تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 15 مايو 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
كتب

تفكيك البديهيات: أنثروبولوجيا التعليم الإسلامي في أفريقيا

15 أبريل, 2025
الصورة
islamic education in africa
Share

ثمة كتب تأتي في أوانها وإبانها، لا لتضيف فقط إلى رصيد المعرفة شيئا، بل لتكسر صمتًا منهجيًّا طال، وتهزّ الأعراف الأكاديمية السائدة، وتفتح أفقًا جديدًا للتفكير في موضوعات طالما أُهملت أو حُوصرت ضمن قوالب جاهزة. يُعدّ الكتاب الجماعي الصادر سنة 2016، والموسوم ب"التعليم الإسلامي في أفريقيا: الألواح القرآنية والسبورات"، بإشراف روبير لوني، نموذجًا لهذا النوع من الكتب، فهو يجمع بين أنثروبولوجيين ومؤرخين وباحثين في العلوم السياسية حول موضوع التعليم الإسلامي في أفريقيا، مقدما قراءة جريئة تتحدى التمثيلات الاستشراقية، وتُسائل الفئات التحليلية المستوردة، وتُعيد الاعتبار للعقلانيات المحلية في سياقاتها الخاصة.

من هذا المنطلق، يمكننا أن نقرأ هذا الكتاب باعتباره إسهامًا في أنثروبولوجيا المعرفة، وفلسفة تعدد أنماط التفكير. فهو لا يقتصر على عرض دراسات ميدانية، بل يقدّم مشروعًا لتفكيك الصور النمطية من خلال إثنوغرافيا دقيقة، ومقارنات جريئة، وانتباه خاص إلى تكوّن الذوات في سياقاتها التعليمية.

يتألف هذا الكتاب من زمرة من المقالات تنسج بخيوط محكمة بين التاريخ والإثنوغرافيا لكشف غنى التعليم الإسلامي في أفريقيا، من ثلاث جلسات علمية عُقدت خلال الاجتماع السنوي لجمعية الدراسات الأفريقية عام 2009. يعتبر هذا العمل إنجازًا علميًّا بارزًا، لما فيه من تصحيح لجملة من الافتراضات الخاطئة التي ما تزال رائجة، والتي تختزل الإسلام الأفريقي في صورة "إسلام أسود توفيقي" انحرف عن "أصالة" مزعومة محصورة في الشرق الأوسط.

تكشف كل مقالة في هذا الكتاب كيف أن العلماء وطلابهم في أفريقيا كانوا، ولا يزالون، فاعلين في إنتاج ونقل "التراث الإسلامي العريق"، وأن المؤسسات العلمية في هذه السياقات تُظهر تشابهًا كبيرًا مع نظيراتها في بقية أنحاء العالم الإسلامي، مما يستدعي إدراجها ضمن الفضاء الإسلامي الأوسع.

يعقد روبير لوني في مقدمته مقارنة رمزية بين ألواح الكتابة المستعملة في الكتاتيب التقليدية السودانية، والسبورات الحديثة في المدارس الرسمية، مبرزًا ما تختزنه هذه الأدوات من دلالات معرفية وتأديبية. فكل أداة تُنتج "وضعيات ومواقف وسلوكيات مختلفة"، تسهم في صياغة أنماط تأديبية متميزة في أجساد التلاميذ.

كما يتناول الكتاب تشابك التعليم الإسلامي مع السياسات الاستعمارية، مبرزًا تباين النهج الاستعماري البريطاني والفرنسي والبلجيكي والبرتغالي، وما نجم عنه من تنوّع في تمثّل المجتمعات الأفريقية للتعليم الإسلامي. ويؤكد على ضرورة فهم هذا التعليم داخل "مشاهد تعليمية" متغيرة، تتفاعل فيها أنماط متعددة، دون الوقوع في تصنيفات غائية مسبقة.

معارج الكتاب

ينقسم الكتاب إلى أربعة أقسام، يضم الأول مساهمات من طال تماري وكورين فورتْييه ومحمد ساني عمر، تتناول أنماط التعليم الإسلامي الكلاسيكي في مالي وغينيا وغامبيا وموريتانيا ونيجيريا، كاشفة عن نظام معرفي إسلامي متماسك حافظ على استمراريته لقرون، تجلّى في أشكال تربوية متنوعة، بحسب تجذّره في سياقات محلية مختلفة. رغم تعدد هذه السياقات، فهي تنبع من منبع معرفي مشترك، ترسّخ بفعل التفاعل الحي بين "المتن والجسد والجماعة"، ما يضمن انتقال الفهم الصحيح للنصوص وتعزيز انغراسها في الأجساد الجماعية للتلاميذ.

التعليم الإسلامي في أفريقيا ليس شذوذًا عن الحداثة، ولا صورة عن تقليد خام، بل تجربة إنسانية غنية، متحركة، تستحق أن تُفهم في تعقيدها وتعددها

أما القسم الثاني، فيرصد تحولات المؤسسات التعليمية الإسلامية في ظل السياسات الاستعمارية وما بعدها، من خلال حالات من منطقة أنغوشي في موزمبيق (ليازات بونات)، وشمال نيجيريا (أليكس ثورستون)، وزنجبار (رومان لويماير)، والكونغو (آشلي لينويبر). فقد عملت السلطات البرتغالية والبلجيكية في موزمبيق والكونغو على تقويض التعليم الإسلامي المحلي لصالح المدارس التبشيرية الكاثوليكية، التي اشترطت التعميد للقبول، مما دفع في بعض الحالات (أنغوشي مثلا) إلى انخراط المسلمين في شبكات العلماء على امتداد المحيط الهندي، أو إلى انسحابهم الكامل، كما في الأمر الكونغو، من المنظومة التعليمية الرسمية. في المقابل، اتبعت السلطات البريطانية سياسة أكثر انفتاحًا، حيث دمجت التعليم الإسلامي في بعض المدارس المموّلة من الدولة، وسهّلت نقل الأفكار التربوية الحديثة بين مستعمراتها.

ترسم هذه المقالات مشهدًا تعليميًا يزداد تعددًا وتنافسية، أتاح للآباء المسلمين خيارات تعليمية متباينة، وأسهم في نشوء مؤسسات هجينة، وتجارب جديدة لا تزال في طور التشكل والتطور.

يحمل القسم الثالث من الكتاب عنوان "الابتكارات والتجارب"، ويعكس هذا العنوان بدقة روح المقالات الأربع التي يضمها، حيث يسلط كلّ من شيخ أنت ديوب وروديجير سيزيمان الضوء على الحاجة إلى إعادة التفكير في الثنائية التقليدية بين "التراث" و"الإصلاح الحديث"، من خلال الكشف عن حضور عقلانيات تعليمية متجذرة - غالبًا ما تُنسب حصرًا إلى الحركات الإصلاحية الحديثة - داخل مؤسسات تعليمية صوفية تقليدية. كما يبرز الكاتبان كيف أن المربين التقليديين، بمن فيهم الصوفيون، قادوا مبادرات إصلاحية تربوية ومؤسسية في السنغال وكينيا، متفاعلين بذكاء مع تحديات الحداثة الاستعمارية وما بعدها.

لقد مكّنت هذه الساحات التربوية التنافسية النساء من بناء مؤسسات تعليمية خاصة بهن، وفرض حضور فاعل في مجال طالما حُصر في الذكور. فبتركيزها على مربيات في كينيا والنيجر، تكشف أوسينا دي عليدو وعبد الله سونايي عن تحولات جوهرية في "اقتصاد المعرفة"، نتيجة ظهور أنواع جديدة من المعلمين، وتنوّع في المواد التعليمية، وتغيّر في أساليب الإنتاج والتداول الخطابي للمعرفة الإسلامية.

أما القسم الرابع والأخير (الذي يضم مقالات روبرت لوناي، ورودولف تي. وير الثالث، وبنجامين إف. سورس، ونوح باتلر)، فيركّز على أهمية الاعتراف بتعدّد النظم المعرفية غير المتوافقة التي تشكّل المجال التعليمي الإسلامي، وينتقد القراءات الغائية المتأثرة بإيديولوجيات التحديث. ويوضح كيف أسهمت وسائل الإعلام الحديثة في صعود شخصيات إسلامية عامة، تتسم في كثير منها بالانتماء إلى التقاليد الصوفية، ما يفنّد الافتراضات السائدة حول "نزع السحر" و"العقلنة" في سياقات التحديث.

هذا التعايش بين أنماط معرفية متباينة، يُمكّن الفاعلين — من طلاب وأسر — من التنقل بحرية بين مؤسسات تعليمية متباينة. وكما يبيّن نوح باتلر في مقاله الختامي، فإن هذه التفاعلات غالبًا ما تتولّد من حاجات عملية، لكنها تُنتج في الوقت ذاته إمكانات جديدة للفكر والممارسة.

أنثروبولوجيا المعرفة في مواجهة المسلّمات الغربية

لا شك إذن أن هذا الكتاب يمثل محاولة جريئة لإعادة وضع التعليم الإسلامي في موقعه الطبيعي، بعيدًا عن الصور النمطية التي طالما صوّرته كتراث جامد أو بقايا ماضٍ متجاوز. فمنذ المقدمة، ينتقد لوناي النظرة النفعية والتطورية التي اختزلت مدارس القرآن، مقترحًا مقاربة فوكوية تضع موضع المساءلة علاقات السلطة والمعرفة التي أنتجت هذا التهميش.

والناظر في الكتاب يجده يُظهر كيف أن الثنائية المتداولة بين "المدرسة التقليدية" و"المدرسة الحديثة" هي اختزال مضلل، إذ أن الواقع التعليمي الإسلامي في أفريقيا كان دومًا ساحة تفاعل - تتسم بالصراع أحيانًا، وبالابتكار أحيانًا أخرى - مع أنماط معرفية متنوعة؛ استعمارية ورسمية معولمة. بهذا، يتجاوز الكتاب أنثروبولوجيا القطيعة التي هيمنت على الدراسات السابقة، ويفتح المجال لفهم الديناميات الاجتماعية بوصفها استمراريات وتحوّلات معقدة لا تخضع لقوالب جاهزة.

ضرورة فهم هذا التعليم داخل "مشاهد تعليمية" متغيرة، تتفاعل فيها أنماط متعددة، دون الوقوع في تصنيفات غائية مسبقة

فضلا عن ذلك، فإن الكتاب يكشف عن البُعد الجسدي والمادي العميق للعملية التعليمية الإسلامية: من الألواح الخشبية، إلى الحركات الجسدية المصاحبة للحفظ، إلى طرائق الجلوس والتفاعل في الفصول التقليدية. هذا الاهتمام بما يسميه البعض "أنثروبولوجيا التفاصيل" يقرّبنا من تصورات بيير بورديو عن "الهابيتوس"؛ أي الذاكرة الجسدية التي تُشكّل الإدراك والممارسة.

لا يمكن، في عالم ما بعد الاستعمار، فصل التعليم عن علاقات الهيمنة. ويُظهر هذا الكتاب، عبر مقارباته الإثنوغرافية الدقيقة، كيف كانت النظم التعليمية الإسلامية في أفريقيا عرضة لتدخلات مستمرة: من سلطات استعمارية إلى دول وطنية إلى برامج تنموية دولية، سعت جميعها إلى فرض أنماط معينة من المعرفة والانضباط.

لكن الفاعلين المحليين لم يكونوا مجرد متلقّين سلبيين لهذه الإملاءات، بل يبيّن الكتاب، من خلال أمثلة متعدّدة، كيف مارس هؤلاء الفاعلون أشكالًا من المقاومة أو التفاوض أو إعادة التوظيف الإبداعي، ما أدى إلى تحوّلات مؤسسية عميقة في المدارس الإسلامية. تحوّلات لا يمكن قراءتها بوصفها تقليدًا أعمى للحداثة الغربية، ولا محاولة ارتدادية إلى "أصول" متخيلة، وإنما تُعبّر عن حداثات بديلة متعدّدة وغير خطية. إنها حداثات تشكّلت من رحم التفاعل المعقّد مع السياق المحلي، ومن رغبة في البقاء والإبداع في عالم متغيّر.

نحو إعادة تصور الذات الإسلامية

يشكّل التركيز على قضايا النوع الاجتماعي والسيرة الذاتية أحد أكثر الجوانب ابتكارًا في هذا العمل. فالنساء، اللواتي لطالما غاب حضورهن في الدراسات الكلاسيكية عن التعليم الإسلامي، يظهرن هنا كفاعلات مركزيات في المجال التربوي والديني، من خلال شخصيات مثل: "سوافيا" في كينيا و"بندا" في مالي، يرصد الكتاب ديناميات حضور نسائي قويّ، ليس فقط كمُدرّسات ومؤسِّسات، بل كصاحبات رؤى ومشاريع تربوية.

الناظر في الكتاب يجده يُظهر كيف أن الثنائية المتداولة بين "المدرسة التقليدية" و"المدرسة الحديثة" هي اختزال مضلل، إذ أن الواقع التعليمي الإسلامي في أفريقيا كان دومًا ساحة تفاعل — تتسم بالصراع أحيانًا، وبالابتكار أحيانًا أخرى — مع أنماط معرفية متنوعة

كما تعتمد بعض الفصول على أسلوب الأنثروبولوجيا الحوارية، التي تُفسح المجال لصوت الذات وللسرد الشخصي، مما يمنح السيرة الذاتية قيمة تحليلية وأخلاقية في آنٍ واحد. إنها أنثروبولوجيا تُنصت إلى ما تقوله الذوات عن نفسها، وتسعى لفهم كيف تُضفي المعنى على تجاربها ضمن شروطها الخاصة، لا وفق نماذج مفروضة من الخارج.

بيان من أجل أنثروبولوجيا لا متمركزة

ليس هذا الكتاب مجرد تجميع لدراسات رصينة، بل هو بيان فكري لأجل أنثروبولوجيا لا متمركزة، تُنصت لتعدد العقلانيات، وتُنكر الهرمية في أنماط التفكير والمعرفة، وتحتفي بالاختلاف بوصفه ثراءً لا عائقًا.

من خلال تفكيك التصورات المهيمنة، والالتفات إلى التجارب المعاشة، يُعيد الكتاب للأنثروبولوجيا وظيفتها النقدية الأصيلة: الفهم دون هيمنة، والتأويل دون اختزال.

وإذا كان ثمة رسالة عميقة يحملها هذا العمل، فهي أن التعليم الإسلامي في أفريقيا ليس شذوذًا عن الحداثة، ولا صورة عن تقليد خام، بل تجربة إنسانية غنية ومتحركة، تستحق أن تُفهم في تعقيدها وتعددها. إنها دعوة إلى إعادة التفكير في الكيفية التي ننظر بها، لأن طريقة النظر تُحدّد طريقة الفهم.

لا يُعدّ كتاب التعليم الإسلامي في أفريقيا إسهاما نوعيا على مستوى فهمنا للإسلام في أفريقيا فحسب، بل في توسيع مجال أنثروبولوجيا التعليم والديانات عمومًا. فمن خلال التزامه بتتبّع المسارات المحلية لإنتاج وتداول المعرفة، وتجاوزه للسرديات الكبرى، يمثل هذا العمل علامة فارقة في دراسة الإسلام المعاش، كما يقدّم أدوات تحليلية مهمّة لكل من يسعى إلى فهم العلاقة بين الدين، والمعرفة، والسلطة، في عوالم ما بعد استعمارية.