي، حيث استطاع أن يعيد تعريف دورها من خلال دمجها في أنماط موسيقيّة غير تقليديّة، وتعزيز قدرتها على التواصل مع ثقافات موسيقيّة متعدّدة. لقد تجاوز حدود التراث، ليس من خلال التخلي عنه، بل عبر إعادة تشكيله في سياقات جديدة، ما جعله أحد أهمّ روّاد الموسيقى العالميّة المعاصرة.
حظيت إنجازات دياباتي بتقدير واسع على المستويين الفنّي والإنساني، إذ نال جائزتي غرامي (Grammy) عن إسهاماته الموسيقيّة المتميّزة، وحظي باعتراف دولي حين تمّ اختياره سفيرا للنوايا الحسنة للأمم المتّحدة، تكريما لدوره في رفع الوعي بأزمة فيروس نقص المناعة المكتسب (الإيدز) من خلال موسيقاه. كما حصل على درجة دكتوراه فخرية تقديرا لريادته في تطوير موسيقى الكورا، وإسهاماته في المشهد الموسيقي العالمي.
لكن أثره الحقيقي لا يُقاس بالجوائز أو التكريمات الرسميّة، بل يتجلّى في الدور المحوري الذي لعبه في ترسيخ مكانة الكورا كمكوّن أساسي في المشهد الموسيقي العابر للثقافات. لقد نجح تومانِي في تحقيق إنجاز مزدوج: فمن ناحية، كان عازف كورا تقليدي بارع حافظ على نقاء الإرث الموسيقي للماندِي، ومن ناحية أخرى، كان رائدًا في إعادة تعريف هذه الموسيقى من خلال التعاون مع فناني العالم، ما أتاح لها فضاء جديدا من التفاعل والابتكار.
باتت إنجازات دياباتي تحتلّ موقعا بارزًا في الذاكرة الثقافيّة العالميّة، إلى درجة تُقارن بتأثير «رافي شانكار» في الترويج للموسيقى الهنديّة خلال أواخر القرن العشرين. وكما أسهم شانكار في إدخال "السيتار" إلى المشهد الموسيقي الغربي، عبر تعاونه مع موسيقيي الجاز والروك، نجح تومانِي في جعل الكورا لغةً موسيقيّة يفهمها جمهور عالمي واسع، دون أن تفقد ارتباطها بجذورها التقليديّة.
اليوم، حين يُذكر اسم تومانِي دياباتي، لا يُستحضر فقط اسم موسيقي عبقري، بل تستعاد أصوات الكورا، وصور ماضي وحاضر شعب الماندِي، وتاريخ موسيقي يمتدّ لقرون. لقد جعل تومانِي هذه الأسماء والأصوات مألوفة لنا جميعا، لا كرموز لتراث محلي فحسب، بل كجزء من النسيج الموسيقي العالمي.