السبت 15 مارس 2025
اعتادت أفريقيا على الأدوار المختلفة التي تلعبها دول من قبيل الصين والهند وتركيا في رسم المشهد الاقتصادي والسياسي في المنطقة. لكن في السنوات الأخيرة، برزت المملكة العربية السعودية كقوة مؤثرة تسعى للعب دور استراتيجي قوي؛ لتوسيع نفوذها في هذه البقعة الغنية بالموارد والطاقة، ودفعها إلى ذلك التقارب الجغرافي والتاريخي والاتصال البشري بدول المنطقة، وشّكل التعاون الاقتصادي والاستثمارات الضخمة والمساعدات الإنسانية أسس العلاقات بين السعودية وشرق أفريقيا. كما تركت المملكة بصمة واضحة في حل نزاعات متجذرة، متجاوزة بذلك الحديث بصدد دورها الاقتصادي فقط.
يتنامى الطموح السعودي لأبعد من حدود أراضيه، وتغذيه القوة الاقتصادية للبلاد، والموارد المالية الضخمة نتيجة صادرات النفط. عام 2016، أطلقت الرياض رؤية 2030، وهي رؤية استراتيجية تهدف لتنويع اقتصاداتها بعيدًا عن النفط، لتصبح قوة إقليمية يُعتد بها في المنطقة. وضعت المملكة أفريقيا على رأس أولويتها، لما تمثله القارة من قوة اقتصادية وديمغرافية ضخمة، وميدانًا خصبًا لتعزيز التجارة والاستثمار، نظرًا لأسواقها الاستهلاكية الكبيرة، فضلاً عن ثقلها التصويتي في المحافل الدولية، خاصة لمحاولة المملكة الخروج من عباءة الغرب.
تحركت السعودية في كافة الأقاليم الأفريقية، لكن إقليم شرق أفريقيا، بما فيه القرن الأفريقي والبحر الأحمر، ظل دائمًا في مركز الصدارة، نظرًا لقربه الجغرافي من المملكة، وغناه بالثروات الزراعية والمعدنية، فضلًا عن إشرافه على مضيق باب المندب، الذي يحمل 12٪ من التجارة العالمية، وسوق الاستهلاك الضخمة، في مجالات مثل: الطرق والموانئ والمعادن والزراعة والصناعة.
" من شأن أي زعزعة للاستقرار في القرن الإفريقي أن يؤثر مباشرة على هيكل القوة داخل دائرة النفوذ السعودي"
تتنوع قائمة المصالح السعودية في شرق أفريقيا، وتشمل تعزيز قوتها الناعمة الدينية في المنطقة، لكونها مهد الديانة الإسلامية في العالم، ومواجهة انتشار التشيع في دول عديدة، خصوصًا تنزانيا وكينيا والسودان. كما تحرص الرياض على موازنة وتحجيم نفوذ القوى الإقليمية والدولية المنافسة، حال إيران وتركيا وقطر والإمارات، الذي انتشر سريعًا في السنوات الأخيرة.
من شأن أي زعزعة للاستقرار في القرن الأفريقي أن يؤثر مباشرة على هيكل القوة داخل دائرة النفوذ السعودي، لذلك تعمل الرياض على تأمين الملاحة بخليج عدن والبحر الأحمر، لمواجهة التهديدات المختلفة، الناتجة عن التواجد الإيراني عن طريق تدعيم جماعة الحوثي في اليمن.
تحاول المملكة أن تصبح قوة إقليمية قادرة على لعب دور استراتيجي مؤثر في منطقة شرق أفريقيا والبحر الأحمر، مستغلة قدراتها المالية الضخمة في إدارة علاقاتها مع تلك الدول، ولاسيما حاجة هذه الأخيرة للدعم المالي والاقتصادي في ظل معاناة أكثرها من العقوبات الاقتصادية القاسية المفروضة عليها.
سعت في إطار جهود التعاون الاقتصادي للمملكة مع دول شرق أفريقيا، لكسب حضور استراتيجي قوي في كينيا، التي تحظى بمكانة هامة بالنسبة للمملكة، نظرًا لموقعها الجغرافي المتميز، وإطلالها على موانئ بحرية ولوجستية، وتمتعها باقتصاد قوي ومستقر. لذلك تقوم الرياض بتوثيق علاقتها الاقتصادية معها، من خلال الاستثمارات المختلفة في البنية التحتية والزراعة والثروة الحيوانية.
"وأصبحت جيبوتي، الواقعة على مضيق باب المندب، مركزًا لوجستيًا لحركة التجارة الزراعية بين المملكة وشرق أفريقيا"
في سبيل تطوير التعاون الاقتصادي، وقّع اتحاد الغرف التجارية السعودية، وغرفة التجارة والصناعة الوطنية الكينية، 11 فبراير/ شباط الجاري، اتفاقية لتأسيس مجلس أعمال سعودي - كيني مشترك. تستهدف هذه الخطوة؛ توسيع التعاون الاقتصادي، وتعزيز الشراكات التجارية والاستثمارية، وتبادل معلومات السوق بين البلدين. كما يوفر لرجال الأعمال السعوديين والكينين منصة للترويج لأنشطتهم، واستكشاف الفرص المتبادلة.
في تنزانيا أيضا تمتلك السعودية علاقات اقتصادية وثيقة، فهي تمثل بوابة هامة لشرق أفريقيا، تستطيع من خلالها الرياض مد التعاون مع منظمة دول شرق أفريقيا، في أكتوبر/ تشرين الأول 2024، بلغت صادرات المملكة إلى تنزانيا ما يعادل 541.4 مليون ريال سعودي.
تزامنًا مع جهود المملكة لتوسيع استثماراتها الخارجية، وتنويع اقتصادها، وإيجاد منافذ استثمارية وتسويقية جديدة، وتعزيز مكانتها كمركز لوجستي عالمي يتماشى مع إمكانيات وتطلعات البلاد، استطاعت من خلال الشركة "السعودية الأفريقية للاستثمار والتنمية" مؤخرًا الاستحواذ على ميناء باجامويو التنزاني، ضمن مشروعها التوسعي "بوابة الشرق"، الذي يهدف إلى تعزيز النفوذ الاقتصادي السعودي في منطقة شرق أفريقيا، وتساهم تلك الخطوة في تنويع تصدير المنتجات السعودية إلى الأسواق الأفريقية.
علاوة على ذلك؛ وقّع اتحاد الغرف التجارية السعودية، وغرفة التجارة والصناعة والزراعة في تنزانيا اتفاقية رسمية؛ في 12 فبراير/ شباط الجاري، لإنشاء مجلس أعمال سعودي تنزاني مشترك، ما يمثل تقدمًا محوريًا في تعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين.
لا تختلف العلاقات كثيرًا مع الجارة الإثيوبية، حيث تعمل السعودية على توثيق أسس العلاقات بينهما، نظرًا لأهميتها البالغة في منطقة القرن الأفريقي، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي. تُعد أديس أبابا من أكبر القوى الاقتصادية والأسواق في أفريقيا، فضلا عن أن انضمامها مؤخرًا لتكتل البريكس يشكل فرصة قوية لتطوير العلاقات بينهما.
أعلنت السعودية من خلال اتحاد الغرف التجارية، أغسطس 2024، عن إنشاء مجلس الأعمال السعودي - الإثيوبي المشترك، لتعزيز حضور منتجات المملكة في الأسواق الإثيوبية. كما تم الاتفاق على مشاريع مشتركة، والعمل على اتفاقية لحماية وتشجيع الاستثمار بين السعودية وإثيوبيا، وعلى الرغم من الإمكانات الاقتصادية الكبيرة، إلا أن التجارة بين المملكة العربية السعودية وإثيوبيا حتى عام 2024، لا تزال أقل من 346 مليون دولار أمريكي.
بالتوجه نحو جيبوتي، وإدراكًا منها لأهمية موقعها الاستراتيجي، سعت الرياض لإيجاد محاور تعاون مشتركة معها، وأصبحت جيبوتي، الواقعة على مضيق باب المندب، مركزًا لوجستيًا لحركة التجارة الزراعية بين المملكة وشرق أفريقيا، وقّعت المملكة وجيبوتي اتفاقية بشأن طريق شحن مباشر، تم الإعلان عنها في ديسمبر/ أيلول 2021 لإنشاء روابط جديدة بين المملكة وسوق شرق إفريقيا.
في يونيو/ حزيران 2024، تم الاتفاق على إنشاء مدينة لوجستية سعودية في المنطقة الحرة التابعة لميناء جيبوتي، وتوفر المدينة اللوجستية وصولاً للمنتجات والصادرات السعودية إلى كل دول القارة الأفريقية عبر موقع ميناء جيبوتي، الذي يُستخدم بوابة لأفريقيا ونقطة هامة للتبادلات الاقتصادية والتجارية على الصعيد الأفريقي والعالمي. في 19 فبراير/ شباط الجاري، تم الإعلان عن توقيع اتفاقيات تعاون جديدة في مجال الطاقة والتعدين بين جيبوتي والرياض.
تفتقر السعودية للأدوات العسكرية في تواجدها في تلك المنطقة المشتعلة بالصراعات المتجذرة، وقد حاولت الرياض بأن تجد موضع قدم استراتيجي عن طريق عمليات الوساطة في النزاعات القائمة، وساعدتها القدرة على تقديم المساعدات المالية الكبيرة لجذب احتياجات دول القرن الأفريقي. فعلى سبيل المثال، تمكنت الرياض من حل الصراع طويل الأمد بين إثيوبيا وإريتريا، والذي دام عقودًا من الزمان، بتوقيع اتفاقية سلام في سبتمبر/ أيلول 2018، تُعرف باسم "ميثاق جدة للسلام"، وقدمت الرياض عقب الاتفاقية قرضًا بقيمة 140 مليون دولار لإثيوبيا لتطوير الطرق والبنية التحتية للطاقة ومشاريع الصحة في البلاد.
يبدو الدور المهم الذي تلعبه المملكة العربية السعودية في التوسط في النزاعات، وتيسير محادثات السلام واضحا في سياق الحرب الدائرة في السودان، في مايو/ آيار 2023، وبعد مرور ما يقرب من شهر على اندلاع الصراع المسلح في البلد، بين قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية، وقعت الطرفان إعلان الالتزام بحماية المدنيين في جدة. وكان الهدف من الإعلان تسهيل المساعدات الإنسانية وخفض التصعيد، ومع ذلك، تجمَد الإعلان مع التصعيد على الأرض.
استضافت السعودية إلى جانب سويسرا مؤخرًا، محادثات بقيادة الولايات المتحدة في جنيف في 14 أغسطس/آب 2024، بهدف تخفيف المعاناة الإنسانية الناجمة عن الحرب، وتحقيق وقف إطلاق نار دائم. وعلى الرغم من أن المحادثات لم تنه القتال، إلا أنها سوقت المملكة جهة مهمة في الوساطة وتيسير المفاوضات. كما اتبعت سياسة تسليم المساعدات للسودان، قبل أن تشارك في “الآلية الرباعية”، والتي تضم الولايات المتحدة والسعودية وبريطانيا والإمارات.
"حاولت السعودية بأن تجد موضع قدم استراتيجي عن طريق عمليات الوساطة في النزاعات القائمة، وساعدتها القدرة على تقديم المساعدات المالية الكبيرة لجذب احتياجات دول القرن الأفريقي"
في إطار ما تم طرحه حول الدور المتزايد للمملكة العربية السعودية في منطقة شرق أفريقيا والقرن الأفريقي، يتضح أن المساعدات المالية والعمليات الاستثمارية وتعزيز التعاون الاقتصادي جزء من استراتيجية الرياض الرامية إلى الاستفادة من الإمكانيات الضخمة والأسواق الغنية في هذه المنطقة. لكن هذه الجهود تتقاطع مع المصالح السياسية للمملكة، حيث تتطلب دعمًا من الدول المعنية في المنطقة لتدعيم سياستها الإقليمية، خصوصا في مواجهة التحديات التي تطرحها دول مثل: تركيا وإيران وقطر والإمارات، التي أصبحت لاعبًا رئيسيًا في الساحة.
تجلى ذلك بشكل واضح بعد الحرب في اليمن، والحادثة الشهيرة المتعلقة بالهجوم على السفارة السعودية في طهران، حيث تبنت دول القرن الأفريقي مواقف موازية للرياض، وقامت بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع إيران، كما حدث مع جيبوتي والسودان. وقد تحصلت هذه الدول على مساعدات مالية نتيجة لمواقفها الداعمة للمملكة، حيث قدمت الرياض 50 مليون دولار للصومال في يناير/ كانون الأول 2016 بعد قطع علاقاتها مع إيران، كما حصل السودان على وديعة بمليار دولار في البنك المركزي، واتفاق لتوريد النفط لمدة خمس سنوات.
لم يقتصر دعم دول القرن الأفريقي للسعودية في أزمتها مع إيران فقط، بل تكرر أيضًا بشكل جلل أثناء الأزمة الخليجية 2017، عندما قطعت السعودية، بجانب مصر والإمارات والبحرين، العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع قطر؛ لدعمها للحركات الإسلامية في المنطقة. حاولت السعودية باستمالة دول القرن الأفريقي لصالحها، وبالفعل انضمت إريتريا إلى الصف السعودي وقطعت علاقاتها الدبلوماسية مع قطر، كما خفضت جيبوتي مستوى التمثيل الدبلوماسي معها، لكن إثيوبيا امتنعت عن الانحياز لكلا الجانبين. وعقب اتفاق التطبيع بين السعودية وإيران في عام 2023، اتجهت بعض هذه الدول لإعادة العلاقات مع طهران، مما يعكس مدى تأثير السياسات السعودية على قرارات دول شرق أفريقيا.
ترحب الدول الواقعة في شرق أفريقيا من جانبها بالدور السعودي المتزايد، نظرًا لاحتياجها لعمليات الاستثمار والمساعدات المالية التي تقدمها المملكة، كوسيلة لتعزيز العلاقات، والالتفاف من حالة العقوبات الاقتصادية والعزلة الدولية التي فرضها الغرب على دول مثل إريتريا والصومال والسودان وكينيا.
يتبين أن الحضور السعودي في شرق أفريقيا ليس مجرد استراتيجية اقتصادية، بل هو رؤية شاملة تهدف ترسيخ مكانة المملكة باعتبارها قوة إقليمية مؤثرة. من خلال تبني نهج متعدد الأوجه، يجمع بين الاستثمارات الاقتصادية والمساعدات الإنسانية والوساطات الدبلوماسية الفاعلة، تسعى المملكة إلى ترسيخ مكانتها شريكا استراتيجيا موثوق به في منطقة تعج بالمنافسين الإقليميين.