الأحد 9 فبراير 2025
تنظر إيران إلى القرن الأفريقي كمنطقة إستراتيجية واعدة، لديها موارد طبيعية وأسواق سريعة النمو، إلى جانب موقعها الإستراتيجي المطل على مضيق باب المندب، المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، والقريب من اليمن حيث حلفائها الحوثيين. وتسعى لإثبات حضورها في المنطقة بنسج علاقات سياسية واقتصادية مع دولها، محققة مكاسب متفاوتة.
صرح الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي في 2019 - حين كان رئيسًا للسلطة القضائية – أنّ حدود العمق الاستراتيجي لطهران يمتد إلى اليمن وأفريقيا. يحتل القرن الأفريقي مكانة خاصة، فهو مدخل إلى وسط وشرق أفريقيا، وتقع دوله بالقرب من اليمن، وتتشاطر معه الإطلالة على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر ومضيق باب المندب، علاوةً على الاتصال الجغرافي والثقافي والبشري.
تسعى إيران لتحقيق عدد من الأهداف في القرن الأفريقي، منها؛ تعظيم نفوذها الاقتصادي والعسكري في المنطقة، وموازنة النفوذ الإقليمي لدول مثل تركيا والصين والهند، والتمدد المذهبي، وتقديم الدعم لجماعة الحوثيين في اليمن، وتهريب الأسلحة إلى فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة، وتحقيق تواجد فعّال بالقرب من إسرائيل، الخصم اللدود. علاوةً على حماية التجارة الدولية في منطقة بحرية تعج بالعديد من الأساطيل الحربية للقوى الغربية المناوئة لطهران.
كما تمثّل دول الإقليم قوة اقتصادية وديموغرافية متنامية، وصفها رئيسي بـ"أرض الفرص"، التي تحتاجها طهران ضمن سياستها لخلق وتنويع الأسواق داخل أفريقيا، من أجل الالتفاف على العقوبات الغربية. تتمتع دول الإقليم بإمكانات جذابة وثروات معدنية كبيرة، بما في ذلك خام الحديد والمنغنيز والمغنيسيوم والكروم، والمعادن النفيسة مثل: الذهب والماس والفضة، فضلًا عن النفط والغاز في إثيوبيا والصومال.
يتوقع تقرير صادر عن البنك الدوليأن ترتفع معدلات النمو الاقتصادي في شرق أفريقيا من 1.7٪ في عام 2023 إلى 2.2٪ في عام 2024. تمثل دول القرن الأفريقي وجهات مميزة لتصدير البضائع الإيرانية إليها، على غرار كينيا والسودان والصومال.
توسعت إيران في أفريقيا في عهد الرئيس السابق أحمدي نجاد، الذي وصف سياسية بلاده تجاه القارة بأنها جزء من إستراتيجية تعزيز العلاقات بين دول الجنوب. تراجعت مكانة القارة في عهد الرئيس السابق حسن روحاني، الذي منح الأولوية للعلاقات مع الغرب، لتعود مع خلفه الراحل إبراهيم رئيسي إلى بؤرة الاهتمام.
تمثل إثيوبيا ركيزة هامة لطهران لتعزيز نفوذها في أفريقيا، نظرًا لموقعها الإستراتيجي ودورها كاقتصاد سريع النمو ومستقر إقليميًا، ويربطهما علاقات سياسية ودبلوماسية فوق السبعين عامًا، وتعكس الزيارة الأخيرة لرئيس البرلمان الإيراني "محمد باقر قاليباف" إلى أديس أبابا، مطلع العام الجاري مدى أهمية التعاون المشترك لكلا البلدين. أكد خلالها قاليباف على ضرورة تطوير التعاون الثنائي في المجالات الاقتصادية والثقافية والسياسية، وإعادة تفعيل اللجنة الاقتصادية المشتركة بعد توقف دام عقدًا، وتوسيع التعاون في المجالات العلمية والتقنية والتعدين والزراعة والطاقة والمعرفة والذكاء الاصطناعي، وأكد على ضرورة افتتاح سفارة إثيوبية في طهران.
تُعد تلك الزيارة أول زيارة رفيعة المستوى من إيران إلى إثيوبيا منذ أربعة عقود، وتمثل فرصة لكلا الطرفين لإعادة تقييم العلاقات، وفتح آفاق جديدة بين البلدين، فإثيوبيا - في ظل العقوبات القاسية المفروضة على إيران - تشكل فرصة عظيمة للتنمية الاقتصادية لإيران من خلال عضويتهما في تكتل البريكس.
تحظى كينيا بمكانة هامة لدى طهران، ويربطهما علاقات اقتصادية وسياسية قوية، وخلال زيارته إلى كينيا في 2023، أبرم رئيسي عددًا من الاتفاقيات التجارية والاقتصادية؛ منهاخمس اتفاقيات تعاون ومذكرات تفاهُم، في مجالات الاتصالات والثقافة والاقتصاد والتعليم المهني والطب البيطري ومصايد الأسماك، واتفق الطرفان على بناء مصنع لتجميع السيارات.
أعلنت إيران مطلع 2023 عن إنشاء مركز تجاري في نيروبي، لتوسيع شبكة أسواقها في المنطقة. وفي اجتماع معرض النفط الإيراني - 2024 بطهران، رحب السفير الكيني لدى طهران محمد أغوتا بالتعاون بين البلدين في مشاريع النفط والغاز، حيث تعتبر كينيا الشريك التجاري الثاني لإيران في القارة بعد جنوب أفريقيا. تحضر الثقافة كذلك باعتبارها أحد روافع العلاقات بين البلدين، ففي نيروبي فرع لمنظمة الثقافة والعلاقات الإسلامية (ICRO)، التي تعمل كأحد أدوات القوة الناعمة لإيران، فضلاً عن المنح الدراسية التي التي تُقدم للطلبة الكينيين.
انتقالًا إلى إريتريا، شهدت العلاقات بين البلدين مؤخرًا تقاربًا سياسيًا، خلال زيارة وزير خارجية إريتريا عثمان صالح إلى طهران في يوليو/ تموز عام 2024، لحضور حفل تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان. وأعرب الأخير عن تطلعه لتعزيز التعاون على كافة المستويات بين البلدين. تدهورت العلاقات الثنائية عقب الحرب في اليمن في 2015، وكانت إريتريا إحدى الدول التي ساندت السعودية، وتحولت نحو الغرب بعد حادث السفارة السعودية في 2016، وفضلت أسمرة الرياض على حساب طهران. حصدت أسمرة مكاسب ابتعادها عن طهران من خلال المساعدات المالية، واستأنف البلدان علاقاتهما بعد اتفاق مارس/ آذار 2023 بين الرياض وطهران.
يستطيع البلدان البناء على ماضي قوي من التعاون الثنائي، يمتد إلى مطلع الألفية، وشمل التعاون العسكري والملاحة الدولية ومكافحة القرصنة. لكن من غير المتوقع أنّ تعود العلاقات لسابق عهدها، الذي كاد أنّ يشهد بناء إيران قاعدة عسكرية بحرية في ميناء عصب، وعلى الأرجح لن تخسر أسمرة السعودية والغرب لصالح إيران.
تتشابه العلاقات الإيرانية مع السودان بنظيرتها مع إريتريا، حيث جمعتهما علاقات ثنائية قوية حتى عام 2016، الذي اصطفت فيه السودان إلى جانب السعودية. استأنف البلدان العلاقات الدبلوماسية في 2023 بعد اندلاع الحرب في السودان، واستفادت إيران من الأزمة بعرض مساعدات عسكرية على الجيش السوداني، وخاصة المسيرات، التي لعب دورًا هامًا في انتصارات الجيش. جمع البلدين تاريخ قوي في التعاون العسكري ومواجهة الغرب، وتقديم المساعدات للفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، وتطلعت إيران لاستئجار قاعدة عسكرية بحرية في السودان.
لا تختلف العلاقات الإيرانية مع جيبوتي عن نظيرتها مع إريتريا والسودان، فقد شهدت قطيعة عام 2016، ثم عودة بعد الاتفاق السعودي الإيراني. شملت علاقات البلدين حتى عام 2016 تعاون في التجارة الدولية، واُتهمت جيبوتي بدعم تهريب الأسلحة إلى الحوثيين. يتضح مما سبق، أنّ العلاقات بين إيران والعديد من دول الإقليم اتسمت بالهشاشة، ولم تصمد أمام المنافسة مع السعودية، كما أنّ عودتها الأخيرة ترتبط بالانفراجة في العلاقات مع الأخيرة.
تُتهم إيران بالتعاون مع حركة الشباب المجاهدين الصومالية، المصنفة إرهابيةً، وذكرت دراسة أجرتها المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية، وهي مؤسسة بحثية مقرها جنيف، أن إيران تقوم بتهريب الأسلحة من اليمن عبر مضيق عدن إلى الصومال، وهي اتهامات طالما نفتها إيران. كما نقل تقرير لصحيفة "فورين بولسي"، عن مسؤولين أمريكيين، أنّ كبار المسؤولين في الحكومة الصومالية على دراية بالدور الإيراني، الذي يسعى لتوظيف حركة الشباب في مهاجمة الوجود الغربي.
تستغل إيران الموانئ الصومالية في التحايل على العقوبات الدولية المفروضة على بيع ونقل النفط، ونشرت الأمم المتحدة تقريرًا يفيد بانتهاك إيران للعقوبات المفروضة على حركة الشباب. تختلف سياسات دول القرن الأفريقي تجاه إيران، وترتبط كينيا بعلاقات اقتصادية قوية معها، وفي الوقت نفسه تعتبر شريكًا هامًا للدول الغربية، لهذا تتبنى سياسة شبه محايدة، وتبتعد عن القضايا الشائكة بين الطرفين. من ناحية أخرى، يرحب الجيش السوداني بالتعاون مع إيران، خاصة في المجالات الاقتصادية والتسليح. لكن مثل هذه العلاقة تثير حفيظة دول أخرى، وتتمتع الصومال بعلاقات جيدة مع الغرب، وترى في إيران تهديدًا لأمنها.
تضغط العزلة الدولية المفروضة على إيران على علاقاتها بدول العالم، حيث تنمو هذه العلاقات حين يخف ضغط القوى الدولية، وتخبو حين يزداد ضغط الأخيرة. تقوم السعودية بدور مشابه على المستوى الإقليمي، حيث اصطفت العديد من دول القرن الأفريقي والعالم الإسلامي إلى جانبها، بعد الاعتداء على سفارتها في طهران في 2016، واستأنفت نفس الدول علاقاتها مع طهران بعد التسوية بين الأخيرة والرياض في 2023. كما ألقت الحرب في غزة بتبعاتها على علاقات إيران الدولية، حيث من المتوقع ازدياد الضغوط الأمريكية على الأخيرة بعد عودة ترامب إلى البيت الأبيض، فضلًا عن مسعى نتنياهو لتوجيه ضربة عسكرية لبرنامجها النووي، وهي ضغوط ستنعكس على علاقاتها بدول القرن الأفريقي، التي باتت أقرب إلى صراع الشرق الأوسط.