الجمعة 14 فبراير 2025
تشهد إثيوبيا، إحدى أكبر الدول الأفريقية من حيث السكان، حالة من عدم الاستقرار السياسي والأمني، حيث تتصاعد حدة النزاعات المسلحة بين الحكومة الفيدرالية والجماعات المسلحة في مختلف أنحاء البلاد. في هذا السياق، يمثل الصراع المتفجر في إقليم أمهرة أحد أبرز مظاهر الأزمة، مع تزايد حدة الاشتباكات بين القوات الحكومية وميليشيا فانو - وهي مجموعات "دفاع ذاتي" شعبية تنتمي لعرقية الأمهرة، ثاني أكبر العرقيات الإثيوبية من حيث العدد - التي تسعى إلى فرض نفوذها على أجزاء واسعة من إقليم أمهرة.
في الأيام الأخيرة، اندلعت اشتباكات عنيفة في مدن رئيسية داخل الإقليم، مثل ديبارك ودابات وغوندر. هذه المواجهات أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن تسعة أشخاص وإصابة أكثر من ثلاثين، بينهم أطفال ونساء. في بلدة ديبارك الواقعة شمال العاصمة أديس أبابا، أكدت تقارير طبية أن مستشفى المدينة استقبل عشرات الجرحى، بينهم إصابات خطيرة.
بلدة دابات المجاورة لم تكن أفضل حالاً، حيث أدى القصف المدفعي المتبادل إلى تدمير عدد من المنازل، وتعطيل الأنشطة اليومية بشكل كامل. وفي مدينة غوندار، التي تعد من أبرز المدن في الإقليم، تسعى ميليشيا فانو للسيطرة على مواقع استراتيجية. أسفرت الاشتباكات هناك عن سقوط المزيد من الضحايا المدنيين، وسط تبادل الاتهامات بين الطرفين حول المسؤولية عن تصاعد العنف.
وجهت العديد من منظمات حقوق الإنسان اتهامات للجيش الإثيوبي بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك تنفيذ عمليات قتل خارج إطار القانون، واعتقالات جماعية، فضلاً عن الهجمات العشوائية على المنشآت المدنية مثل: المدارس والمستشفيات. بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك تقارير عن هجمات بالطائرات المسيرة، أسفرت عن مقتل مئات المدنيين. على الرغم من أن الحكومة الإثيوبية دأبت على نفي هذه الاتهامات، إلا أن التقارير الدولية تؤكد استمرار العنف، وتفاقم الأوضاع الإنسانية.
في سياق مماثل، أكدت التقارير أن أكثر من 5000 امرأة تعرضن للعنف الجنسي في الإقليم، وهو ما يعد جزءًا ضئيلًا فقط من العدد الفعلي، وفقًا لتقارير من "منتدى مؤسسات التعليم العالي"، وهو ائتلاف من منظمات المجتمع المدني.
رغم أن التقارير المحلية تؤكد عدم تعرض اللاجئين الإريتريين في مخيم أليمواتش في دابات لأي أذى مباشر، إلا أن المخاوف تزداد من احتمال تفاقم الوضع الإنساني في الإقليم، خاصة في ظل القصف المدفعي، والانهيار التدريجي للبنية التحتية والخدمات الأساسية.
التوترات في أمهرة تعود أساسًا إلى خطة الحكومة الفيدرالية لنزع سلاح القوات شبه العسكرية الإقليمية، ودمجها ضمن الجيش الوطني. هذه الخطوة، التي بررتها الحكومة بضرورة تعزيز السيطرة المركزية، قوبلت برفض شديد من ميليشيا فانو، فالحركة تعتبر أن هذه السياسة تهدد الهوية والخصوصية الإقليمية لأمهرة، ما دفعها إلى إعلان التمرد المسلح.
تحاول الحكومة الفيدرالية في الوقت نفسه، فتح قنوات حوار مع الأطراف المختلفة، إلا أن ميليشيا فانو نفت مشاركتها في أي محادثات، معتبرة أن الحلول المطروحة لا تعالج مخاوفها الأمنية والسياسية. هذا المأزق يسلط الضوء على الفجوة المتزايدة بين الحكومة الفيدرالية والقوى المحلية.
مع استمرار الاشتباكات، تتفاقم الأوضاع الإنسانية في الإقليم، فالسكان المحليون في ديبارك ودابات وغوندار يعانون من نقص حاد في المواد الغذائية والخدمات الأساسية، مع تزايد أعداد النازحين نتيجة القصف وتدمير المنازل. في ظل هذه الظروف، تبدو الحاجة إلى تدخل إنساني عاجل أمرًا لا مفر منه، لتجنب أزمة إنسانية أوسع نطاقًا.
على المستوى العسكري، تعاني القوات الحكومية من تراجع واضح في قدرتها على احتواء الصراعات. ميليشيا فانو تمكنت من تحقيق انتصارات ميدانية، شملت السيطرة على مدن استراتيجية مثل ولديا، عاصمة منطقة شمال ولو. كما أعلنت الميليشيا عن أسر ضباط عسكريين رفيعي المستوى وهو ما يعكس ضعف التنسيق داخل الجيش الإثيوبي.
تتزايد كذلك الانشقاقات في صفوف الجيش، ما يضعف قدرته على مواجهة التحديات الأمنية المتزايدة. هذا الوضع يثير تساؤلات حول مستقبل المؤسسة العسكرية في إثيوبيا، خاصة مع استمرار النزاعات في مناطق أخرى مثل إقليم تيغراي وأوروميا. في سياق متصل، أعلنت جبهة تحرير أورومو عن قطع الطريق الرئيسي الذي يربط إثيوبيا بكينيا، وهو ما أثر بشدة على حركة التجارة بين البلدين. هذا الإجراء يعكس استراتيجية الجبهة في استغلال هشاشة الوضع الداخلي للضغط على الحكومة.
وسط هذا التصعيد، يبدو أن رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد قد أدرك ضرورة تهدئة الأوضاع في إقليم تيغراي، ما دفعه إلى إعادة فتح قنوات الحوار مع جبهة تحرير تيغراي. ورغم أن هذه الجهود تهدف إلى استعادة الاستقرار في شمال البلاد، إلا أنها تواجه تحديات كبيرة بسبب انعدام الثقة المتبادلة بين الطرفين.
الأزمة الإثيوبية لا تنفصل عن التغيرات الإقليمية والدولية. تحالفات جديدة بين إريتريا ومصر والصومال تسعى إلى مواجهة السياسات الإثيوبية، خصوصًا في ملف سد النهضة وأطماعها في المنطقة. هذه التحالفات تُضعف موقف الحكومة الإثيوبية على الصعيدين الإقليمي والدولي، وتزيد من عزلتها.
تواجه إثيوبيا مستقبلًا غامضًا، يتسم بالتحديات الكبيرة والسيناريوهات المختلفة التي قد تحدد ملامح المرحلة القادمة.
1. التفكك والانهيار
يمكن أن يؤدي استمرار الصراع العسكري والتوترات العرقية والسياسية إلى تفكك إثيوبيا إلى كيانات أصغر، ما يهدد استقرار القرن الإفريقي برمته. هذا السيناريو ينذر بعواقب وخيمة، بما في ذلك زيادة الصراعات العنيفة والتدخلات الإقليمية والدولية، مما يُفاقم حالة عدم الاستقرار في المنطقة.
2. الحوار والمصالحة
في المقابل، هناك احتمال بأن ينجح الحوار السياسي بين الأطراف المتنازعة في تقليل حدة التوتر، وتمهيد الطريق لإصلاحات شاملة. ورغم أن هذا السيناريو يبعث على التفاؤل، إلا أنه يواجه عقبات كبيرة بسبب التشابكات العرقية والسياسية، وتعنت بعض الأطراف، ما يجعل تحقيقه في المدى القريب أمرًا غير مضمون.
3. استراتيجية "الانتظار والضربة القوية"
قد يلجأ رئيس الوزراء إلى تكرار استراتيجيته السابقة التي اعتمدها مع جبهة تحرير تيغراي، عندما انتظر حتى تصاعد الصراع، ثم وجه ضربات عسكرية حاسمة، نجحت في ردعها حتى بعد اقترابها من العاصمة أديس أبابا. تطبيق هذه الاستراتيجية مع مليشيات فانو قد يساعد الحكومة على استعادة السيطرة، لكنه يحمل مخاطر تفاقم الصراع وزيادة النقمة الشعبية، ما قد يفتح المجال لمرحلة جديدة من عدم الاستقرار.
4. نجاح مليشيات فانو بإسقاط النظام
هناك احتمال أن تتمكن مليشيات فانو من تحقيق تقدم كبير بالتنسيق مع ما يُعرف بالدولة العميقة، مما قد يؤدي إلى إسقاط النظام الحالي. ورغم أن هذا السيناريو يعكس قوة المعارضة المسلحة، إلا أنه يحمل مخاطر تقسيم الدولة وتصاعد الفوضى، ما يضع البلاد أمام تحديات ضخمة تتعلق بإعادة بناء النظام السياسي واستعادة الأمن.
ختاما، إثيوبيا تقف أمام مفترق طرق حاسم، حيث يتوقف مستقبلها على قدرة الأطراف المختلفة على تجاوز خلافاتها والتوصل إلى حلول تضمن الوحدة الوطنية والاستقرار. ومع ذلك، فإن الوضع الحالي يشير إلى صعوبة تحقيق ذلك في ظل تعقيدات الأزمة الراهنة.