الاثنين 23 يونيو 2025
لا شك أن الحرب السودانية الأخيرة، ستعيش في ذاكرة الأدب لسنوات، فهي الأشد ضراوة والأوسع نطاقاً والأكثر تدميرا والأعمق جرحا، وهي المحصلة النهائية لكل الاخفاقات السابقة وكل أنصاف الحلول، ومع إكمال الحرب لعامها الثاني، ودخولها في الثالث، أتحفنا الأديب والصحفي السوداني الدكتور حسام الدين صالح بمجموعته القصصية " تكرارات الخرطوميين" عن دار المصورات، وهذه المجموعة هي الإصدار الأدبي الرابع للكاتب بعد مجموعته القصصية: "المتدحرجون من الخرطوم" (2011)، وروايته: "زيدان الزقزاق" (2013)، ومجموعة القصص القصيرة جدا: "خرطوم الجن" (2013).
يلاحظ أن اسم الخرطوم حاضر في مجموعات حسام الدين القصصية كأنه مسحور بها وبناسها، فقد عاش الكاتب معظم عمره فيها، درس في مدارسها، وفي أعرق جامعاتها -جامعة الخرطوم- درس الاقتصاد، ثم عمل في صحافتها، وواصل دراسته العليا في الإعلام، حتى حصل على الدكتوراه من جامعة الأناضول في تركيا حيث يقيم الآن.
رغم أنه لم يعش تفاصيل الحرب إلا أنه قدم في " تكرارات الخرطوميين" صورة صادقة جدا للمأساة، فليس بالضرورة أن تعيش في وطنك لتشعر بجراحه وبآلام شعبك، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن الأديب أكثر قدرة على التعبير عن التجارب الإنسانية، ويتفوق في ذلك على الذين عاشوها أنفسهم، وهذا السبب وراء عشق الإنسان الفن والأدب، فيهما يبحث عن مرآة يرى فيها ذاته، لا بل إنه يعيش تجارب أكثر انتظاما وأكثر عمقا.
تميزت مجموعة تكرارات الخرطوميين بالرمزية والشعرية والكثافة؛ وبالتقاطها لمشاهد من الحياة لن تستطيع الكاميرا الوصول إليها. وقد عالجت موضوع الحرب بالانغماس في بعدها الإنساني وتأثيراتها النفسية بعيدا عن التسجيلية والدعائية، ولم يكن الكاتب معنيا بتصنيف حملة السلاح، كأنه يقدم صورة تجريدية تصلح أن تكون رمزا مجردا لجميع الصراعات المسلحة التي يكون ضحاياها المواطنون العزل.
يصرِّح الكاتب نفسه - في مقدمة مجموعته - برمزية الخرطوم، الخرطوم التي عاشت ما عاشته مدن السودان من ويلات الحرب وآثارها، فيقول: "وما الخرطوم وناسها إلا رمز لعموم السودانيين، بل ولغيرهم من الشعوب التي أذاقتها الحروب وفظائع اللجوء ويلات الغصص اليومية"، وبيوت الخرطوم التي خلت من سكانها - في هذه القصص - ليست سوى رمزا لكل البيوت التي اضطر أهلها إلى مغادرتها، وحيطان منزل حسن جمعة عازف الفلوت بأمدرمان -في قصة ترنُّم - التي ثقبتها القذائف؛ ليست سوى حيطان الستر التي كانت تغطي عورة الوطن بأغنيات عن قيم وأخلاق أصيبت هي الأخرى في مقتل.
لم يكن الكاتب معنيا بتصنيف حملة السلاح، كأنه يقدم صورة تجريدية تصلح أن تكون رمزا مجردا لجميع الصراعات المسلحة التي يكون ضحاياها المواطنون العزل
لقد اختار الكاتب الخرطوم مسرحا لقصصه لأن جرحها غير مألوف، ولأنها تجمع السودان كله بسبب تركيز الخدمات فيها، فهذه المدينة لديها تجربة قصيرة مع الصراعات المسلحة، وربما لم يسمع بعض سكانها الأسلحة الثقيلة إلا عندما جاءت حركة "العدل والمساواة" بقيادة الدكتور خليل إبراهيم غازية العاصمة الهادئة.
لكنها في هذه الحرب شهدت ما لم يتوقعه أحد في هذه البلاد التي لم تهدأ منذ استقلالها، حروب في الجنوب وفي الشرق وفي الغرب، مات فيها الملايين، هذه البلاد لها مع الحروب قرابة دم، وذكريات تمشي بين الناس؛ تنبش قبور الذاكرة، تمزق أكفان من رحلوا في حروب لا يعرفون أسبابها، أو يعرفون أسبابها، ولكن لا يعرفون ثمن موتهم، حتى أن الوطن نفسه - كما في قصة تعرُّف- حين يريد التعريف بنفسه لوطن مجاور، يقول: "في هذه البقعة حيث يعيش الهلاك: الولادة فردية والموت جماعي".
رغم أن أجزاء من السودان قد عاش أهلها تجربة النزوح لأكثر من عقدين من الزمان وُلد فيها أناس وتزوجوا في معسكراتهم، إلا أن أحدا لم يتخيل أن يشمل النزوح ملايين البشر من أقصى البلاد إلى أقصاها. كان السودانيون يظنون أنهم مختلفين عن الشعوب التي ساحت في بلاد الله بحثا عن الأمان. كانوا متفائلين بأن الأمور في بلادهم لن تسوء إلى درجة تضطرهم للمغادرة، فحدث ما لا يرجوه أحد؛ لجوء ونزوح من مدينة إلى أخرى، بحثا عن أمان نسبي يخالطه عدم اليقين.
من وجهة نظر نفسية، إن الذين يعيشون مثل هذا النمط من التهجير القسري المتكرر يصابون بما يعرف بالصدمة المركبة، وهي تراكم لصدمات متلاحقة، تتجاوز قدرة النفس البشرية على المعالجة أو الاستيعاب، فحين يُجبر الإنسان على الفرار من منزله تحت التهديد المباشر للموت أو العنف أو الجوع، فإن الخسائر لا تتوقف عند حدود البيت والملكية، بل تتغلغل إلى عمق الذات، لتترك أثرًا نفسيًا معقدًا قد يمتد لأجيال، مثل بطل قصة تنعُّم الذي "عاد بعد الحرب من أقاصي الاغتراب، لم تبق له أمنية سوى سودنة الجنة".
ليست سوى حيطان الستر التي كانت تغطي عورة الوطن بأغنيات عن قيم وأخلاق أصيبت هي الأخرى في مقتل
تعالج المجموعة موضوع النزوح، وأثره النفسي في قصص كثيرة، فالنازح الذي ترك خلفه حياة مألوفة لديه، يشعر بالضياع، لأن العوامل التي يستعين بها على تعريف ذاته لم تعد موجودة، والبلد التي نزح إليها لا ينطبق عليها تعريف المأوى بالنسبة إليه، بسبب الهوية الجديدة: "نازح"، فيدخل في صراع نفسي عميق مع سكان يرفضون أحيانًا الاعتراف به بوصفه مواطنا كاملا. يتعرض للتمييز، ويعيش في هامش المدينة كـ"مقيم مؤقت،" يعاني انكماشا نفسيا وتآكلا في الشعور بالكرامة والانتماء، ويزداد الحنين إلى البيت، "البيت" الذي يرتبط في الثقافة السودانية بالدفء والجيران والقرابة والانتماء. عندما يُنتزع الإنسان من هذا الفضاء، لا يفقد مأواه فحسب، بل يفقد إطاره الاجتماعي والهوياتي.
في مناطق النزوح، تُعاد صياغة العلاقات الاجتماعية قسرًا، ويفقد النازح مكانته الاجتماعية، ويصبح ضيفًا أو عبئًا، حتى داخل وطنه، وقد وصف الكاتب هذا الشعور في قصة تكسُّر "كانت خفيفة كمواطنة من الدرجة الأولى حينما مشت على وطن من زجاج، استيقظ الوطن فجأة فتكسَّر كل شيء: هي، المشية، الطريق، والحلم".
يصور الكاتب ما فعلته الحرب بالناس، وبحثهم عن احتياجاتهم التي تقع في أسفل هرم ماسلو للاحتياجات الإنسانية، فنراهم ينتظرون المنظمات الإنسانية لتجود عليهم بما يسد رمقهم، وقد برع في رسم صورة الجوعى وهم ينتظرون الطعام، فهذه قصة بعنوان تضوّر، يقول فيها: "من لسان الطفلة الصغيرة الجائعة، تهرب - لقعر الماعون الكبير، ملتصقة به من الذعر- بقايا الأكل الشحيح، يبتلع الماعون الجائع رأس الطفلة دون أن يشبع".
في هذا التصوير البديع، نرى بقايا الأكل تهرب من لسان طفلة جائعة، لتسقط في الماعون الفارغ، ولأن الطفلة تحتاج حتى إلى هذا الفتات، تنظر إلى الماعون، تُدْخِل رأسها فيه لتلحس تلك البقايا، فيبتلع الماعون الجائع رأسها، دون أن يشبع. هذه الصورة المحزنة لا يراها "الحمقى" ولا تؤثر فيهم أبدا، كما في قصة تهوُّج التي يقول راويها: "الجوعى في كل مكان، والحمقى يبذرون الحرب، ينبتون الحقد، ويتمنون مع ذلك حصد السلام".
تمزق أكفان من رحلوا في حروب لا يعرفون أسبابها، أو يعرفون أسبابها، ولكن لا يعرفون ثمن موتهم، حتى أن الوطن نفسه حين يريد التعريف بنفسه لوطن مجاور، يقول: "في هذه البقعة حيث يعيش الهلاك: الولادة فردية والموت جماعي"
لم يبرع الكاتب في تصوير الخسائر البشرية وحسب، بل كتب لنا قصة فنتازية عن دار الوثائق القومية - المكان الذي قضى فيه كاتب القصة فترة الخدمة الإلزامية- بعنوان تثقُّف جاء فيها: "في بطون الوثائق موتى كانوا طيلة خمسة أيام في الأسبوع يلتقون بأحياء من كل بقاع العالم يروون لهم تفاصيل الماضي، توقف عمل الأرشيف حينما هجم الرعاع على دار الوثائق القومية في الخرطوم. هذه المرة ما زال الموتى مبعثرين بالداخل، ينتظرون الأحياء ليحكوا لهم سبب الغياب".
لم يكتفِ الكاتب بجراحات الحرب وحسب، بل وتخيّل السلام والعودة إلى الديار، والرصاص الفارغ الذي يدافع عن نفسه، ويتبرأ في مرافعته الأولى في محكمة الحقيقة بقوله: "لا تقولوا "رصاصة قاتلة" بل قولوا "قاتلٌ قاتل".
يحكي عن اجترار الجنود لويلات الحرب بعد أن يأتي السلام، ففي قصة تنطُّع التي جاءت على لسان أحد الجنود لا نعرف إلى أي الجهات ينتمي، إلا أننا نتكهن بأنه فقد أطرافه بالحرب وصار مقعدا على كرسيه المتحرك، وحصل على مكافأة لا يعرف ماذا يصنع بها، يقول: "عدت من جبهة العدو بجسد لا يقوى على شيء سوى الاتكاء على قلب مليء بالكراهية ليعود للحرب مرة أخرى. عدتُ بعد أن حل السلام، سلمت بندقيتي فسلموني مبلغا من المال وكرسيا مريحا وكتابا حول السلام النفسي والتخلص من الكراهية. كان البنك مصير المبلغ والكرسي من نصيب المتبقي من كتلة الجسد، أما الكتاب فكان من نصيب المدفأة الجائعة.. المشتعلة الآن".
"تكرارات الخرطوميين" حافلة بالموضوعات إلا أنني اكتفيت بالحرب كجزء منها، وقد عالجها الكاتب ببراعة تحتاج إلى مزيد من تسليط الضوء عليها. كما أن الطريقة التي كُتبت بها المجموعة تجعلها عملا مفتوحا قابلا للعديد من القراءات والتأويلات، وقد نلتمس فيها وفي كتابات أخرى لكتّاب آخرين ملامح الأدب السوداني بعد هذه الحرب الصادمة.