الاثنين 17 فبراير 2025
انتقل مصطلح "الجنوب العالمي" الأكثر استخداما في السنوات الأخيرة، من توظيفه في التحليلات الإعلامية وتصريحات الفاعلين الدوليين، إلى ردهات القمم والمنتديات الدولية، قبل أن يتم تطويره ليتجاوز حدود التعليقات السياسية إلى بناء السياسات والاستراتيجيات. كما ارتقى إلى فلسفة خاصة لمقاربة عدد من الملفات الدولية الشائكة، فتصاعدت "أصوات جنوبية" تدافع عن خيارات بديلة عن السياسات الغربية الحالية.
تعقدت الرهانات حول دور هذه الأصوات في سياق عالمي مضطرب، وحديث عن صعود القوى الجنوبية في إطار الصراع من أجل معركة إعادة ترتيب المشهد الدولي، ونيل ود أصوات الجنوب العالمي، فتقاطع التنافس بين القوى الدولية والقوى الصاعدة من أجل كسب العقول والقلوب في دعم الدول الجنوبية الحاسمة في قيادة العالم.
يثير مفهوم "الجنوب العالمي" حساسيات سياسية ونقاشات فكرية، وتتعقد محاورها مع دفاع بعض القوى عنه في سياق إعادة ترتيب المشهد العالمي. كما يتقاطع مع إشكاليات تهم صعوبة تحديده بدقة، ناهيك عن استغلال حمولاته في المنتديات العالمية.
لا يوجد تعريف محدد للمفهوم، فلا يرتبط بتقسيم جغرافي، وإن كانت بداياته محددة بخط براندات التقليدي الفاصل بين دول للشمال والنصف الجنوبي للكرة، فهو يشمل دولا تُحسب جغرافيا على الشمال، مثل: روسيا والصين. إنه مفهوم سياسي، ارتبط بالدول المستقلة بالرغم من الاختلافات القائمة بينهما، كما يتأسس على مخرجات الملتقيات والمنتديات التي تدافع عن إعادة ترتيب المشهد العالمي تحضيرا "لعالم ما بعد الغرب".
تاريخيا، انعقد مؤتمر حركة عدم الانحياز في أتون الحرب الباردة مؤسسا لمبادئ باندونغ العشرة، التي أطرت موقع دول الجنوب من الاصطفاف لجهة المعسكرين الشرقي أو الغربي، فحاولت إعادة هيكلة النظام العالمي برؤى قانونية وفلسفة التعاون مع عدم الانحياز الى أحدهم. وساهمت لقاءات قادات الحركة في بروز فكرة حياد العالم الثالث، ولعبت في السبعينات دورا محوريا في الدفاع عن تحرر الجنوب العالمي وازدهاره.
أضحى مصطلح الجنوب العالمي من المفاهيم الكثيرة الاستعمال، فكانت الأمم المتحدة حلبته، وكان المستوى الاقتصادي رقعته الأساسية، فأقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارين، في ماي/أيار 1974، يهمان إعلان وبرنامج العمل بشأن إقامة نظام اقتصادي دولي جديد، يتأسسان على فلسفة إعادة بناء نظام اقتصادي جديد على أسس العدالة والتنمية.
انتهت الحرب البارة بتحدياتها، فبرزت القوى الغربية، ومقابلها ما يسمى "بقية العالم"، وبقيت حدة الهوة بين العالمين واضحة المعالم، فحافظت حركة عدم الانحياز (تضم حاليا 120 دولة) على نقاشاتها والدفاع عن خيارات دول الجنوب، مع تغيير في الأولويات والنقاشات. تكافح إلى جانبها مجموعة ال 77 "G-77" (تضم حاليا 134 دولة)، بمساعيها الجماعية من أجل الدفاع عن مصالح الدول النامية، في إطار ترسيخ معالم التعاون بين بلدان الجنوب من أجل التنمية، وتطوير قدراتها التفاوضية للدفاع عن مصالحها بشأن القضايا الاقتصادية والتنموية.
لا تزال الرهانات على إقامة نظام اقتصادي جديد، ينطلق من محددات اقتصادية تؤكد مكانة الجنوب العالمي، بمساهمته بما يناهز 39٪ من الناتج المحلي الإجمالي، تعززه توقعات أن تتصدر ثلاثة اقتصاديات جنوبية (الصين والهند وإندونيسيا) المشهد العالمي بحلول عام 2030. كل ذلك يؤهلها لقيادة هذا التوجه، وتطويره محددا لصعود الجنوب العالمي اقتصاديا، والبحث عن أدوار سياسية في سياق محاولة إعادة بناء نظام جديد.
خفُت النقاش العالمي، في السنوات الأخيرة، حول النظام الاقتصادي قليلا لصالح النقاش السياسي في عالم متقلب. في المقابل، برزت اقتصاديات ناشئة أغلبها دول جنوبية، فعاد إلى الواجهة مفهوم الجنوب العالمي بتصورات جديدة. يتحرك تكتل بريكس، باعتباره جزء من هذه الرؤى الجديدة، كتحالف اقتصادي، ويضم وفق قادته مختلف أصوات الجنوب العالمي، مع الرهان على إعادة ترتيب المشهد، ورسم معالم النظام البديل عن الغرب/الشمال.
أكدت الأزمات الحديثة الحاجة لبدائل تتجاوز مأزق الانقسامات السياسية في المشهد الدولي؛ أزمة كورونا وأزمة الحرب الأوكرانية وتداعياتها، وأزمة الشرق الأوسط، والانقسامات التقليدية حول قضايا الأمن الاستقرار العالمي والتنمية. يحضر الانحياز الغربي، بمعاييره المزدوجة في التعاطي مع هذه القضايا والأزمات ومقاربتها. مقابل ذلك، تبرز، وعلى مستويات عديدة، رؤى مغايرة للقوى الجنوبية، وتقديراتها حول هذه الأزمات.
ظهرت في هذا السياق معالم الرؤية الجنوبية الجديدة، التي تنطلق من توحيد الرؤى حول قضايا الاقتصاد والمناخ والدفاع عن التنمية، والبحث عن دور محوري للصوت الجنوبي في المؤسسات الدولية بالأمم المتحدة مثلا، أو من خلال الدفع بعملية إعادة تشكيل النظام الدولي. تتحدد خلال هذا المسار، بشكل مباشر، مساهمة الجنوب العالمي، لاسيما تكتل دول البريكس؛ التي تشكلت في البداية من خمس دول في أربع قارات بإمكانات مهمة، ثم توسعت بإضافة ستة بلدان أخرى، تدافع عن إعادة بناء النظام الدولي اقتصاديا وسياسيا، بما يستحضر مصالح ودور هذه القوى الجنوبية الصاعدة.
سياسيا، أصبح الصوت الجنوبي يرسم رؤية مستقلة عن الغرب، مختلفة التصورات والتوجهات، تستند على المبادئ والحقوق والقانون الدولي، كما تتأسس على تحالفات ومنتديات سياسية في مقدمتها تكتل البريكس. هكذا أضحت محورية التأسيس لنظام دولي جديد، يقدمه قادتها بديلا عن النظام الحالي، تستأثر بالنقاش السياسي بأروقة البريكس، فقادتها ما انفكوا يصورن النظام العالمي الحالي بوصفه مرحلة انتقالية، تتميز بالفوضى نتيجة للهيمنة الأمريكية-الغربية على محاوره. تستند الرؤية البديلة لهذا الوضع على قاعدة إرساء منطلقات جديدة لنظام عالمي بعيدا عن توجهات اللاعبين الغربيين التقليدين، ومرجعية هذا التكتل بناء دعائم التعددية القطبية على قاعدة التعاون جنوب-جنوب.
اقتصاديا، يعد البريكس منتدى للاقتصاديات الناشئة تأسس على محددات متعددة؛ سياسية واقتصادية وتنموية، تنافس التكتلات الاقتصادية العالمية؛ كمجموعة العشرين ودول السبع الكبرى وغيرها، وارتكز على رؤية إعادة ترتيب النظام العالمي بعيدا عن الروى والهيمنة الغربية، وخارج توجيهات وإملاءات المؤسسات الدولية، لأجل ذلك يشتغل بتوجهات جيواقتصادية لإعادة تشكيل المشهد الاقتصادي العالمي.
تنطلق المجموعة من محددات اقتصادية نقدية؛ فقد تشكل منتدى اقتصادي للاقتصاديات الناشئة، يتطلع أطرافه لتعزيز دورهم في التعاون الاقتصادي والتنموي. وتستند على أطروحة إعادة تنظيم الاقتصاد العالمي ورسم السياسات الاقتصادية العالمية بعيدا عن السيطرة الغربية، ومنطلقها إرساء قواعد اقتصادية جديدة، تكفل إعادة هيكلة النظام الاقتصادي العالمي بفك الارتباط بالدولار والمؤسسات الغربية على المشهد العالمي، مع محاولات تشكيل مؤسسات دولية بديلة (صندوق الاحتياطات النقدية لدول التجمع وبنك التنمية البينية وخلق وكالة للتصنيف الائتماني)، باعتبارها مؤسسات بديلة ومنافسة لنظام بريتون وودز.
أضحى النقاش محتدما حول مكانة الجنوب وإمكانية اعتباره بديلا عن الغرب، يؤكده تعزيز مكانة تكتل دول البريكس في رسم السياسات العالمية، ومحاولات قادته إرساء دعائم فلسفة سياسية جديدة للنظام العالمي، وكل المؤشرات تؤكد استمرار صعود الجنوب العالمي وتعزيز محوريته في المشهد العالمي.
تحوّل البريكس لما يشبه منصة للتعاون والنقاش حول معالم النظام العالمي الجديد، لكن التوافق على الفلسفة العامة للتكتل لا تخفي النقاشات والخلافات داخل أروقته حول القضايا الشائكة، كما تتناقض وتتقاطع السياسات المختلفة لدول التكتل، لينظر إليه أحيانا بأن تكتل جمع كل المتناقضات، مما يمكن الحديث عن أصوات جنوبية مختلفة تستثمر هذا الصعود، وتحاول تعزيز مكانتها إقليميا ودوليا.
استطاعت الجمهورية الصينية، والتي تعتبر نفسها جزءا من الجنوب العالمي، أن تتبوأ مكانة متميزة في المشهد العالمي بوصفها قوة اقتصادية وتنموية، فأضحت تتحرك في مجالات اقتصادية وسياسية وتنموية، تعول عليها لبناء معالم قوتها ومكانتها، وتعول على دعم الدول الجنوبية لقيادة العالم، فتستثمر الملتقيات والمؤتمرات كآلية للنقاش والتواصل حول محددات هذا الدور، منخرطة في لقاءات مع الدول الأفريقية ومع دول الجوار والشرق الأوسط وغيرها. إضافة إلى علاقاتها الثنائية مع الدول الجنوبية كلا على حدة، كما تراهن على مشاركتها في المؤسسات الدولية أو المؤسسات الجنوبية كالبريكس.
لكن يتأكد أن بكين ليست وحدها من يعول على هذه المحددات، فحتى جارتها الهند تجاريها على منافستها إقليميا، كما استطاعت أن تكسب صعودا اقتصاديا، وترسم لنفسها أدوارا سياسية برهانها على الآليات الاقتصادية والمؤسساتية، وشكل نجاحها في عقد لقمة الافتراضية الأولى "صوت الجنوب العالمي" في عام 2023، وأعقبت ذلك لقاءات أخرى في ذات السياق، تأكيد على محوريتها، وأدوارها القيادية الاقتصادية والسياسية.
تدافع البرازيل بدورها عن الجنوب العالمي، مستحضرة ما لديها من إمكانيات كجسر بين أوروبا والجنوب العالمي، ناهيك عن بناء دورها بمجالها الإقليمي، مع الرهان على قدراتها وأدوارها الإقليمية ورؤيتها السياسية والتنموية وحضورها العالمي. إلى جانبها، تصاعدت محورية جنوب أفريقيا في هذا السياق، وبرزت أكثر في تحركها الأخير بخصوص دعواها بشأن قطاع غزة ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية، كما دافعت قبل ذلك عن كونها الصوت الأفريقي الوحيد من داخل البريكس قبل توسيع المجموعة.
لا يقتصر الأمر على هذه القوى، فهناك قوى إقليمية أخرى تحاول أن تجد لنفسها أدوارا، تمكنها من بناء مكانة في المشهد العالمي المضطرب. لكن ما يعاب على هذه التحركات غياب التنسيق فيما بينها، وبل أحيانا يتصاعد التنافس بينهما، ما يعرقل إمكانية تعزيز حضورها ودورها إقليميا ودوليا.
تؤكد كل المؤشرات صعود الجنوب صوتا وسياسات واختيارات وتكتلات، غير أن الاختلافات حول قدراتها، من منطلق أنه ليس كتلة سياسية واحدة، وتصاعد التنافس بين قواها والصراعات داخل أروقة تكتلاتها، يسائل قدرتها على القيادة والريادة.
تؤكد مختلف التقديرات السابقة بأن صعود الجنوب يروج له في إطار إعادة ترتيب المشهد العالمي، غير أنه يتقاطع مع محددات تصاعد الصراع على قيادة الجنوب. فمن جهة أولى، تتصاعد حدة التنافس بين هذه القوى الجنوبية على الزعامة. ومن جهة ثانية، تحول هذا الجنوب لساحة للتنافس بين القوى الدولية لتعزيز مصالحها، تحقق هذا الأمر من خلال إعادة ترتيب محاورها بالقارة الإفريقية، أو من خلال دعم القوى الدولية لفعاليات جنوبية دون غيرها.
تحولت دول الجنوب لساحة حسم التقاطعات بين القوى الجنوبية، تتحدد معالم هذا التنافس بينها في تكتل البريكس مثلا، إذ تعدها هذه القوى منصة لحسم معركة القيادة، كما تؤكد الرؤى المتباينة لهما في مقاربة القضايا الدولية والإقليمية، حجم التقاطعات، لتتصاعد معالم التنافس بينهما.
عزز الصراع على مناطق النفوذ في أفريقيا مساحات التنافس على القيادة بين هذه القوى؛ لتحاول الصين تعزيز حضورها باعتبارها المستثمر الأول بالمنطقة. لكن غريمتها التقليدية تستغل علاقاتها التاريخية لإرساء شراكات ممتدة بالمنطقة، وبينهما تحاول البرازيل ترسيخ تعاونها بالمنطقة. كما تراهن باقي القوى على ذات الأمر، لتتجسد معالم التنافس الحاد على تعزيز الحضور من جهة، ومحاولة كسب تأييدها وربح رهانات الشراكة والتعاون بينها، محددات هذا التنافس بين هذه القوى على مقعد القيادة.
تتجسد معالم هذا المأزق في صعوبة حسم معركة قيادة وتمثيل الجنوب، استنادا على التوافق من أجل ضمان حصول دولتين على الصعيد الأفريقي على مقعد بمجلس الأمن، في مقدمتها جنوب أفريقيا وإثيوبيا ونيجيريا، بالإضافة إلى المغرب ومصر تنضاف إليهما دول إقليمية أخرى، وإن كانت حظوظها محدودة. رسمت الولايات المتحدة قبل أشهر لمفاجأة دفاعها عن تمثيل الدول الأفريقية في مجلس الأمن، دون أن يتم حسم هذا الأمر لجهة أي منها، أو تحديد توقيت هذا الانضمام، وبينها دعوات مستمرة إلى إصلاح ورفع مساهمة الدول الجنوبية بهذه المؤسسة الأممية، كما دعوات لتوسيع وإصلاح باقي المؤسسات الاقتصادية.
إجمالا، يتأكد بأن "الجنوب العالمي" أضحى مفهوما محوريا في مسارات السياسات الدولية، لكنه يبقى إن صح التعبير من الأفكار النبيلة التي تستغل لأهداف غير نبيلة، إذ تحاول القوى الدولية كما الصاعدة استثماره من أجل حماية مصالحها أكثر من الدفاع عن مصالح وتقديرات باقي الجنوب العالمي. لذلك، يبقى السؤال هل حقا الجنوب العالمي قادر على موازنة الشمال في ظل التباين بين الرؤى والمصالح والسياسات، والتي تترجم أحيانا لصراعات بين دول الجنوب.