تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الجمعة 14 فبراير 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
سينما

"طريق ترابي".. باسم الأب والابن وروح السينما

5 فبراير, 2025
الصورة
geeska cover
Share

ينتمي المخرج والكاتب الإيراني بناه بناهي إلى عائلة ذات تاريخ سينمائي حافل، كونه ابن المخرج الكبير جعفر بناهي، والذي عانى من تضييق سياسي صارم، شمل أحكامًا بالسجن لستة أعوام بتهمة التحريض على السلطة، إضافة إلى منعه المتكرر من السفر والعمل السينمائي. ورغم الإرث الثقيل لاسم والده، استطاع بناه الابن شق طريقه الخاص في عالم السينما، متسلحًا برؤية فنية جريئة تعبّر عن جيل جديد يرفض أن يُختزل في إرث الماضي. وذلك باختياره السير على نهج السينما الواقعية، مع إضفاء نكهة حديثة عليها، حتى تعكس نبض العصر بأسلوب ساخر ومبتكر.

ينسج بناهي الابن في فيلمه الطويل والوحيد "طريق ترابي" (2021) حكايةً إنسانيةً، تتناغم فيها الكوميديا المريرة مع صراعات الواقع الاجتماعي، عبر رحلة عائلة مُثخنة بالهموم، تحاول إنقاذ ابنها الأكبر بتهريبه إلى تركيا عبر مسارات خطرة. 

حقق الفيلم نجاحًا باهرا، بعد فوزه بتسعة جوائز مرموقة من أصل اثني عشر ترشيح لها، من بينها جائزة أفضل فيلم في مهرجان لندن السينمائي التابع لمعهد الفيلم البريطاني، وأفضل فيلم في مهرجان سنغافورة السينمائي الدولي.

تلعب الممثلة "بانتيا باناهيها" دور الأم الحنونة والذكية التي تحيط أطفالها بعناية فائقة، وحضور واعٍ، بينما يجسد "حسن محجوبي" شخصية الأب خسرو ببراعة؛ وهو أب يعاني من إصابة في ساقه، وألم في أسنانه، لكنه يخفي معاناته وراء سخرية لاذعة، وحس فكاهي يخفف من حدة المواقف. أما "أمين سمير" فيعبر عن شخصية الشاب الهادئ والمنطوي الذي يتحرك في فضاء الأسرة كظل صامت، متجنباً الدخول في نقاشاتهم، مفضلاً عزل نفسه بعيداً عن ضجيجهم غير المجدي، بينما يبرز "ريان سارلاك" كشخصية طفولية نشطة، تنفجر وتهدأ بعفوية تذكرنا بشرارة لا يمكن إخمادها، مضيفاً لمسة من الفوضى المبهرة إلى ديناميكية الأسرة.

في محيط محدود داخل السيارة

بعد أن تخلّت الأسرة عن بيتها وعربتها لتمويل هروب نجلها من براثن السلطة، لم يَعُد بين أيديهم إلا مركبة مُستأجرة، تَحمل بين جوانحها آمالًا عسيرة وأنفاسًا محدودة. وفي عمق هذا المشهد الكالح، تبدأ الرحلة برقص أصابع الصغير على لوحة المفاتيح المرسومة على جص قدمي الوالد خسرو، مع موسيقى شوبرت، يلحن به بناهي افتتاحية هذا الطريق الموحش.

تَلتقط الأم فجأة وَمضاتٍ صوتيةً إيقاعية في راديو المركبة، كدقّات سريعة أو طرقات متلاحقة، لتفاجأ بجهاز هاتف مُتخفي في سروال ابنها. تَنتشله بيد مرتجفة وتَطرحه خلفها، ليغوص المشهد فجأة في غِمار الخطر الذي يُحيط بهم، فقد تُكشف أسرارهم مع أي خطوة خاطئة. 

تتألق الأم، المرأة الوحيدة بين أفراد العائلة، بوجهٍ تشع منه نضارةُ روحٍ عشرينية، رغم الزوبعة الحزينة التي تُخيّم على المكان. تَأبى الانحناء للألم، فتَتخذ من الرقص جسرًا لعبور المحنة، مُهديةً اللحظةَ ومضاتٍ من البهجة والأنوثة التي تَخفق في صميمها. ينساب جسدها داخل المركبة على أنغام أغنية شعبية للفنانة الإيرانية دلكش، بعنوان "رقص نكاه" وهي تُناجي ابنها عبر كلمات الأغنية: 

 «لقد أخبرتك، نعم أخبرتك أن الغضب خطيئة، عيناي على الطريق الذي سلكته، أتوسل إليك، توقف عن العبوس بعينيك السوداويتين، فالحياة قصيرة كحلم، وكل مر سيمر، كن متصالحًا، فالربيع سيزهر من جديد، وسيُغرقنا بأزهاره».

تتشابك خيوط الأحداث في الفيلم، حين تَرْتَطِم سيارتهم بدرّاجٍ في مشهدٍ يلوح للعيان كأنه حادثٌ طارئ، لكن سرعان ما يتكشف الخداع حين ندرك أن المتسابق لم يكن ضحية القدر، بل خطّط للاصطدام عن سابق إصرارٍ ليُحَقِّق مكسباً غير مشروع في السباق. 

ربما قصد بناهي من وراء هذا المشهد استحضار إرث والده السينمائي، الذي عصى القيودَ الحكومية في إيران عبر فيلمه "تاكسي" (2015)، حيث احتالَ على الواقع بتماهيه مع دور سائق التاكسي، مُتنقِّلاً بين زوايا الشوارع ليُوثِّق بانسيابيةٍ قضايا مجتمعيةً شائكة. هذا التمازج بين العملين يُضفي على المشهد السابق بُعداً تأويلياً، خصوصاً أن المتسابق الذي اختار الاصطدام، ليس إلا تجسيداً لجيل جديد من المخرجين الإيرانيين الذين يواصلون السير على درب الإبداع رغم القيود.

لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب

يتميز بناهي في كشفه عن العلاقة المتجذرة بين الأب وابنه، تلك الرابطة الملغزة التي تشتبك فيها المودة بالتشكك، والعطاء بالرصد الخفي في حوار سينمائي، تتعانق فيه المأساوية والدعابة بانسيابية آسرة، يجسد المخرج جوهرًا إنسانيًا خالصًا: هاجس الأب المتوارث من إمكانات ابنه، ووجله الخفي من عجزه عن مجابهة تعقيدات الوجود.

تطلق الأم، التي تحمل بوصلة التفاؤل والإصرار، كلمتها الأولى بنبرة واثقة: "سيهب بكل عزم، سينجح في جمع الثروة، سيشيد مسكنًا، سيعود وسنلتقي من جديد".

لكن الأب يرفض الانصياع لهذا اليقين، فيقتحم حديثها بسخرية لاذعة تكشف عن اضطراب داخلي: "هو؟!".

فترد الأم بحدة تكاد تطحن غضبها المكتوم: "كف عن هذا! لن أسمح بمزيد من السخرية!".

فيعيد الأب تأكيد تشكيكه بطريقة تهز جذوة الأمل نفسها: "حسنًا… أتتحدثين حقًا عن ذاك الولد؟".

في وسط هذا التصادم والتوتر، تبرز السمات العميقة للعلاقات الأبوية عبر التاريخ، حيث يظل الأب مقيدًا بصورة ذهنية، تسري في دماء كل جيل. هنا ينسج بناهي رسالة تتجاوز النص إلى والده جعفر، الذي كان كغيره من الآباء يرمق ابنه بنظرة متفحصة، تتأرجح بين الحنو والخشية، وبين توقه لنجاحه وشكه في جدارته. فالأب هنا ليس مجرد شخصية درامية، بل تجسيد للصراع الإنساني المزمن، تلك الهواجس التي تجعل الآباء يرون في أبنائهم مرايا تعيد تشكيل مخاوفهم القديمة.

لا يقدم بناهي حلولًا معلّبة في هذا المشهد، بل يترك الحوار يطفو في فضاء التأمل، وكأنه يهمس: الأبناء ليسوا ظلالًا لآبائهم، بل أرواحًا مستقلة تخوض حربها ضد سطوة التوقعات لتؤسس كيانها المتفرد.

قبل مشهد الوداع، تظهر وصية الأب المحملة بالتناقضات، حيث يخفي تشديده على انعدام ثقته رجاءً خفيًا يتسلل من بين كلماته: "إذا قتلت صرصورًا، فلا ترم رفاته في المرحاض، فوالداه أطلقاه إلى الكون بحمل من الآمال".

هذه العبارة الاستعارية تحمل إرشادًا أبويًا إنسانيًا، فالأب يستدعي صورة أبوَي الصرصور اللذين أرسلا ابنهما إلى العالم مثقلًا بالرغبات، ليعبر بذلك عن مكنونات قلبه تجاه ابنه. بتلك الكلمات البسيطة الثريّة، يحاول الأب أن يوصي ابنه بألا يقتل الأمل الذي رباه في داخله، حتى لو اختبأ خلف قناع التشكك والجفاء.

لقطات من الفيلم 

]من الفيلم لحظة نقاش الأم والأب [

عن التفاحة والسيجارة والتبول

تستخرج الأم ألبوم صور ابنها البكر من أعماق الذاكرة، حيث تظهر صور لطفولته المبكرة، حين كان يحول بوله إلى فرشاة ترسم خريطة العالم على سرير العائلة. تلك البقع الطفولية تتحول إلى تحد ساخر لحدود الجغرافيا السياسية، بينما أغنيةُ الطفل: "نتبوّلُ على آسيا.. وعلى أوروبا!" تختزلُ روح جيلٍ يرفض أن تُقيّدَهُ خرائط السلطةِ.

تسلط الكاميرا الضوء على الابن الأكبر، مستكشفة عُمق أفكاره المتباعدة. عيناه تلمعان بوميض يشبه ماءً مكبوتًا يأبى الإفلات من أسر الجفون. هذا المشهد الصامت استحضر في ذهني بيتًا من قصيدة للشاعر العراقي مظفر النواب "في الحانة القديمة"، يقول فيه: «سأبول عليه وأسكر، ثم أبول عليه وأسكر»، كنداء مشترك ضد أنظمة تجرّد الإنسان من إنسانيته، وتحوله إلى مجرد رقم في قوائم الأمن.

مكث قصير في إحدى القرى النائية، تتكشف أشكال الود العائلي بين الابن وأبويه في تجليات رمزية مفعمة بالشفافية؛ تمرر الأم لابنها شرارة النيكوتين بين أصابعها، ويقسم الأب تفاحة الحياة مع ابنه. هذا الانزياح بين المادي والمجازي، بين رمز الخصوبة وسحابة العدم، يخلق كونًا عاطفيًا تتداخل فيه اللحظات البسيطة مع الأسرار الوجودية، حيث يتحول الروتين إلى مرآة تعكس حبًا صامتًا يتوارى خلف التفاصيل. هكذا تصير الحياة اليومية لهذه العائلة ضربًا من "الكتابة بالوجود"، تحول العادي إلى قصيدة بصرية ترفض انكسارات الواقع بلغة هاربة من قيود المنطق.

لقطات من الفيلم

[من الفيلم لحظة تمرير الأم السيجارة لابنها]

عن الهروب إلى الحرية (العدسة والابن)

يبرز بناهي بخيوط إبداعه، مُستلهماً إيحاءات الشعر، وسحر النثر وجراح الحياة، في مشهد الوداع، حيث تتجاهل عدسة المخرج الحركية بوعي، ساعيةً لتوثيق لحظة الوداع بهدوءٍ مُتأمل. 

يعتمد بناهي على مشهدٍ رحبٍ يبتعد عن تقريب الشخصيات، بينما ينفذ صوت الحوار بين الابن وأبويه، وحوارهما مع الرجل القادم لمرافقة فريد، هذا المشهد الفسيح، المُزين بلمسات بصرية مبهجة، يصوغه المخرج لوحةٌ خيالية، وكأنه يدفع المشاهد إلى تفعيل مخيلته لاستكمال التفاصيل الغائبة، في محاكاةٍ ذكية لقدرة السينما على التحاور مع أحلام الجمهور. 

يستمر المخرج في نسج الإثارة الفنية والمرئية، في المشهد الذي يهمس فيها الطفل لوالده مُستفسرًا: "عن إمكانية استعارة سيارة باتمان؟" ومع تدفُّق الحوار، يتحرر المشهد من أغلال الواقع، ليندلق عبر لمسة سينمائية إلى عالَم افتراضي تنقش فيه النجوم على صفحة الأرض، ويتحوَّل المشهد بانسيابية نسمة خفيفة، بينما يذوب الولد الذي كان مُطمئنًا على صدر أبيه، ليصير لطخة ضوئية بعيدة، تذوي رويدًا رويدًا حتى تُغادر نطاق الرؤية، وفي زاوية المشهد، يظهر وجه الأم، يحمل مزيجًا من القلق والأسى، تنظر إلى السماء وكأنها تقرأ في الأفق نبوءة جديدة للفقد.

لقطات من الفيلم

[من الفيلم؛ الابن الأصغر وهو مستلقي على صدر والده]

 في صبيحة اليوم التالي لغياب فريد يُبدع بناهي في سبر أغوار الحزن بأدق، يلتقط بأناة نبضات الألم المكبوتة في صدر الأم، من ارتعاشة الصوت الخافتة إلى صمت، يرسم مشهدًا تتهاوى فيه الحدود بين الإنسان وجنونه، وحين ينفجر الكتمان في لحظة من الغليان، تتحول المرأة إلى طوفان متلاطم: ترقص وتغني كمن يطلب الخلاص من أغلاله، تضحك ضحكًا أقرب إلى البكاء، تصفع وجهها، تبكي بحرقة تحفر أخاديد في روحها. ومع كل هذا، لا تهدأ عاصفة روحها.

وحين يبدو أن العاصفة السردية بلغت ذروتها، يعود جيسي من النسيان، كرمز للخلاص أو كمرآة للنهاية الحتمية. موته ليس مجرد نقطة في السرد، بل هو لحظة تحرر للكاميرا، التي كانت طوال الوقت مقيدة بقيود اللحظة، في خلفية، ينبعث صوت إبي بأغنيته "شبزده"، كشعلة تضيء عتمة الختام. 

الأغنية لا تكتفي بمواكبة المشهد، بل تضفي عليه بُعدًا تاريخيًا وإنسانيًا، اختيار پناهي لهذه الأغنية ليقول: "إن المأساة هذه لا تخص أبطال الحكاية وحدهم، بل هي جزء من ذاكرة جماعية مترعة بالألم". ومع ذلك، فإن عبقرية بناهي تكمن في المزج بين هذه المأساة وأداء الطفل الذي يغني بعد أن اخترق الجدار الرابع.

لكن، كما أن اللحن سواء أبدأ هادئًا متأنيًا أم صاخبًا مندفعًا، يحمل في كل نغمة وعدًا خفيًا بنهاية تترقبها الأسماع؛ هكذا نسج المخرج في خاتمة عمله سيمفونية من الألم والحنين، فجاءت كل لقطة رسالة عاطرة بعبير الاعتذار الصامت، يلقي بها إلى والده حين تقاصرت الكلمات عن تضميد الجراح أو رد الاعتبار.

كان الفيلم مرآةً تعكس جراح وطن، شهادةً حيةً على قهرٍ يعصف بالأفراد والأرواح معًا، حكاية عن ألم شخصي، لكنها ككل فنٍ عظيم، ارتقت لتصبح وجعًا إنسانيًا يعبر كل الحدود.

المزيد من الكاتب