الثلاثاء 18 نوفمبر 2025
يستكشف فيلم ستيفن سودربيرغ "ترافيك" (Traffic) ببراعة شبكة عصابات المخدرات الأمريكية المكسيكية المعقدة، مسلطا الضوء على مدى تشابك هذه المنظمات مع مختلف جوانب المجتمع. يكشف الفيلم عن نظام معقد تتداخل فيه المصالح والولاءات والأدوار بين المسؤولين الحكوميين، ومسؤولي إنفاذ القانون، والمتاجرين بالمخدرات، والمواطنين العاديين. كما يبرز الفيلم كيف تؤثر الجريمة المنظمة على السياسة والاقتصاد والحياة الشخصية. واللافت للنظر أن هذه البنية المنظمة ليست حكرا على عالم المخدرات، بل يمكن تطبيقها على أشكال مختلفة من النظم السياسية، ومن بينها سياسة صوماليلاند التي تستند بدرجة كبيرة على توازنات عشائرية تعيد إنتاج نفسها بشكل دوري.
أعلنت صوماليلاند استقلالها عام 1991، وقد صارت بالنسبة للكثيرين قصة نجاح نادرة في محيط مضطرب. يرتكز هذا لاستقرار النسبي على ديناميكيات نفوذ عشائرية معقدة، حيث يلعب الولاء والانتماء العشائري دوراً محورياً في إنتاج السلطة وتوزيعها، بعيداً عن منطق الدولة الحديثة أو المؤسسات المستقلة.
يعتمد النظام السياسي في صوماليلاند على بنية اجتماعية تقليدية، تعاد فيها هندسة التحالفات بين العشائر والنخب بشكل دوري. هذه البنية، التي تشكل ما يمكن تسميته بـكارتيلات سياسية، تتحكم فعليا في مفاصل القرار من خلال سيطرتها على التعيينات الحكومية، عقود الدولة، موارد المؤسسات، وحتى توزيع المناصب داخل الأحزاب السياسية. النتيجة هي نظام محكوم بمنطق الغنيمة والتقاسم العشائري، وليس بمنطق الكفاءة أو البرامج السياسية.
لفهم هذا النموذج السياسي، يمكن الاستعانة بمفهوم الدولة الزبائنية (Clientelist State)، حيث توزع الموارد والخدمات على أساس الولاء الشخصي أو العشائري لا على أساس المواطنة أو الحقوق. ويعتبر هذا أحد أبرز معالم الأنظمة التي تعتمد على ترتيبات غير رسمية لتسيير شؤون الحكم، وهي ترتيبات تقوم مقام المؤسسات الرسمية حين تضعف أو تنعدم.
يرتكز هذا لاستقرار النسبي على ديناميكيات نفوذ عشائرية معقدة، حيث يلعب الولاء والانتماء العشائري دوراً محورياً في إنتاج السلطة وتوزيعها، بعيداً عن منطق الدولة الحديثة أو المؤسسات المستقلة
يحدث تبادل دوري للسلطة بين العشائر، حيث تُعاد هيكلة النفوذ مع كل دورة انتخابية دون تغيير حقيقي في جوهر النظام. فكل مرة تصل فيها عشيرة إلى الحكم، تقوم بتعيين أبنائها في المناصب الحساسة، وإعادة توجيه موارد الدولة نحو شبكاتها، بما يعزز بنية زبائنية مغلقة، تستمر في إعادة إنتاج نفسها. هذه الآلية تُنتج حالة من الثبات الظاهري، لكنها في جوهرها تعمّق هشاشة الدولة، وتحاصر أي محاولة إصلاح جادة.
في فيلم "ترافيك"، يجد سياسي أمريكي مكلف بمكافحة تعاطي المخدرات ابنته غارقة في الإدمان، كاشفا عن العيوب والتناقضات العميقة داخل النظام المصمم للحماية والخدمة. تبرز هذه المأساة الشخصية كيف أن الجهود المؤسسية غالبا ما تفشل، مما يسمح ببقاء نقاط الضعف تحت السطح. وبالمثل، في صوماليلاند، تعكس ترتيبات تقاسم السلطة بين العشائر نسيجا اجتماعيا معقدا متجذرا في التقاليد والاعتماد المتبادل. تعمل هذه التحالفات العشائرية كميزان دقيق، يوازن بين النفوذ والسلطة، لكنها تكشف أيضًا عن التوترات والانقسامات الكامنة.
في غياب رقابة فعالة أو تشريعات مضادة للاحتكار السياسي والاقتصادي، تتحكم عائلات تجارية مرتبطة بالسياسيين في قطاعات حيوية، مثل: الاتصالات والبنوك والخدمات اللوجستية، ومؤسسات على غرار "Telesom" و"Dahabshiil" لا تعمل باعتبارها مجرد شركات ربحية، بل أذرعا لنفوذ سياسي واقتصادي، تمتلك أدوات التأثير على القرار السياسي وتمويل الحملات الانتخابية، والسيطرة على وسائل الإعلام، وصناعة الرأي العام.
كل مرة تصل فيها عشيرة إلى الحكم، تقوم بتعيين أبنائها في المناصب الحساسة، وإعادة توجيه موارد الدولة نحو شبكاتها، بما يعزز بنية زبائنية مغلقة، تستمر في إعادة إنتاج نفسها
حتى الانتخابات، التي يُفترض أن تكون أداة تداول سلمي للسلطة، لا تخرج عن هذا الإطار العشائري. فالناخب يصوّت بناءً على انتمائه القبلي وليس برنامجه السياسي، والحملة الانتخابية تمثّل القبيلة لا الفرد. بذلك تتحوّل الانتخابات من آلية ديمقراطية إلى عملية إعادة توزيع النفوذ بين الكتل العشائرية، وتفقد مضمونها السياسي.
تعكس تجربة صوماليلاند نظام حكم قائم على ترتيبات غير رسمية مثل التحالفات العشائرية، وهو ما يمنح استقرارا مؤقتا لكنه هش، ويمنع بناء مؤسسات قوية وفاعلة. فالسلطة تظل رهينة اتفاقات غير مكتوبة، قائمة على المحسوبية والقرابة، ما يجعل النظام غير قادر على إنتاج آليات نقد ذاتي أو ديناميات تغيير مستقلة عن إرادة النخب المسيطرة
رغم المؤشرات الديمقراطية الشكلية، إلا أن العملية السياسية تظل محكومة باعتبارات عشائرية تقليدية، ما يفرض حدوداً على فاعلية الإصلاح المؤسسي. لا توجد بنية دولة مدنية قادرة على استيعاب التعدد، ولا نظام حزبي يعكس انقسامات سياسية حقيقية. النتيجة: مؤسسات ضعيفة، ونخبة مغلقة، وعجز عن إنتاج مشروع وطني يتجاوز البنى العشائرية.
إن نجاح صوماليلاند النسبي يعكس أهمية التماسك الاجتماعي، لكنه يظل معرضا للخطر ما لم يعد تعريف العقد السياسي على أسس مدنية حديثة تضمن تمثيلا أوسع، وتفتح الطريق أمام إصلاحات تدريجية
باختصار، لا يمكن فصل الاستقرار عن المؤسسات. إن نجاح صوماليلاند النسبي يعكس أهمية التماسك الاجتماعي، لكنه يظل معرضا للخطر ما لم يعد تعريف العقد السياسي على أسس مدنية حديثة تضمن تمثيلا أوسع، وتفتح الطريق أمام إصلاحات تدريجية قائمة على استقلالية المؤسسات، وتكافؤ الفرص، والرقابة الفعالة.
في النهاية، ما تبدو عليه صوماليلاند كمنطقة مستقرة ليس سوى غلافا يغطي نظاما ضعيفا يقوم على توازنات قبلية لا تتحمل الأزمات. استمرار هذا النموذج يعني تكرار نفس النخبة، ونفس المشاكل، ونفس المعوقات التي تعترض تقدم الدولة. بدون تفكيك الأطر الزبائنية التي تربط الاقتصاد بالسلطة، وبلا كسر احتكار القبائل للسياسة، ستظل صوماليلاند عالقة في دورة مفرغة من الاستقرار الهش دون مؤسسات، وانتخابات تفتقر للديمقراطية، وتنمية غير عادلة.
التحدي اليوم هو ليس في الحفاظ على الوضع الحالي، بل في تخطيه نحو دولة مدنية تعيد تعريف السلطة، وتضع حدا لهيمنتها، وتفتح الأفق نحو فكرة وطنية شاملة تتخطى القبيلة باتجاه المواطنة.