الخميس 17 يوليو 2025
تشكّل تجربة الفنانة السنغالية سيني أوا كامارا حالة فنيّة استثنائيّة تتقاطع فيها الذاكرة الجسديّة والطقس الروحي والتمرّد الجمالي، ضمن سياقات محليّة وعالميّة تتنازع تعريف الفن ووظائفه. لا تخلق كامارا من خلال اشتغالها على الطين أشكالًا بشرية فحسب، بل تنحت سيرتها الذاتيّة والأنثويّة؛ حيث يتحوّل الجسد الأنثوي إلى أرشيف رمزي للألم والعقم والعزلة، في مواجهة خطاب ما بعد الاستعمار الجمالي. تقاوم أعمالها التصنيفات الغربيّة التقليديّة للفن الأفريقي، وتُعيد الاعتبار للطين بوصفه مادّة للخلق والمقاومة والسرد.
ينطلق هذا المقال من تحليل الأسطورة التأسيسية لتجربتها، وقراءة الطين كأداة جماليّة وروحية، وصولًا إلى تفكيك منجزها ضمن أفق أنثوي طقسي يناهض النموذج المفاهيمي الغربي، عبر ما يمكن تسميته بـ"المعرفة الجسدية" و"السرد الطيني"، في مسعى لإعادة تموقع كامارا داخل الفن المعاصر، بوصفها فاعلة تعيد رسم حدود المعنى من تخوم الجنوب.
وُلدت الفنانة السنغالية سيني أوا كامارا عام 1945 في بلدة أوسوي بمنطقة كازامانس جنوب السنغال، المعروفة بتعدّديتها الإثنية وثراء طقوسها الروحيّة المرتبطة بالطبيعة والأرض. تنتمي كامارا من جهة الأم إلى إثنية السيرير (Serer)، بينما هاجر والدها من غينيا ليستقر في السنيغال. كانت كامارا الابنة الوحيدة في عائلتها، وقد نشأت في بيئة ثقافيّة تقليديّة تُمجّد الطين باعتباره مادّة مقدّسة ترتبط بالخلق، والطقوس الجنائزية والخصوبة.
تمثّل هذه التماثيل سيرة ذاتيّة رمزيّة لفنانة تنحت هويّتها من "طين المعاناة"
منذ طفولتها، كانت كامارا محاطة بعوالم الطين، حيث تعلّمت أسس الفخار والنحت من والدتها، كما يشير الأنثروبولوجي مصطفى سال. غير أنّ ما يميّز مسارها ليس التعلّم التقليدي فحسب، بل الأسطورة التي أحاطت به منذ بدايته. في رواية شهيرة وردت على لسان الباحثة ميشيل أودييه فينزي (Michèle Odeyé-Finzi)، يُقال إنّ كامارا، وهي في الثانية عشرة من عمرها، ضاعت مع إخوتها في الغابة لمدّة أربعة أشهر، وعادت بعد غياب غامض، حاملة تمثالا طينيّا مطابقا لهم. وفقا للرواية، زعم الإخوة أنّ الله علّمهم النحت في البرّية، مما يؤطّر بداياتها ضمن سرديّة روحيّة خارقة.
لكن هذه الرواية لقيت تشكيكا من مبدعين أفارقة معاصرين، مثل المخرجة السنغالية فاتو كاندي سنغور، التي تعتبر أنّ قصة "الضياع في الغابة" مُختلقة لخدمة تسويق أعمالها في المعارض الغربيّة المهتمّة بنماذج "الفن الفطري".
تزوِجت كامارا في سن الخامسة عشرة من رجل كان له عدّة زوجات. بينما أنجبت الزوجات الأخريات أطفالًا، عانت كامارا من العقم، ما جعل من تجربتها الجسديّة محورا مركزيّا في أعمالها الفنيّة. ولعلّ هذا الجرح الشخصي هو ما حفّز ولادتها الفنية الثانية؛ حيث أصبح النحت وسيلة تعويضيّة للخلق، والطين رحما بديلا للجسد.
منذ بداياتها، لم تنحت كامارا الأواني أو الأشكال النفعيّة، بل مجسّمات بشرية تُجسّد رموزا متكرّرة، مثل: المرأة الحامل والأزواج والأرواح والحيوانات الطوطميّة والطقوس الدينيّة. تمثّل هذه التماثيل سيرة ذاتيّة رمزيّة لفنانة تنحت هويّتها من "طين المعاناة".
بدأت مشاركتها في الساحة الدولية عام 1989، عندما عرضت أعمالها في مركز بومبيدو في باريس. وتوالت بعد ذلك معارضها في بلجيكا وإيطاليا وإسبانيا والنرويج، إلى جانب عرض نادر في الولايات المتحدة بين عامي 2005 و2006 ضمن مجموعة "الفن الأفريقي المعاصر" لمقتني الفن جان بيغوزي.
هكذا تتجلّى بدايات كامارا كخليطٍ من الأسطورة الشخصيّة والطقوس الجماعيّة والتمرّد الفني، لتشكّل واحدة من أبرز التجارب النسويّة في الفن المعاصر، حيث يولد الشكل من الجرح، وتُروى الحياة من صمت الطين.
لا يُمكن قراءة أعمال سيني أوا كامارا دون التوقّف أمام مركزيّة الطين كعنصر جمالي ورمزي، يتجاوز كونه خامة نحتيّة ليغدو وسيطا بين الجسد والذاكرة، بين الروح والأرض، وبين الحاضر وأزمنة سحيقة. في الثقافات التقليديّة لغرب أفريقيا، للطين مكانة رمزيّة عميقة: فهو مادّة الخلق الأولى، المرتبطة بأسطورة الخلق، كما يحضر في طقوس الولادة والموت والشفاء. من هذا المخزون الثقافي الغني تستمدّ كامارا رؤيتها الفنيّة، حيث تتحوّل المادة الطينيّة إلى امتداد للهويّة الجسديّة والروحيّة للمرأة الأفريقيّة.
منحوتات كامارا النسائية، الضخمة والمشوّهة أحيانًا عمدا، لا تسعى إلى الجماليّات الكلاسيكيّة أو التوازن التشكيلي بقدر ما تجسّد جسدا مثقلا بالذاكرة
حظي هذا البعد الأنثروبولوجي باهتمام خاص في معارض متعدّدة، أبرزها معرض الفن الأفريقي الراهن "African Art Now" التي نظّمتها مجموعة بيغوزي ومتحف الفن الأفريقي في واشنطن، حيث وُصفت أعمالها بأنّها "طقوس من طين الذاكرة"، تحمل ملامح الميثولوجيا الماندينغية، وتستدعي الأرواح والنسل والآلهة National Museum of African Art, 2019; CAACART, 2019)).
لا تسعى منحوتات كامارا النسائية، الضخمة والمشوّهة أحيانًا عمدا، إلى الجماليّات الكلاسيكيّة أو التوازن التشكيلي بقدر ما تجسّد جسدا مثقلا بالذاكرة. ففي كلّ تشقّق في سطح الطين، يمكن قراءة جرح استعمار، أو طقس طرد الأرواح، أو ألم عقم، أو عزلة اجتماعيّة. تصبح هذه الأجساد الطينيّة سجلّات جسديّة لحيوات نساء مجهولات، لكنّهن يحملن في هيئة الطين عبء الذاكرة الجمعيّة التي أقصتها السرديّات الحداثيّة. الطين كجسد متحوّل يعارض الخطاب الحداثي الغربي الذي يُمجّد المواد الصلبة واللامعة (مثل البرونز أو الرخام)، ويمنح أولويّة لليونة، للانمحاء، وللزمن البطيء.
في هذا السياق، تقول سيلفيا فورني في دراستها حول كامارا ضمن كتاب (الفن الأفريقي، المقابلات، السرديات: أجساد المعرفة في العمل) إنّ ما يميّز أعمال الفنانة ليس فقط "بدائيتها الشكلية"، بل "قوّتها الرمزيّة في تقويض المفاهيم الغربيّة عن الجمال، من خلال استعادة الطين كذاكرة حيّة، وكصوت نسائي خام من الجنوب".
الطين في فنون أفريقيا ليس مادّة طبيعيّة فحسب، بل زمنية، إنّها تختزن داخلها أثرا عضويّا لتاريخ طويل من التفاعل الإنساني مع الأرض
الطين في فنون أفريقيا ليس مادّة طبيعيّة فحسب، بل زمنية، إنّها تختزن داخلها أثرا عضويّا لتاريخ طويل من التفاعل الإنساني مع الأرض. وهذا البُعد الزمني - أي أنّ الطين ليس مجرّد "مادة" بل "حدث زماني" - يُصبح محوريّا في فهم أعمال كامارا. تماثيلها لا تُعرض على أنّها "أشياء" مكتملة، بل ككائنات تمرّ في دورة من التحوّل، حيث تشي خشونة الملمس وبدائيّة التشكيل بوجود دائم التكوّن، مثل الجسد الذي لا يستقرّ في هويّة واحدة، بل يتغيّر مع الزمن، الألم، الطقس، والعلاقات الاجتماعيّة.
كما أنّ الطين يحمل بعدا أنتروبولوجيا في أعمال كامارا: إنّه امتداد للمعيش اليومي للمرأة الأفريقيّة الريفيّة، التي تغرف الماء وتصنع الفخار وتبني البيت بيدها. فحين تستخدم كامارا الطين، فهي لا تحاكي التراث فحسب، بل تُجسّد اليد النسائية الصانعة والعارفة بملمس الأرض، المتّصلة بالطبيعة لا عبر التمثيل، بل عبر التكوين نفسه. الطين هنا يُصبح كتابة بلغة ما قبل اللغة: كتابة بالأثر، بالحركة، باللمس.
وفي سياق التحديات المعاصرة، فإنّ استخدام كامارا للطين - في زمن يهيمن عليه الفن الرقمي والمفاهيمي والتجهيز- هو أيضا فعل مقاومة جمالي. مقاومة لمحو التاريخ، لمركزة التجربة الغربيّة، ولإقصاء الجسد "الآخر". الطين، كجسد وروح، يعود ليعلن حضوره في الفن المعاصر بوصفه موقعا للمقاومة والشفاء، ولإعادة تخيّل الذات الأفريقيّة.
يمكن القول، أنّ أعمال كامارا تُقارب الطين باعتباره «لغة ما بعد الاستعمار»، لغة ترتبط بالجرح، وبالذاكرة، وبالقدرة السحرية للمرأة الأفريقيّة على تحويل الألم إلى شكل، والطقس إلى منحوتة.
لا تبدو المنحوتة في أعمالها مجرّد تشكيل فنيّ، بل تشتغل وسيط سرديا يُفعّل الذاكرة الأنثويّة من داخل بنية الطقس، ويعيد إنتاج الحكايات النسائية المهمّشة، لا بوصفها وثائق بل كخبرات جسديّة وروحيّة. هذا التداخل بين الطقس والسرد لا يحدث على مستوى التمثيل فحسب، بل يتجسّد من خلال علاقة الطين بالجسد الأنثوي كأداة حمل، كحاضن للألم والخصوبة، وكفضاء لتجذير الذاكرة الجماعية.
تشير الباحثة سيلفيا فورني إلى أنّ أعمال كامارا "لا تشتغل كنصوص رمزيّة مغلقة، بل كبنى مفتوحة تستدعي التفاعل الحسي والطقسي"، وهو ما يجعل من كلّ تمثال نقطة عبور بين الذات الجمعيّة والتاريخ غير المكتوب. هذا التفاعل الجسدي مع المنحوتة يجعلها تحمل بعدا شفهيّا حتى في صمتها، حيث تتجلّى الذواكر الأنثويّة لا عبر الحكاية وإنّما عبر الأثر، عبر العلامة، وعبر استدعاء الطقس بوصفه بنية تتكرّر في الجسد وفي المادّة.
يتناول فرانسيسكو بيامونتي في مقاله: "الفن والصدمة والروحانية والمال: أسطورة سيني أوا كامارا"، طبيعة هذه الأعمال بوصفها امتدادا لزمن جريح، يختزن أثر العنف الاستعماري والجندري داخل بنية الشكل. ويرى أنّ التماثيل الطينيّة التي تنتجها كامارا - بأطرافها المشوّهة، وبطونها المفتوحة، وأعينها الواسعة - ليست مجرّد رموز للمرأة، بل تمثّل "أجسادا أسطوريّة" تتقاطع فيها حكايات النساء مع طقوس النبذ أو الحماية. إنّها تماثيل أو شواهد، تُقيم على حدود المرئي والميتافيزيقي، وتحمل في تكوينها أثقال الصمت.
إنّ أعمال كامارا تُقارب الطين باعتباره «لغة ما بعد الاستعمار»، لغة ترتبط بالجرح، وبالذاكرة، وبالقدرة السحرية للمرأة الأفريقيّة على تحويل الألم إلى شكل، والطقس إلى منحوتة
كما يبرز دور الذاكرة الأنثويّة في طريقة استخدام كامارا للطين بوصفه مادّة عضويّة زمنيّة؛ فالطين في الثقافة السنغالية لا يُستخدم فقط للبناء أو الطهي، بل هو مادة تحوّلية تُفعّل في سياقات طقسيّة (كالولادة، الحداد، طرد الأرواح). وعندما توظّف كامارا هذا الطين في أعمالها، فإنّها تعيد تحميله بكلّ تلك الدلالات، ليصبح حاملاً لذاكرة الطقوس النسائية. كما أنّ الطين، بخلاف المواد الغربيّة الصلبة كالبرونز أو الرخام، يسمح بتشكيل هويّة متحوّلة، تتشقّق وتذوب وتُمحى، ويعاد تشكيلها، كما هو حال الذوات النسائية المقصيّة في المجتمعات التقليديّة.
ركّز المقال التحليلي الإيطالي المنشور في What's AfricArt سنة (2017) على المنحى السردي في أعمال كامارا، مشيرا إلى أنّ كلّ تمثال هو "قصّة غير مكتوبة"، تُقرأ من تشقّقات السطح، من الملامح المعتمة، من وضعيات الأجساد التي توحي بالانتظار، بالفقد، أو بالخضوع. هذه "القصص الصامتة" تعيد تشكيل فضاء تأويليّ جديد للفن الأفريقي المعاصر، لا يقوم على الحداثة البصريّة، بل على الارتجاع الطقسي لذاكرة الجسد.
من هذا كلّه، يتبيّن أنّ الذاكرة الأنثويّة في منجز كامارا ليست موضوعا، بل هي البنية ذاتها. الطقس ليس مجرّد خلفيّة، بل هو المنطق البنيوي للشكل، والسرد لا يُروى بالكلام، بل بالحفر، بالملمس، وبالفراغ. وعبر هذا التداخل العميق بين الطقس والسرد، تنتج كامارا منحوتة، تحفظ ما يُنسى، وتستدعي المرأة لا كمجرّد رمز، بل كصاحبة صوت، ولو من طين.
لا يمكن فهم تجربة سيني أوا كامارا خارج إطار الرفض البنيوي لهيمنة النماذج الغربيّة في تعريف الفن، سواء من حيث الشكل أو من حيث الوظيفة. فهي تنتمي إلى جيل من الفنانين الأفارقة الذين يعيدون مساءلة مفاهيم الجمال، والتقنية، والرمزية، من خلال الاشتغال بمادّة محليّة، ومنظور معرفي مناهض للحداثة الغربيّة في تجلّياتها الكولونيالية. في هذا السياق، لا تمثّل منحوتات كامارا مجرّد خروج عن التقاليد الأكاديميّة الأوروبيّة في النحت، بل تشكّل ضربا من المقاومة المفاهيميّة ضد اختزال الفن في بُعد جمالي أو سوقي.
إنّ أعمال كامارا تُقاوم ما يُسمّى بـ"مركزيّة الرؤية الغربيّة"؛ حيث تُنتج منحوتات تتعالى على التصنيف الغربي بين النحت والفن الطقسي أو بين الفن والتعبير الشعبي، وتشتغل في منطقة رماديّة لا تعترف بثنائية الفن واللافن. هذه المنطقة المفاهيميّة هي ما يجعل عملها أقرب إلى الفن المفاهيمي المعاصر، وإن لم يُصنَّف رسميّا ضمنه. بل إنّ التوتّر الذي تخلقه أعمالها - بين الشكل الخام والمضمون الطقسي، بين الجسد والرمز، بين العضوي والمفكّر فيه - يضعها في موقع نقدي من النظام المعرفي الذي شكّل تاريخ الفن الغربي ذاته.
مقاومة كامارا للشكل الغربي لا كرفض ساذج أو عاطفي، بل كموقف مفاهيمي يستند إلى تقاليد محليّة، إلى حفر في المادّة والذاكرة، وإلى تفكيك نقدي لمنظومة الفن بوصفها بنية سلطويّة بصريّة ومعرفيّة
من جهة أخرى، فإنّ انخراط كامارا في تقاليد محليّة - روحية ونسوية - لا يعني الانغلاق في خصوصيّة ضيّقة، بل يندرج في مشروع تفكيكي لمقولات الحداثة ذاتها. استخدام كامارا للطين ورفضها تلميعه أو صقله يتعارض جوهريًا مع منطق "التحسين الجمالي" (aesthetic refinement) الغربي، ويعيد الاعتبار للخشونة، للتشوّه، وللمادّة كحاملة للزمن وللندبة وللذاكرة. هنا يُفهم الشكل لا بوصفه مظهرا بل كموقع مقاومة، كاستراتيجية بصريّة وأخلاقيّة ضد التجريد النخبوي والفراغ المفاهيمي الذي يطبع كثيرا من الممارسات الفنيّة الغربيّة المعاصرة.
يتجلّى هذا الموقف أيضًا في استقلالية كامارا عن "السوق الفنيّة" العالميّة. فهي لا تنتج أعمالها على مقاس المعارض التجاريّة أو وفق متطلّبات الجامعيّين الغربيّين. كامارا "ترفض التكيّف مع أذواق الجمهور الغربي، وتتمسّك بأرضها، وبمادتها، وبلغتها الجماليّة التي لا تُترجم". هذا التموقع المناوئ للامتثال يعكس فكرا مفاهيميّا بالمعنى العميق: أي أنّ الفن ليس سلعة، بل فعل مقاومة رمزيّة ضد الاستهلاك والهيمنة.
وإذا نظرنا إلى المسافة التي تضعها كامارا بين عملها وبين منطق التمثيل الواقعي، يمكن أن نفهم كيف تنتج جمالا من نوع آخر: جمالا مفكّكا، صادما، مُخلّا بتناسق الجسد، لكنّه مشبع بالحضور، بالمعنى، وبما تسميه فورني "التشويش الرمزي" (symbolic disturbance). وهذا ما يربط أعمالها بالفن المفاهيمي، لا من حيث الشكل وإنّما من حيث البنية الفلسفيّة للفعل الفني: أي تقويض المعايير، وتفجير اللغة البصريّة، واستدعاء أثر يتجاوز الإدراك المباشر.
من خلال كل ذلك، تتبدّى مقاومة كامارا للشكل الغربي لا كرفض ساذج أو عاطفي، بل كموقف مفاهيمي يستند إلى تقاليد محليّة، إلى حفر في المادّة والذاكرة، وإلى تفكيك نقدي لمنظومة الفن بوصفها بنية سلطويّة بصريّة ومعرفيّة. بذلك، لا تندرج كامارا داخل الفن المفاهيمي الغربي، لكنها تقدّم مفهوما أفريقيّا مستقلًا للفن المفاهيمي، مؤسَّس على الجسد، الطقس، والمقاومة.
تُجسّد تجربة سيني أوا كامارا نموذجا فنيّا فريدا تتداخل فيه الأسطورة الذاتيّة بالذاكرة الجماعيّة، والطقس الروحي بالتعبير الجسدي، في سرديّة نسويّة تنحت من الطين ذاكرة منسيّة وهويّة مقاومة. لا تشتغل على المجسّم بوصفه شكلا مكتملا، بل على التحوّل الجمالي للجسد والطين، حيث يُصبح العقم ولادة، والجرح مادّة خلق. في مواجهة الهيمنة المفاهيميّة للفن المعاصر والتصنيفات الكولونيالية للفن الأفريقي، تُعيد كامارا الاعتبار للمادّة التقليديّة وللجسد الأنثوي كأرشيف طقسي يُنتج المعنى من الهامش. بذلك، تمثّل أعمالها خطابا جماليّا مضادّا يُعيد التفكير في الفن من منظور نسوي أفريقي، يجعل من الطين لغة سرديّة وروحيّة تُقاوم المحو وتعيد تخيّل الذات والهامش والأنوثة خارج أنساق الاستشراق والتسليع الثقافي.