الأربعاء 19 نوفمبر 2025
عادت مسألة صوماليلاند إلى واجهة النقاش في واشنطن خلال الأسابيع الأخيرة، بين اندفاعةٍ جمهورية في الكونغرس لرفع كلفة تجاهل الملف، وخطابٍ رئاسي متقلب يتهكّم على الصوماليين وعلى إلهان عمر. في هذا المشهد المربك، تبدو مهمة هرجيسا واضحة وملحّة: صياغة رواية سياسية متماسكة تطلب اعترافًا يليق بمسار سيادي طويل، لا صفقة عابرة تُمسّ بها فلسطين. وهنا المطلوب ببساطة هو ترتيب الأولويات: كيف ننفتح على واشنطن من دون أن يتحوّل ملف صوماليلاند إلى ورقة في مقايضات البحر الأحمر أو إلى غطاءٍ لمشاريع تهجيرٍ قسري مقنّعة؟
تجلّت ملامح اللحظة الأميركية في إشارات فظّة صادرة عن الرئيس دونالد ترامب؛ إذ سخر علنًا من النائبة الديمقراطية ذات الأصول الصومالية إلهان عمر، وزعم أنه اقترح على الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود "إعادتها" معه. وقبل أيام فقط، تساءل ساخرًا عن وجود رئيس للصومال أصلًا، وأعاد ترويج افتراءات يمينية متطرفة عن النائبة.
في المقابل، بالغت بعض وسائل الإعلام في قراءة الحراك الدبلوماسي؛ إذ تحدّثت عن زيارة وشيكة لرئيس صوماليلاند، عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»، إلى واشنطن نهاية سبتمبر/أيلول الجاري، قبل أن يتضح لاحقًا أن رحلته كانت إلى الإمارات. هذا التصحيح لا يغيّر الجوهر: الملف حاضر بالفعل في دوائر القرار الأميركية، ومراكز الأبحاث تتسابق لتنظيم نقاشات حول الاعتراف، وأمن البحر الأحمر، ودور ميناء بربرة.
فعلى المستوى التشريعي، تسارعت وتيرة التحرك داخل الكونغرس. في 12 يونيو/حزيران 2025، قدّم نواب جمهوريون مشروع قانون بعنوان «جمهورية صوماليلاند للاستقلال»، يطعن في مطالب مقديشو بالسيادة، ويفتح الباب أمام اعتراف أميركي محتمل. وبعد أسابيع، وجّه السيناتور تيد كروز رسالة إلى البيت الأبيض يدعو فيها صراحةً إلى الاعتراف، مستندًا إلى موقع بربرة على خليج عدن، وانفتاح هرجيسا على تايوان في سياق التنافس مع الصين. بالتوازي، دفع النائبان كريس سميث وجون مولينار نحو التمييز بين صوماليلاند والصومال في إرشادات السفر. بعد ذلك أقرت لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب، في 19 سبتمبر/أيلول، إعادة هيكلةٍ لوزارة الخارجية تتضمن فتح مكتب دبلوماسي في هرجيسا، واعتماد تفريق قنصلي بين المسارين، بما يراكم اعترافًا عمليًا يسبق الاعتراف القانوني.
هذه ليست قصة «انفصال» طارئ، بل «استعادة دولة» قائمة سلفًا؛ وهو الإطار القانوني والسياسي الذي ينبغي عرضه للخارج
من الواضح أن سؤال "كيف سيحصل الاعتراف؟" أهم من سؤال "هل سيحصل؟". فالاعتراف قد يعزّز السيادة ويقوّي مؤسسات الدولة، لكنه قد ينقلب إلى صفقة عابرة تُبادل موقعًا على الممرات البحرية بمواقف في ملفات أخرى. لذلك يلزم موقف أخلاقي واضح لا لبس فيه: لا اعتراف على حساب فلسطين، ولا مشاركة -مباشرة أو غير مباشرة- في مشاريع تُسوَّق كـ«هجرة طوعية».
في الآونة الأخيرة، طفت تسريبات إسرائيلية وغربية تضع صوماليلاند ضمن دول جرى استطلاعها لاستقبال فلسطينيين من غزة. نفى وزير خارجية صوماليلاند وجود أي محادثات "مع أي جهة بشأن الفلسطينيين"، لكن هذا النفي ينبغي أن يتحوّل إلى سياسة ثابتة: لا ترتيبات تمسّ الحقوق الفلسطينية، ورفض قاطع لأي نقل قسري، فالصمت في هذه القضايا يضعف عدالة قضية صوماليلاند.
يدعم التاريخ هذا الخيار، فصوماليلاند نالت استقلالها في 26 يونيو/حزيران 1960، ثم دخلت بعد خمسة أيام وحدة مع الصومال الإيطالي انتهت إلى فشل سياسي ومؤسسي عميق. عام 1991 أعلنت هرجيسا استعادة السيادة، وبدأت بناء مؤسساتها، مع انتخابات دورية وتداول سلمي للسلطة نادرين في المنطقة. فالتقارير الدولية -منها «فريدوم هاوس» مثلا- تشير إلى انفتاح سياسي نسبي مقارنة بجوار مضطرب. هذه ليست قصة «انفصال» طارئ، بل «استعادة دولة» قائمة سلفًا؛ وهو الإطار القانوني والسياسي الذي ينبغي عرضه للخارج.
وبالتالي، فالشرعية لا تُنتزع من واشنطن وحدها. تقرير بعثة الاتحاد الأفريقي لتقصّي الحقائق عام 2005 تحدث عن «خصوصية حالة صوماليلاند»، وهذه نقطة يجب إحياؤها بذكاء في أديس أبابا وفي العواصم الأفريقية المؤثرة. المطلوب هو تفكيك عقدة «الحدود الموروثة» بالتذكير بأن صوماليلاند لم تنفصل عن كيان موحّد، بقدر ما استعادت وضعًا قانونيًا سابقًا بعد تجربة وحدة فاشلة، وأن مؤسساتها تعمل منذ عقود بكفاءة نسبية.
تدعم المؤشرات البريطانية هذا المسار؛ إذ تلمّح لندن مرارًا إلى أنها ستدرس الاعتراف بجدية إذا بادرت دولة أفريقية أولًا. هذا يضع «البوابة الأفريقية» في قلب الاستراتيجية: بناء اعتراف متدرّج ومستدام يبدأ من القارة، ويمنح أي تأييدٍ غربي لاحق أساسًا أقوى وأطول عمرًا.
لا شك أن المشهد الإقليمي شديد التعقيد. فتركيا ومصر تعارضان استقلال صوماليلاند بقوة، ارتباطًا بحسابات البحر الأحمر وتوازنات القرن الأفريقي. إثيوبيا تتريث، موازِنةً بين حاجتها البرية إلى منفذ بحري وحساسية علاقاتها مع الجوار. أما الإمارات فشريك اقتصادي نشط، لكنها تميل إلى براغماتية مباشرة تجعل العائد السريع معيارها الأول.
عندما تتبنّى هرجيسا موقفًا أخلاقيًا واضحًا حيال فلسطين، فهي لا تحصد إشادات معنوية وحسب، بل تُحصّن الجبهة الداخلية، وتضعف حجج الخصوم
في الداخل، الانتقال الأخير للسلطة انتهى إلى مسار سلمي نادر في الإقليم، مع أن الإدارة الجديدة ورثت بيروقراطية مثقلة وأعباء دولة متشعبة. والانفتاح الخارجي الذي قادته هرجيسا عبر زيارات إلى جيبوتي وكينيا والإمارات وقطر يعكس رغبة مفهومة في ترسيخ الحضور الإقليمي، لكنه يحتاج إطارًا أخلاقيًا وسياديًا يُعرِّف بدقة حدود التعاون وحدود المقايضة. المعيار بسيط: ما يعزّز قدرة صوماليلاند على صنع قرارها يُرحَّب به، وما ينتقص من هذه القدرة يُرفَض مهما كانت الإغراءات.
في واشنطن تحديدًا، تبدو أمام هرجيسا ثلاثة مسارات عملية يمكن السير فيها بالتوازي. أولها مسار التراكم المؤسسي. الدفع الجاد لافتتاح مكتب اتصال أميركي في هرجيسا، وترسيخ التمييز الإداري بين صوماليلاند والصومال في التحذيرات القنصلية، وبناء تكتل عابر للحزبين داخل الكونغرس يراكم خطوات تشريعية صغيرة ومتتابعة، على أن تُسند هذه الجهود بمجموعة صداقة رسمية تتابع الملف بصورة دورية، وتُبقيه حاضرًا على أجندة اللجان المختصة.
ويرتبط المسار الثاني بكيفية توظيف التعاون الأمني، فأي شراكة في هذا المجال يجب أن تُقرن بمعايير واضحة للمساءلة واحترام القانون، وبقدرٍ عالٍ من الشفافية يمنع تحويل صوماليلاند إلى ساحة صفقات تفوق قدرة الدولة على الاحتمال. الهدف هو أن يخدم التعاون الأمني بناء المؤسسات واحترافها، لا أن يخلق التزامات مبهمة تُستَخدم لاحقًا للضغط أو الابتزاز.
أما المسار الثالث فيتمثل في توسيع أدوات القوة الناعمة، وذلك من بالاستثمار في برامج تدريب خفر السواحل والرقابة البحرية، وتوسيع المنح الجامعية والاتفاقات التعليمية والصحية، وربط مشاريع البنية التحتية بإصلاحات الحكم المحلي ومكافحة الفساد. بهذا المعنى، لا يغدو الحضور في واشنطن مجرد علاقات عامة، بل رافعةً تنموية تُثبت جدوى الاعتراف، وتحوّل الشراكات إلى أثر مؤسسي طويل الأمد.
الانفتاح الخارجي الذي قادته هرجيسا عبر زيارات إلى جيبوتي وكينيا والإمارات وقطر يعكس رغبة مفهومة في ترسيخ الحضور الإقليمي، لكنه يحتاج إطارًا أخلاقيًا وسياديًا يُعرِّف بدقة حدود التعاون وحدود المقايضة
في الداخل، يحتاج القرار السياسي إلى سندٍ شعبي واضح وصلب. برلمان منتخب يعمل بكفاءة، ونقاش عام حول مبادئ السياسة الخارجية، وخطوط حمراء مكتوبة تجاه فلسطين -كلها عناصر تُقنع المجتمع أولًا، وتمنح المفاوض مساحة أوسع وثقة أكبر. قد يقول أنصار «الواقعية» إن العالم تحكمه صفقات القوة لا قيمٌ مجرّدة؛ لكن التجربة تُظهر أن القيم، حين تُدمَج في سردية دولة متماسكة، تتحوّل إلى مصلحة صلبة أيضًا. وعندما تتبنّى هرجيسا موقفًا أخلاقيًا واضحًا حيال فلسطين، فهي لا تحصد إشادات معنوية وحسب، بل تُحصّن الجبهة الداخلية، وتضعف حجج الخصوم، مثل قصة زحف حركة الشباب من الجنوب، التي يروج لها النخب الجنوبية.
من الجدير بالذكر أيضا، أنه لا تصح مقارنة صوماليلاند بجنوب السودان أو إريتريا؛ فهاتان التجربتان خرجتا من حروبٍ أهليةٍ طاحنة إلى دول هشّة. قصة صوماليلاند مختلفة جذريًا، فقد نالت استقلالًا معترفًا به دوليًا عام 1960، ثم دخلت وحدةً ثبت فشلها، ولم تُمنح مقعدًا في الأمم المتحدة رغم اعتراف أكثر من ثلاثين دولة بها آنذاك. ومنذ 1991، بنت مؤسساتٍ تعمل بإمكانات محدودة وسجلٍّ أمني أفضل من محيطها.
يبقى ترامب عاملًا لا يمكن تجاهله. بيد أن النظام الدولي لا يبدأ به ولا ينتهي عنده، لكنه يمتلك القدرة على تحويل أي ملف إلى عنوان صاخب. وإذا قالت إدارته إنها «تدرس» الاعتراف، فالمطلوب هو تحويل هذا الباب المفتوح إلى مسار منضبط يولد نتائج قابلة للاستمرار في ما بعد ترامب.
قصارى القول، على الرئيس عبد الرحمن «عرّو» وفريقه أن يتوجّهوا إلى واشنطن بهدف واضح واحد: انتزاع اعتراف يرسّخ ما بُني داخليًا، لا اعترافًا مشروطًا بصفقات تنتقص من الهوية السياسية والأخلاقية. يجب رسم مسافة أخلاقية قاطعة من أي مشروع يمسّ حقوق الفلسطينيين، لأن ذلك شرط لسلامة الموقف الوطني. عندئذ يصبح الاعتراف تتويجًا لمسار محترم، لا خاتمة صفقة انتخابية ولا غطاءً لترتيبات ترحيل. قد يبدو الطريق الأطول أكثر كلفة، لكنه وحده يفضي إلى معنى يليق بصوماليلاند وإلى شراكات تقوم على الاحترام المتبادل.