السبت 8 نوفمبر 2025
يرسل عدد من المحسنين الغربيين مبالغ شهرية لمنظمات تعمل في مجال رعاية الطفولة وتقديم العون لأطفال الأسر الفقيرة في أفريقيا؛ لتغطية جزء من احتياجاتها الأساسية، ومن خلال ما يعرف ببرنامج كفالة الأطفال (Child Sponsorship). يختار المتبرع أحد الأطفال ويرسل له شهريا ما يتراوح بين 30-50 دولار، وتعد منظمات كفالة الأطفال في أفريقيا شريكاً حيوياً في جهود التنمية الشاملة، حيث تعمل على تحويل حياة الملايين من الأطفال من خلال برامجها المتكاملة التي تشمل التعليم والصحة والدعم النفسي والاجتماعي.
لكن هذا الدور يواجه نقدا من البعض بحجة أنه يكرس لوضع الحاجة دون تغيير حقيقي للأوضاع المعيشية في القارة، الأمر الذي لم تحققه المبالغ الكبيرة التي تُدفع كمساعدات للدول، وقد انتقدت ذلك- وبشدة- الخبيرة الاقتصادية دامبيسا مويو في كتابها الشهير المساعدات المميتة، فالبعض ينظر إلى المساعدات الغربية كشكل من أشكال الاستعمار، وقد عالج الفيلم الأمريكي "حول سميث" About Schmidht (2002) - للمخرج ألكسندر باين وبطولة جاك نيكلسون- هذه الظاهرة، وهو من أفلام التيار السائد، التي تركز على القضايا الشخصية، وليس بالضرورة أن يكون الفيلم قد قصد-بشكل مباشر- انتقاد الخيرية الأبوية "Paternalistic Charity" التي يمارسها الغرب مع ما يُسمى بدول العالم الثالث.
لكن، ومن خلال العدسة ما بعد الكولونيالية، يمكننا كشف وتفكيك المعاني الضمنية والتمثيلات التي قد تعكس أو تُديم أنماطا استعمارية في الثقافة، إننا قد نواجه أحد التحديات في تطبيق النقد ما بعد الكولونيالي على أفلام التيار السائد مثل "About Schmidt"؛ وهو أن هذه الأفلام غالبًا ما تكون مُصممة لجمهور غربي، وتُقدم قصصًا تُركز على تجارب ومخاوف هذا الجمهور.
يبدأ الفيلم بإحالة وران سميث للتقاعد وبداية أزمته الوجودية، وفي حفل تقاعده الفاخر يُلقي أحد أصدقاء وارن خطبة حول "الحياة ذات المعنى"، الموضوع الذي سيشكل ثيمة الفيلم وفق مخطط بليك سنايدر، يعود وارن وزوجته إلى البيت وهو مشحون بمشاعر مختلطة، وفي ملامحه مسحة من ضياع، وبينما هو يشاهد التلفاز، يرى إعلانا لمنظمة تعمل في مجال كفالة الأطفال تقدم صورا لأطفال يعانون من الجوع والمرض، وتطلب عشرين دولارا شهريا من أجل إنقاذ أحدهم وعائلته.
يرسل وارن سميث ويتبنى طفلا من غامبيا يُدعى أندوجو، فترسل له المنظمة صورة له ودليلا للكفالة، وتطلب منه أن يكتب له باستمرار، لكن وارن سميث جعل من هذه الرسائل مرآة لاستكشاف ذاته وعلاقته بزوجته وابنته، وبعد موت زوجته تتضاعف أزمته الوجودية ووحدته، ورغم ذلك لم يجتهد في إقامة جنازة تليق بأربعين عاما من الزواج، بل أمضى وقتا طويلا يبحث فيه عن وكالة لدفن الموتى بأرخص فاتورة ممكنة، واختار أرخص تابوت وجده، لدرجة أنهم قاموا بتغطيته بقطعة قماش كي لا يراه الناس.
قبل أن تنتهي فترة الحداد، تقرر ابنته إكمال مراسم زواجها كما هو مخطط له، ولا يمكنها تأجيله بسبب وفاة أمها، رغم محاولات الأب ثنيها عن زواجها من ذلك الشاب الذي لم يستلطفه، تشبثت برأيها، فقرر الأب أن يسافر إليها بسيارته، وتستغرق الرحلة معظم زمن الفيلم، وبنهايتها سيتعلم وارن سميث الكثير من دروس الحياة.
أفريقيا ليست مكانًا حقيقيًا، بل خلفية رمزية يُسقط عليها الرجل الأبيض معاناته الداخلية
من الوهلة الأولى يبدو الفيلم دراما هادئة عن رجل أمريكي متقاعد يجد نفسه وحيدا بلا معنى للحياة، إلا أننا إذا نظرنا للفيلم من منظور النقد ما بعد الكولونيالي، يتضح لنا أنه يتجاوز الحكاية الفردية ليعيد إنتاج علاقة رمزية بين الغرب وأفريقيا؛ علاقة تشوبها الهيمنة والاختزال. وتكمن أهمية هذه النظرة في كشفها لصورة أفريقيا في السينما الغربية حتى لو كان الفيلم يبدو بعيدا عن السياسة والاستعمار.
كثيرا ما تُصور أفريقيا في السينما العالمية بصورة غير مُرضية، إن أفريقيا ليست مكانا للتمثيل الذاتي للغرب، بل قارة نابضة بالحياة، بصوتها وتاريخها وحكاياتها، وإدراك هذا الفارق هو ما يحول النقد السينمائي إلى فعل مقاومة ثقافية.
بعد فقدان عمله وزوجته، يلجأ شميت إلى رعاية طفل أفريقي، يرسل له مبلغا زهيدا، ويكتب له رسائل مطوّلة عن حياته الخاصة، وهو ليس بالشخص الكريم، وإلا لأقام لزوجته وداعا يليق بها، وهو الذي يلومها بغضب على التخلص من الطعام فقط لأن تاريخ صلاحيته قد انتهت، وهذا ما يجعلنا نقول بأن فعل الخير الذي قام به من أجل نفسه وليس من أجل الآخر، فقد اشترى مرآة جديدة لينظر بها إلى نفسه بعشرين دولارا.
يوضح إدوارد سعيد، في كتابه "الاستشراق"، أن الغرب طالما احتاج "آخرا" يعرّف نفسه من خلاله، فالآخر ليس مجرد موضوع للمعرفة، بل هو شرط ضروري لتعريف الذات الغربية، هذا بالضبط ما نراه في الفيلم: أفريقيا ليست مكانًا حقيقيًا، بل خلفية رمزية يُسقط عليها الرجل الأبيض معاناته الداخلية.
الفيلم لا يقدم أي عمق أو تفاصيل عن حياة الطفل أو ثقافته، بل يظهر ككيان مجرد يمثل "الحاجة" أو "الفقر". هذا التصوير يتماشى مع مفاهيم "الاستشراق" التي لدى سعيد، حيث يتم اختزال الثقافات غير الغربية إلى صور نمطية مبسطة تخدم أجندة الغرب وتبرر تدخله. أفريقيا هنا ليست سوى خلفية لتجربة شميت الشخصية، وليست كيانًا ذا تاريخ وثقافة غنية بحد ذاتها.
لقد احتل سميث مساحة السرد كلها، فهو وحده يقوم بالحركة والحكي والتفسير، ولم يظهر أندوجو في أي مشهد ولم نسمع صوته، لكن اسمه يتردد في خطابات وارن التي يرسلها إليه، وكأنها لا تصل، وبعد عدد من الرسائل لم تصل إلى شميث سوى رسالة واحدة في نهاية الفيلم كتبتها ناشطة فرنسية تُدعى نادين غوتييه من دير القلب المقدس، تخبر فيها سميث بأن ابنه بالتبني يفكر فيه كثيرا، وقد رسم له رسمة يأمل أن تعجبه، وأرفقت الرسمة مع الرسالة، شمس صفراء وبحر ورجل يمسك بيد طفل.
هذا كل ما في الأمر، حتى ما يريد أن يقوله الطفل الأفريقي، لم يستطع الفيلم أن يرويه بضمير المتكلم، بل قالته امرأة غربية بالنيابة عنه، بضمير الغائب، لقد تأثر سميث بالصورة التي وضعته في قلب العائلة المرسومة، فيبكي، يؤكد هومي بابا، أحد أبرز منظري ما بعد الكولونيالية، في كتابه "موقع الثقافة" (1994) أن التمثيل الاستعماري غالبًا ما يحوّل الآخر إلى صورة جامدة تخدم حاجات السلطة. في الفيلم، الطفل الأفريقي يُختزل إلى صورة على ورقة، وليس بكاء شميت في النهاية سوى فرحة مكتومة بصورة تمنحه شعورًا بالاعتراف والجدوى.
هذه الخيرية ليست مجرد مساعدة، بل هي أيضًا تعزيز لموقع الغرب كـ"المنقذ" أو "المانح"، وتؤكد على تبعية "الآخر" المحتاج
إن الهامش الصغير جدا الذي خصصه الفيلم لأندوجو، يذكرنا بأن التابع لا يُسمع، بل يُستخدم وسيطا لتأكيد صوت الآخر، فقد ذكرت غياتري سبيفاك في "هل يمكن للتابع أن يتكلم؟" (1988) أن التابع غالبًا ما يُستدعى في خطاب السلطة لا بوصفه فاعلًا بل باعتباره موضوعا صامتا. هذا ما يحدث في About Schmidt: الطفل الأفريقي لا يرد على رسائل شميت، ولا نسمع صوته مطلقًا. وجوده محصور في كونه "موضوعًا للعطف" ووسيلة لإشباع حاجة البطل الغربي لإثبات قيمته الأخلاقية.
لم يكن تبني الطفل الأفريقي هو الحدث الوحيد في تغير حياة سميث، بل ساهم سفره إلى نبراسكا لحضور عرس ابنته في نمو شخصيته أيضا، ويمكن قراءة ولاية نبراسكا في الفيلم كفضاء مركزي يمثل "الوسط الأمريكي" المعتمد في سرديات الحداثة الأمريكية، في مقابل غياب متعمد لخطابات الاستعمار العالمي أو تاريخ الاستعمار الطويل.
هذه العزلة عن "العالم-الآخر" تتيح مقاربة تظهر كيف تعيد الثقافة الأمريكية تشكيل صورة العالم عبر سرد يركز على الفرد والروابط العائلية، بدلاً من السياقات الاستعمارية المباشرة، كما تدعونا إلى كشف أنماط الكولونيالية الثقافية الناعمة (Soft Cultural Colonialism)، فغياب أي صوت أفريقي أو منظور ثقافي، والتركيز على تجربة شميت، يُظهر كيف يمكن للإنتاج الثقافي الغربي أن يُقيد تمثيل "الآخر"، ويعزز السرديات الغربية المهيمنة.
إن فعل الخير سواء كان فاعله غربيا أم شرقيا لهو أمر يستحق الثناء لا النقد، فكلنا نحتاج أن نتشارك إنسانيتنا، ونخدم الآخرين بما نستطيع، لقد عشتُ في منطقة دارفور، وهي منطقة نزاعات، لم يفعل الكثير من الأثرياء أي شيء من أجل تخفيف معاناة أهلهم، بل استغل البعض الأزمة ليزدادوا ثراءً، إن نقد هؤلاء أولى من نقد الخير الغربي. ولكن من منظور ما بعد الكولونيالية ينتقد مفهوم "الخير" عندما يكون مشوبًا بنوع من الوصاية وإعادة بناء "الآخر"، وفقًا لأجندة شمال-جنوب.
يبقى الوهم الخيري، بكل ما فيه من التباسات، قادراً على إنقاذ الفرد الغربي من الانهيار، وهو ما يترك المشاهد أمام مفارقة أخلاقية وثقافية في آن واحد
رعاية شميت للطفل الأفريقي تُقرأ كحالة اختبار لحدود هذه الوصاية: كيف يحول المنظور المعرفي الغربي فكرة "المساعدة" إلى أداة قوة، تعيد تشكيل هوية الطفل المتبنى في إطار من الحنين إلى السيطرة الرمزية؟ هذا المحور يدعم نقاشًا حول كيفية ظهور مشهد الإغاثة كخطاب يحافظ على تفوق القاعدة الغربية، ويترك مجالًا لقراءات حول الفجوات بين النوايا المعلنة والواقع، ففعل شميت في رعاية الطفل الأفريقي، رغم نبل نواياه الظاهرة، يمكن تحليله كشكل من أشكال "الكولونيالية الثقافية الناعمة".
هذه الخيرية ليست مجرد مساعدة، بل هي أيضًا تعزيز لموقع الغرب كـ"المنقذ" أو "المانح"، وتؤكد على تبعية "الآخر" المحتاج. في هذا الإطار، يتم فرض قيم ورؤى الغرب على "الآخر" من خلال فعل المساعدة، مما يهمش أصواتهم وتجاربهم الذاتية، هذه العلاقة تكشف عن الأنساق المضمرة للخير الغربي، حيث يتحوّل الفعل الإنساني إلى ممارسة رمزية تمنح المانح شعورًا بالتطهير الأخلاقي، دون أن تكسر فعليًا دائرة الهيمنة أو تُعيد تعريف الآخر بوصفه ذاتًا مستقلة. ومع ذلك، يبقى هذا الوهم الخيري، بكل ما فيه من التباسات، قادراً على إنقاذ الفرد الغربي من الانهيار، وهو ما يترك المشاهد أمام مفارقة أخلاقية وثقافية في آن واحد.
إن قراءة فيلم "About Schmidt" من منظور ما بعد الكولونيالية تكشف عن طبقات أعمق من المعنى تتجاوز مجرد رحلة فردية لاكتشاف الذات. يوضح الفيلم، وإن كان عن غير قصد، كيف يمكن أن تعيد التمثيلات الثقافية إنتاج ديناميكيات القوة الاستعمارية، وكيف يمكن لأزمة الهوية الغربية أن تؤثر على تصور "الآخر". الفيلم يعكس تحديات أوسع في الثقافة الغربية للتعامل مع الإرث الكولونيالي، وكيف يمكن أن تُقدم "الخيرية" كشكل من أشكال الوصاية الثقافية. إن هذا التحليل يدعو إلى مساءلة السرديات السائدة، والبحث عن تمثيلات أكثر عدالة وتوازنًا للثقافات المتنوعة في جميع أنحاء العالم.