الأربعاء 19 نوفمبر 2025
قيل عنه إنه "يتمتع بعقل موسوعي، وقلب عالمي، وطاقة هرقلية". ووصف بأنه "من أهم الشخصيات الأدبية، التي أنتجتها إثيوبيا في المئة عام الماضية". كما وصف أيضا بأنه "مُخلص لقراءة أفريقية للغرب، وقراءة إثيوبية لإثيوبيا". ذلك هو تسيغاي غابري مدهين Medhin Tsegaye Gabreالأديب الإثيوبي، الذي عاش في الفترة من 1936 إلى 2006. وهي فترة أمضاها في حياة مختلفة، حدّد فيها مساراته في عوالم الأدب والفن والحياة، بأقوال عديدة، حقّها أن تكتب بماء الذهب، فهو القائل، في تمجيد التاريخ: "من أجل بناء مستقبل أفضل، يجب على المرء أن يتعلم من الماضي؛ إذ لا يمكنك بناء مستقبل قائم على الكراهية، لأن الكراهية عدو الأمل". وهو القائل الناصح أيضا: "لا تبدأ بمعرفة نفسك من منتصف الطريق، لا تبدأ من أوروبا، لأن أوروبا بدأت من أفريقيا". لقد جادت قريحته بأقوال كثيرة على هذه الشاكلة.
أفسحت الموسوعة البريطانية مساحة معتبرة للتعريف بتسيغاي، فأوردت ما مفاده أنه كاتب مسرحي وشاعر إثيوبي، كتب باللغتين الأمهرية والإنجليزية. وحصل على شهادة جامعية (عام 1959) من كلية بلاكستون للحقوق في شيكاغو. لكن سرعان ما تحول اهتمامه إلى الدراما، فدرس فنون المسرح في مسرح رويال كورت بلندن، وفي المسرح الوطني الفرنسي بباريس. وأبانت الموسوعة أنه كتب أكثر من 30 مسرحية، معظمها باللغة الأمهرية، وترجم إليها أيضًا عددًا من مسرحيات ويليام شكسبير وموليير. وأضافت أن تسيغاي يُعد الشاعر الرائد في إثيوبيا. نُشرت أشعاره الإنجليزية في المجلات الإثيوبية، وأُدرجت في العديد من مختارات الشعر الإفريقي. وقد كان شاعرًا غزير الإنتاج. كما كان ناشطًا بارزًا في مجال حقوق الإنسان؛ فاستحق بذلك عددا معتبرا من الجوائز والتكريمات.
يستنتج من سردية الموسوعة البريطانية عن شخصية تسيغاي غابري مدهين- أنه أديب متعدد المواهب، وتبرز هذه المواهب أكثر تركيزا في مجالات: المسرح والشعر والترجمة. وهي المجالات، التي ظل لنحو خمسة عقود يبدع في مضمارها الشاقّ، الذي أودى به إلى السجن مرات عديدة.
إذا كان للمسرح نصيب الأسد من إبداع تسيغاي كما وكيفا؛ فإن لأشعاره ما يميزها في مجال الموضوعات، التي تعمق فيها، وفي قدرته على إثراء اللغة الأمهرية. كما أن لترجمته من الإنجليزية، التي يتقنها إلى الأمهرية (لغته أمه= والدته)، ولغة الدولة الرسمية بلا منازع وقتها- طلاوتَها ووقعَها المميز، الذي أوصل به رسالته السامية إلى الجمهور. والتركيز الذي سيكون هنا على الجانب الإبداعي الفني، ينبغي ألا يقلل من كون تسيغاي كاتب مقالات تنويرية، وناقدا اجتماعيا حاذقا، وعالما لغويا فطحلا، ومؤرخا لا يشق له غبار، وناشط سلام بارزا.
بالإضافة إلى ما ذكر عن شاعرية تسيغاي- وصف أيلي بيكيري، مدير برامج البكالوريوس للدراسات الأفريقية بجامعة كورنيل، تسيغاي بأنه "شخصية رائدة" استخدم "الشعر كوسيلة لتعزيز فكرة الوحدة الوطنية بين مختلف سكان إثيوبيا".
إضافة إلى ذلك لاقت قصائده، باللغتين الأمهرية والإنجليزية، رواجًا واسعًا. وقد نُشرت عشرات منها، لا سيما في: "مقدمة الضمير الأفريقي"، وفي "أنتيغون السوداء"، وفي صحيفة "إثيوبيا أوبزرفر" عام 1965. كما نُشرت مختارات من قصائده الأمهرية عام 1973 بعنوان "إيسات وي أبيبا" (نار أم زهرة). وفي عالم الشعر، أيضا، ما تزال مجموعة تسيغاي "إنات عالم تينو" (الأم تسافر حول العالم)، يُحتفى بها، وهي عملٌ مثيرٌ للعواطف يمحو الحدود الجغرافية، ويتأمل في التجربة العالمية للأموم. عام 2002، اعتمد الاتحاد الأفريقي إحدى قصائده نشيدًا له. تقول القصيدة: "يا جميع أبناء وبنات أفريقيا/ يا أبناء الشمس وأبناء السماء/ فلنجعل إفريقيا شجرة الحيا... ".
"لا تبدأ بمعرفة نفسك من منتصف الطريق، لا تبدأ من أوروبا، لأن أوروبا بدأت من أفريقيا"
في السياق ذاته نشر لتسيغاي قصيدتان باللغة الإنجليزية بعنوان"ESOP" ، و"NILE" في مجلة "إثيوبيان ريجستر" عام 1997. وكرّمه مؤتمر شعراء العالم، ومنظمة الشعراء الحائزين على جائزة اتحاد الشعراء الدولي، المنعقد في إنجلترا، بجائزة الغار الذهبي المرموقة، ولقب "شاعر البلاط الفخري”.
يعد تسيغاي الشاعر الرائد في إثيوبيا، فقد نُشرت أشعاره الإنجليزية في المجلات الإثيوبية، وأُدرجت في العديد من مختارات الشعر الإفريقي. وكان غزير الإنتاج، وكتب عن مواضيع متنوعة، منها التاريخ الإثيوبي، الذي أوقف جزءا معتبرا من أدبه للتعريف به، وهو الذي عرف عنه احترام التاريخ.
من القصائد الملهمة لتسيغاي قصيدة يسميها "العودة لزيارة أزابو" (Azabo Revisited)، يقول فيها الشاعر: البصر غاية العيون،/ قبل أن يخفت سحر العمر،/ مرّت أربعة عشر عامًا،/ وإلى أزابو عدتُ.../ راقبتُ حدودها،/ ...../ كان صوتها حينها بعيدًا، بلا صوت،/ كسعال مريضٍ مُميت -/ شبحٌ، مُنحدرٌ تمامًا؛/ ظلّ كوابيس،/ رعب أيامٍ شريرة؛/ ضبابٌ فوق الساحة،/ أجنحة نسرٍ تدور؛/ أرضٌ كأخاديدٍ حادة؛/ أسنانٌ تصطدم، تُصرّ كجرس كنيسة.
وأغلب الظن أن تسيغاي في هذه القصيدة يقف على أطلال منطقة بهذا الاسم (ربما يرمز بها إلى بلاده)، له بها ذكريات لم يحددها، ولكنه تبدو محفورة في أعماقه، فهو يخاطبها بعد غياب سنوات، متوجعا أمامها، بعد أن وجدها في حالة يرثى لها، ربما بسبب حرب، أو بسبب هجرها. المهم أنه وجدها عليلة، أشبه بشبح يصارع الردى، وقد كبر في السن، وفقد القدرة على إسماع صوته. وهذا جزء من إبراز المآسي، التي توشح به إبداع تسيغاي عموما.
أبدع تسيغاي في مجال الترجمة، وعبر من خلاله عن انفتاحه على آدب العالم، لا سيما الأوروبي- فالمكتب تتحدث عن انبهار تسيغاي بعمالقة الأدب العالميين، أمثال: شكسبير وتولستوي ودوستويفسكي وموليير ووبرخت. وقد أثر استكشافهم لتعقيدات العقل البشري والمجتمع- تأثيرًا عميقًا على فلسفة تسيغاي الأدبية. ولم يتوقف عند قراءة أعمالهم، بل سعى إلى تقديمها إلى شعوب بلاده عبر ترجمتها إلى اللغة الأمهرية. فترجم مسرحية "عطيل" لشكسبير، والتي ما تزال تُعدّ من بين أفضل ترجمات مسرحيات شكسبير. كما ترجمة "ماكبث"، و"الملك لير" لشكسبير أيضا. إضافة إلى ترجمة مسرحيتي "طرطوف"، و"الطبيب الخبيث" لموليير، و"الأم الشجاعة" لبرخت، وهاملت لشكسبير.
لم يكن اختيار تسيغاي للمسرحيات، المشار إليها، وترجمتها إلى الأمهرية اختيارا اعتباطيا؛ بل لأنها تسلط الضوء بعمق حول مشكلات وقضايا ملحة في بلاده؛ لذلك سعى إلى أمهرتها بحيث تناسب بيئته، التي يعيش فيها، ويحتك بجمهوره المستهدف. فمثلا مسرحية "عطيل" لشكسبير- اشتهر أنها تكشف طبيعة الشر ودوافعه، وتتناول قضايا التحيز الثقافي والديني. أما مسرحية "طرطوف" لموليير- فتبين أهمية العقلانية في مواجهة الخداع والدجل. علاوة على انتقاد سذاجة وثقة أصحاب السلطة فيمن يخدعونهم.
هناك إشارات عديدة تبين أن مسيرة تسيغاي مع المسرح بدأت مبكرا، وهو ما يزال في المدرسة الابتدائية. ومن تلك الإشارات "أنه في الواقع بالكاد قد بلغ سن المراهقة عندما كتب مسرحيته الأولى "الملك ديونيسوس والأخوان" (King Dionysus and the Two Brothers)، وقد شاهدها على خشبة المسرح في مدرسة أمبو الابتدائية- الإمبراطور هيلا سيلاسي، آخر ملوك إثيوبيا.
يبدو أن حادثة عرض مسرحيته الأولى في ذلك الوقت المبكر، ومشاهدة الإمبراطور هيلا سيلاسي- شكلا دافعا ومحفزا لتسيغاي لمواصلة الإبداع في هذا الضرب من الفن المؤثر. وذلك أنه بعد أن حصل على درجة البكالوريوس في القانون من كلية بلاكستون للحقوق في شيكاغو عام 1959، سارع بعد ذلك إلى التخصص في مجال المسرح، إذ يشير موقع المسرح الإثيوبي الوطني إلى أنه بين عامي 1959 حتى 1960 درس تسيغاي المسرح التجريبي البريطاني، والفرنسي في مسرح رويال كورت في لندن، والكوميديا الفرنسية في باريس. وأغلب الظن أن هذه الدراسة شكلت نقطة انطلاق نحو المسرح بشكل احترافي هادف، يحمل رسالة تنويرة محددة.
شغل تسيغاي منصب المدير الفني للمسرح الوطني الإثيوبي (1961-1971)، ثم عُيّن نائبًا لوزير الثقافة والرياضة عام 1985. وبعد عام، أُلقي القبض على تسيغاي نتيجةً لرد فعل الحكومة العسكرية على مسرحياته، وسُجن دون توجيه تهم رسمية إليه. وفي عام 1977، أصبح تسيغاي أستاذًا مساعدًا في قسم التعليم بجامعة أديس أبابا، وأسس لاحقًا قسم الفنون المسرحية حيث عمل مديرًا وأستاذًا لمدة عامين.
حادثة عرض مسرحيته الأولى في ذلك الوقت المبكر، ومشاهدة الإمبراطور هيلا سيلاسي- شكلا دافعا ومحفزا لتسيغاي لمواصلة الإبداع في هذا الضرب من الفن المؤثر
لم يحل تقلّد تسيغاي للعديد من المناصب، ذات الصلة المباشرة بالمسرح- من الاستمرارية الناضجة من تأليف المسرحيات، على الرغم من المضايقات التي اعترضت مسيرته، وقادته إلى أقبية السجون. وفي هذا السياق تشير أدبيات إلى أنه كتب عام 1959 مسرحية "إكليل الشوك"، تناول فيها بشكل رئيسي إثيوبيا المعاصرة، لا سيما محنة الشباب في المدن، وضرورة احترام الأخلاق التقليدية. وألّف بالإنجليزية مسرحية "أودا أوك أوراكل" (1965)، وهي مسرحية غارقة في الأساطير الإثيوبية. وتستند إلى التاريخ الإثيوبي، وتتناول الصراعات الدينية. أما مسرحية "اصطدام المذابح"، التي ألفت عام 1977 فمسرحية تجريبية، تجمع بين التمثيل الإيمائي والتعاويذ والرقص واستخدام الأقنعة.
كان للتاريخ الإثيوبي حضور بارز في مسرحيات تسيغاي، ومن ذلك أن مسرحية "تيودروس"، إحدى أشهر مسرحياته- تُخلّد ذكرى حياة الإمبراطور الإثيوبي، الذي يحمل الاسم نفسه، باعتباره رائدًا في الإصلاح والتحديث، والذي انتحر الإمبراطور عام 1868؛ هربًا من الوقوع في أيدي قوة استطلاعية بريطانية معادية. وتروي مسرحية أخرى لتسيغاي "بيتروس عند الساعة"، قصة أبونا بيتروس، الشخصية الدينية، التي رافقت الأربينوش الإثيوبيين في نضالهم لمقاومة الاحتلال الإيطالي الفاشي. وقد أُلقي القبض عليه من قِبل العدو على مشارف أديس أبابا، وأُعدم بعد محاكمة صورية.
كان تسيغاي غزير الإنتاج في مجالات الإبداع التي تطرق إليها، وككاتب مسرحي- ألف أكثر من 30 مسرحية، معظمها باللغة الأمهرية، والتي تظل شاهدة على فلسفته، إذ نسج ببراعة بين التاريخ والثقافة الإثيوبية، ومُثُله العليا الشخصية. استكشفت أعماله الأدبية تعقيدات التفاعلات البشرية والقيم المعرفية والصراعات السياسية المنسوجة في نسيج المجتمع الإثيوبي.
حاول تسيغاي من خلال أعماله الفنية الإبداعية تبني ما يمكن تسميته بمشروع إثيوبيا التي يريد، وذلك أنه كرّس تلك الأعمال للتبشير بهذا المشروع. فمن خلال الشعر دعا لتعزيز فكرة الوحدة الوطنية، وبسط أفكارا منتهاها التعريف بالتاريخ الإثيوبي. ومن خلال ترجمته لبعض الأعمال المسرحية العالمية إلى الأمهرية- جنح إلى إبراز مشكلات وقضايا بلاده الملحة. ومن خلال تأليفه لعدد معتبر من المسرحيات- سلط الضوء على إثيوبيا المعاصرة، بما فيها من محن الشباب في المدن، وتنكر للأخلاق التقليدية، وصراعات دينية. كما دعا لاحترام التاريخ الإثيوبي وثقافته، فركز على إظهار الأساطير القديمة، وتناول نماذج من الشخصيات التاريخية الإثيوبية، باعتبارهم قادة للإصلاح والتحديث ومقاومة للاحتلال. اجتهد في كل ذلك بحثا عن إثيوبيا المفقودة.