الأربعاء 19 نوفمبر 2025
ليس غريبًا أن تتحول صوماليلاند إلى بؤرة اهتمام العالم – من واشنطن إلى بكين – بعد أكثر من ثلاثة عقود من النضال لبناء دولة مستقرة وسط منطقة مضطربة. فمنذ إعلان استقلالها عام 1991، عملت صوماليلاند على إعادة بناء مؤسساتها من الصفر، وتنظيم مؤتمرات مصالحة وطنية بعيدًا عن أي إملاءات خارجية، وتشييد نموذج ديمقراطي فريد يُشار إليه اليوم بوصفه أحد أنجح التجارب السياسية في أفريقيا.
لقد أثبتت صوماليلاند أنها ليست مجرد "إقليم انفصالي" كما يُصوَّر أحيانًا، بل شريكا فعّالا في محاربة الإرهاب والقرصنة، وواحة استقرار في منطقة القرن الأفريقي التي تمزقها النزاعات. إجراء استفتاء شعبي ثم ثمانية انتخابات ديمقراطية متتالية وتداول ستة رؤساء على السلطة، يعكس نضجًا سياسيًا قلَّ نظيره في القارة. كل هذا يجعل من الطبيعي أن يلتفت الرئيس الأميركي دونالد ترامب وغيره من القادة إلى هذا الكيان الصاعد، لا باعتباره مشكلة بل كفرصة.
المفارقة أن الدول التي تتشارك مع شعب صوماليلاند في العقيدة والثقافة والتاريخ ما تزال مصرة على عدم إنصاف هذا الشعب الذي استمات لمدة ثلاثة عقود ولا يزال، من أجل إرادته التي عانى من أجلها ما عانى، وأنجز فيها ما أنجز، ولله درّه.
السياسة الأميركية، ومعها المجتمع الدولي، تبنّت لعقود خيار "الصومال الواحد". وقد رُصدت مليارات الدولارات لدعم الدولة المركزية في مقديشو أملًا في إعادة بنائها. لكن هذه المقاربة فشلت في خلق حكومة موحدة وقادرة، بينما ظلت صوماليلاند تتقدم بخطوات ثابتة. لهذا لم يكن غريبًا أن تعيد واشنطن التفكير في مقاربتها، إذ إن اختبار النموذج البديل – الاعتراف بصوماليلاند – لم يعد مجرد فكرة، بل خيارًا واقعيًا تفرضه الحقائق على الأرض.
إضفاء الشرعية على كيان مستقر وديمقراطي، ويملك سيرة ذاتية مشرفة، يفتح الباب لتعزيز الاستقرار في القرن الأفريقي بدلًا من تقويضه
وللتذكير، فإن العديد من الدول المؤثرة على الصعيد العالمي، مثل: أميركا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي وتركيا، أو على صعيد دول الجوار كإثيوبيا وكينيا وجيبوتي، تتعامل مباشرة مع صوماليلاند سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا منذ سنوات، حتى وإن لم تعلن الاعتراف بها رسميًا. الاعتراف إذن ليس قطيعة مع الماضي، بل استكمال لمسار قائم بالفعل.
يُحاجج البعض، مثل هذا الصحفي، بأن أحداث لاسعانود عامي 2022 و2023 تكشف هشاشة الكيان الصوماليلاندي، ويتخيلون نماذج سقطت في وحل الاعتراف لأسباب جوهرية. لكن هذا الطرح يتجاهل حقائق أعمق. فما يميز صوماليلاند منذ ثلاثة عقود هو أنها استطاعت بناء سلام متجذر من الداخل، عبر مؤتمرات مصالحة عشائرية واسعة منذ أوائل التسعينيات، من دون رعاية أو فرض خارجي. هذا المسار أنتج نظامًا سياسيًا يجمع بين البنى التقليدية القبلية والمؤسسات الحديثة، وهو ما مكّن المجتمع من تجاوز أزمات أكبر بكثير مما شهدته دول عديدة لم يُشكك يومًا في شرعيتها.
ما يميز صوماليلاند منذ ثلاثة عقود هو أنها استطاعت بناء سلام متجذر من الداخل، عبر مؤتمرات مصالحة عشائرية واسعة منذ أوائل التسعينيات، من دون رعاية أو فرض خارجي
لقد أثبتت صوماليلاند إلى حد كبير قدرتها على إدارة التنوع لا عبر القمع أو العنف، بل عبر آليات المشاركة السياسية. ثماني انتخابات رئاسية وبرلمانية، تداول ستة رؤساء، وصحافة نشطة نسبيًا، كلها مؤشرات على مؤسسات ديمقراطية راسخة لم تتوفر في أي دولة أخرى بالقرن الأفريقي. في المقابل، غرقت مقديشو في حروب أهلية وتنازع فصائل، بينما ظلت هرجيسا تمثل نموذجًا للاستقرار السياسي.
كما أن علاقة الثقة بين المواطن والدولة برزت بوضوح، فبرغم غياب الاعتراف الدولي وموارد الدولة المحدودة، نجحت الحكومات المتعاقبة في إرساء العملية الديمقراطية حيث يختار المجتمع من يمثلهم في انتخابات عامة ودورية، وساهمت مع جهود شعبها في إرساء الأمن وتوفيره رغم العقبات والأزمات، ونجحت نسبيًا في مساعيها لتقديم بعض الخدمات الأساسية، وإرساء نظام قضائي متوازن. هذا ما جعل المجتمع الدولي يتعامل مع صوماليلاند كشريك مسؤول، حتى في غياب الاعتراف الرسمي.
بناءً عليه، فإن تصوير الأزمات الموضعية كتهديد للكيان من شأنه أن يكون كسحابة تسعى لحجب نور الشمس ومصيرها معلوم، فالاستقرار في صوماليلاند هو نتاج بنية اجتماعية ومؤسساتية متينة صمدت لثلاثين عامًا، وهو استقرار أعمق وأطول باعًا وعمراً من معظم تجارب دول الجوار، ومثل ما يقولون: "على وضح النقا".
من منظور السياسة الأميركية، الاعتراف بصوماليلاند لا يعني التخلي عن "الصومال الموحد" بقدر ما يعني الاستثمار في شريك أثبت جدارته. الولايات المتحدة تخوض منافسة محتدمة مع الصين وروسيا في القرن الأفريقي، ومنطقة البحر الأحمر تحديدًا. وجود شريك موثوق ومستقر مثل صوماليلاند – يتمتع بموقع استراتيجي قبالة أحد أهم الممرات البحرية العالمية – يمثل رصيدًا استراتيجيًا يصعب تجاهله.
الاستقرار في صوماليلاند هو نتاج بنية اجتماعية ومؤسساتية متينة صمدت لثلاثين عامًا، وهو استقرار أعمق وأطول باعًا وعمراً من معظم تجارب دول الجوار
إن اختزال الموقف الأميركي في "صفقة آنية" لتوطين نازحين أو مقايضة ظرفية، كما حاولت بعض المقالات تصويره، هو "محاولة لغض البصر من دون أجر"، حيث إن العلاقة بين دول العالم، ولاسيما بين واشنطن وصوماليلاند، ممتدة منذ عقود. الجديد هو أن الحقائق على أرض الواقع باتت تدفع نحو الاعتراف الرسمي، بعد أن ثبت أن سياسة "رهان مقديشو" لم تحقق النتائج المرجوة، وهذا ما يتردد بصريح العبارة على لسان الأميركيين أنفسهم.
الاعتراف الدولي بصوماليلاند قد يُثير مخاوف لدى بعض الأطراف، خصوصًا الحكومة الفيدرالية في مقديشو أو بعض الدول الإقليمية التي ترى في أي تغيير تهديدًا لتوازناتها. لكن النظر إلى الاعتراف من زاوية الخطر وحده تجاهل للفرصة التاريخية الكامنة فيه. فإضفاء الشرعية على كيان مستقر وديمقراطي، ويملك سيرة ذاتية مشرفة يفتح الباب لتعزيز الاستقرار في القرن الأفريقي بدلًا من تقويضه. على العكس، فإبقاء صوماليلاند في حالة "اللا اعتراف"، أو كما أُطلق عليها "الاعتكاف"، يساهم في إطالة أمد التوترات الداخلية ويغذي شعورًا بالغبن قد تستفيد منه قوى خارجية أو جماعات متطرفة تلقي بالمنطقة في غياهب الانحراف.
إن تصوير الاعتراف بصوماليلاند كـ"صفقة مشبوهة" لا يصمد أمام الواقع. فبعد أكثر من ثلاثين عامًا من الاستثمار في السلام الداخلي والديمقراطية والاستقرار، بات الاعتراف الدولي واجبًا سياسيًا لا بد منه، بل وأخلاقيًا. ما تحتاجه المنطقة ليس مزيدًا من الوهم حول "الصومال الواحد" وإجبار جمهورية صوماليلاند على مواصلة نهج "الاعتكاف"، بل شراكة واقعية تتضمن "الاعتراف" بكيانٍ أثبت قدرته على تحمل المسؤولية.