الثلاثاء 24 يونيو 2025
تشهد منطقة غرب أفريقيا في السنوات الأخيرة، تحوّلًا دراماتيكيًّا في بنيتها الاقتصادية والسياسية، يتجلّى في موجة غير مسبوقة من انسحاب أو طرد الشركات الغربية من قطاعات استراتيجية، لطالما شكّلت عصب العلاقة بين المركز الاستعماري السابق والهامش الأفريقي. ما يحدث ليس مُجرّد إعادة توزيع لحصص الاستثمار، بل هو تمظهر عميق لتحوّل في فلسفة الحكم والتعامل مع الموارد المحلية، يحمل في طياته ملامح "ثورة صامتة" ضد نظام اقتصادي عالمي غير متكافئ.
تتقاطع هذه التحوّلات مع صعود خطاب السيادة، الذي لم يَعُد مقتصرًا على الجوانب السياسية والعسكرية، بل تَمدَّد ليشمل مفهوم "السيادة الاقتصادية"، بوصفه أداة لتحرير القرار الوطني من قبضة الشركات متعددة الجنسيات، التي كثيرًا ما ارتبطت بإعادة إنتاج أنماط الهيمنة القديمة، تحت شعارات الاستثمار والتنمية.
تشهد دول غرب أفريقيا تحوّلًا جذريًّا في تعاطيها مع الشركات الأجنبية، العاملة في قطاع المعادن، في سياق سعيها الحثيث إلى ترسيخ أسس السيادة الاقتصادية، واستعادة زمام المبادرة في إدارة ثرواتها الطبيعية، التي طالما كانت محورًا، لعقود غير متكافئة مع قوى وشركات دولية.
تُعَدّ هذه الإجراءات، التي اتخذتها الحكومات من النيجر إلى غانا، تعبيرًا صريحًا عن رفض نماذج الاستثمار الخارجي، التي لم تُترجم يومًا إلى تنمية شاملة، أو تحسين ملموس في حياة المواطنين، على الرغم من الثروات الباطنية الهائلة، التي تزخر بها المنطقة. وهو ما لا يمكن فهمه فقط من خلال التحليل الاقتصادي الكلاسيكي، القائم على الكلفة والعائد، بل يجب مقاربته ضمن سياق سياسي واجتماعي أوسع، يعيد الاعتبار للعلاقة بين الثروة والسلطة. فالقرارات الحكومية بطرد الشركات الأجنبية، أو فرض شروط جديدة للاستثمار، تُمثِّل تجسيدًا لإرادة سياسية، تسعى إلى فك الارتباط مع نماذج النمو المفروضة خارجيًّا، والتي أثبتت عجزها عن توليد تنمية شاملة، أو بناء اقتصاد إنتاجي حقيقي.
في غانا على سبيل المثال، لم يكن قرار الحكومة بإجبار الشركات الأجنبية على الخروج من سوق الذهب مع نهاية أبريل/نيسان 2025، قرارًا تكنوقراطيًّا فحسب، بل يعكس سعيًا لاستعادة عوائد الثروة الوطنية في ظل اقتصاد هش، تعاني فيه العملة المحلية من تدهور مزمن. العائدات الذهبية التي بلغت أكثر من11.6 مليار دولار عام 2024، منها 5 مليارات من التعدين الحرفي، كشفت عن فجوة بين الإمكانات المتاحة، والمكاسب الفعلية المتحققة على المستوى الوطني.
هذا الانسحاب لم يكن مُجردّ صفقة تجارية، بل يحمل دلالات رمزية عميقة، إذ ينهي حقبة دامت منذ 1956، ويؤسس لمرحلة جديدة من التمكين الاقتصادي المحلي
أما مالي، فكان قرار رفع حصة الدولة إلى 30٪ في قطاع المعادن، وإلغاء الإعفاءات الضريبية، نقطة تحوّل مفصلية في تاريخ العلاقة مع الشركات الغربية، خاصة بعد الصدام مع "باريك غولد" الكندية. وقد ترافق ذلك مع تحوّل استراتيجي تَمثَّل في استقبال استثمارات صينية في قطاع الليثيوم، ما يعكس تحوّلًا استراتيجيًّا في تموضع الدول الأفريقية على خارطة الشراكات الدولية، يَتمثَّل في إعادة توجيه بوصلتها الاقتصادية، بعيدًا عن الشركاء التقليديين ذوي الاشتراطات السياسية المُكبَّلة، نحو قوى صاعدة تتبنى مقاربات أكثر براغماتية ومرونة، تقوم على تبادل المصالح دون فرض الهيمنة التقليدية، ما يمنح هذه الدول هامشًا أوسع لإعادة تعريف أولوياتها التنموية، وتحرير القرار الاقتصادي من مراكز الضغط القديمة.
في النيجر، اكتسى المسار بملامح أكثر صرامة، إذ لم تكتف السلطات الانتقالية بطرد القوات الفرنسية، بل انتقلت إلى إعادة التفاوض على ملفات الموارد، بإلغاء رخصة "أورانو" الفرنسية، واستهداف شخصيات أجنبية في قطاع النفط، ضمن سياق قانوني جديد يعطي الأولوية للمحتوى المحلي. إنها محاولة واضحة لإعادة هندسة العلاقة بين الدولة والموارد من جهة، وبين الدولة والشركاء الدوليين من جهة أخرى.
أما بوركينا فاسو، فقد اتخذت خطوات مماثلة، بدءًا بسحب التراخيص من الشركات الأجنبية، ووصولًا إلى انسحاب "توتال إنرجيز" وبيع أصولها لمجموعة "كوريس" المحلية. هذا الانسحاب لم يكن مُجردّ صفقة تجارية، بل يحمل دلالات رمزية عميقة، إذ ينهي حقبة دامت منذ 1956، ويؤسس لمرحلة جديدة من التمكين الاقتصادي المحلي.
إن المشهد المُتشكَّل لا يعكس فقط تحوّلًا في الفاعلين، بل أيضًا في نماذج الاستثمار والتنمية. الشركات الغربية، التي ارتبطت تاريخيًّا بشروط مجحفة، وإعفاءات ضريبية طويلة الأمد، أصبحت في نظر كثير من الحكومات والشعوب الأفريقية عبئًا سياسيًّا وأخلاقيًّا، لا شريكًا اقتصاديًّا. في المقابل، تقدّم الصين نموذجًا يقوم على التمويل طويل الأمد، دون تدخل سياسي مباشر، فيما تُوظِّف روسيا أدواتها الأمنية، مثل "فاغنر"، لتأمين مواقع نفوذ في الدول التي خرجت منها القوات الفرنسية. أما تركيا، فتسعى إلى بناء شراكات شاملة، تمتد من البنية التحتية إلى الدفاع والتعليم، بينما تجد الولايات المتحدة نفسها أمام بيئة سياسية مُتقلِّبة، تُضيِّق من هامش نفوذها التقليدية.
يتجاوز هذا الصراع النماذج الاقتصادية، وحدود التنافس بين الدول، إلى صراع أعمق بين رؤيتين متباينتين للعالم والتنمية؛ الأولى، تُجسِّد فلسفة السوق المعولم، حيث تُختزَل الدولة إلى وسيط لتدفُّق رؤوس الأموال، وتُمنح الشركات متعددة الجنسيات سلطة فوق وطنية، تَتحكَّم في الموارد والمسارات التنموية. والثانية، تسعى إلى تفكيك هذه البنية عبر مشروع "تنمية سيادية"، يستعيد الدولة كفاعل مركزي في توجيه الاقتصاد، ويُعيد تعريف التنمية كعملية تحريرية تُبنى من الداخل، رغم ما يستلزمه ذلك من صراع مع البنى الموروثة ومراكز القوة الخارجية.
لا يكفي ارتفاع منسوب الخطابات المناهضة للهيمنة، لتأسيس سيادة اقتصادية حقيقية، إذ تبقى هذه السيادة رهينة البنية المحلية، بكل ما تعانيه من ضعف في الهياكل، وفقر في الأدوات، وتآكل في القدرة المُؤسَّسيَّة. فانسحاب رؤوس الأموال الغربية لا يفضي بالضرورة إلى تحرر اقتصادي، بل يفتح الباب أمام مرحلة انتقالية غير مكتملة، تتداخل فيها الرغبة في الاستقلال مع واقع الفراغ الهيكلي وتمويل محدود وغياب التكنولوجيا وشبكات مُؤسَّسيَّة عاجزة عن التحرك بفعالية خارج منطق التبعية القديمة.
ما يجري في غرب أفريقيا اليوم، لا يمكن اختزاله في سردية انسحاب الشركات الغربية، أو تصاعد الخطاب المناهض للهيمنة، بل يعكس تحوّلًا أعمق في بنية الوعي السياسي، يُعيد طرح الأسئلة التأسيسية لأي مشروع تحرري
المفارقة، التي تفرض نفسها هي أن لحظة القطيعة، التي يُفترض أن تؤسس لزمن جديد من الفعل السيادي، قد تنزلق في غياب مشروع بديل متكامل إلى إعادة إنتاج التبعية، ولو في صورة أكثر تَنوّعًا وأقل وضوحًا. فالسؤال، لا يتمحور حول من يخرج، بل حول من يخلفه، وبأي شروط، وضمن أية منظومة قِيَميَّة ومُؤسَّسيَّة. هنا تتكشّف حدود الخطاب السيادي حين لا يُرفَد بمنظومة إنتاج وطنية، ولا بإرادة مُؤسَّسيَّة تعيد توطين القرار الاقتصادي ضمن نطاقه السيادي.
ما يجري في غرب أفريقيا اليوم، لا يمكن اختزاله في سردية انسحاب الشركات الغربية، أو تصاعد الخطاب المناهض للهيمنة، بل يعكس تحوّلًا أعمق في بنية الوعي السياسي، يُعيد طرح الأسئلة التأسيسية لأي مشروع تحرري، من يملك الموارد؟ من يديرها؟ ولمن تُوجَّه عوائدها؟ أسئلة لا تندرج فقط ضمن المجال الاقتصادي، بل تنتمي إلى حقل السيادة بمعناها الجذري.
ومع كل ما تحمله هذه اللحظة التاريخية من تحديات وتقلبات، فإنها قد تفتح أفقًا لإعادة صياغة العلاقات بين الدولة والسوق، وبين الداخل والخارج، على أسس أكثر توازنًا وندية. إلا أن نجاح هذا التحوّل لن يكون ممكنًا، إلا إذا تمكنت النخب الحاكمة من تحويل فكرة السيادة من مُجرّد شعار سياسي إلى مشروع تنموي حقيقي، ومن إرادة سياسية إلى بنية اقتصادية مستدامة. فهذا التحوّل يتطلب تأسيس رؤية تنموية لا تقتصر على التمكين الاقتصادي فحسب، بل تعتمد على بناء مؤسسات قوية بكفاءات وطنية، تستند إلى المعرفة المحلية، وتُبنى على المشاركة المجتمعية، وتضع نصب عينيها مستقبلًا يتحرر فيه الوطن من التبعية التاريخية، ويعيد بناء ذاته على أسس جديدة ومستدامة.