الثلاثاء 11 نوفمبر 2025
يظل التاريخ ملمحًا أولًا، وفاعلًا للغاية، في فهم الحالة الإثيوبية وتطوراتها بشكل عام، كما يفيد في التنبؤ بسياسات أديس أبابا المحلية والإقليمية والدولية على وجه الخصوص؛ وبدت أحدث دلائل ذلك خلال فعاليات افتتاح رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد الرسمي لسد النهضة؛ إذ حضر التاريخ ومواجهات الإثيوبيين ضد الاستعمار الإيطالي، في سياق التأكيد على رمزية معركة عدوة (1896)، وتكرارها راهنًا في شكل إنجاز مشروع السد.
كان من أسباب تلك المعركة مساعي إيطاليا الهيمنة على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر بعد الاحتلال البريطاني لمصر 1882، وتحكم لندن منفردة تقريبًا في ممر قناة السويس.
تلا هذا الحديث المنتشي تأكيدات إثيوبية غير مسبوقة بقرب نيل أديس أبابا منفذًا بحريًا مهما كانت التكلفة، وعلى أسس مطالب وادعاءات تاريخية-استعمارية، كما تبدو من الوهلة الأولى، تأتي مناقضة تمامًا لخطاب أديس أبابا الراهن المناهض للاستعمار والمنافح عن مصالح "السود في أفريقيا"؛ من قبيل وقوعها في تناقضات عدم الاعتراف بمعاهدة 1902 لترسيم الحدود مع إريتريا (لتبرير مطالب "تاريخية" باستعادة ميناء عصب)، مقابل التسليم بمعاهدة "استعمارية" مماثلة لترسيم الحدود مع السودان نُقلت بمقتضاها أراضٍ سودانية (أهمها إقليم بني شنقول الذي يقع فيه سد النهضة) للإمبراطورية الإثيوبية مطلع القرن الماضي.
لقد كشفت مطالب النهضة الإثيوبية المقرونة بالوصول إلى البحر الأحمر "بأية تكلفة كانت"، وارتباطها بحركة توسع إمبراطوري في قلبها، عن طرح مبررات تاريخية ودينية معقدة وانتقائية للغاية؛ وبدافع من انتصار عدوة التاريخي ليس في ذهنية إثيوبيا الحديثة فحسب، لكن لدى جميع شعوب القارة التي تنظر لإثيوبيا رمزا للتحرر، وبغض النظر عن حقيقة نأي هيلاسيلاسي نفسه، بنوع من الترفع الملحوظ، عن الانتساب للعرق الزنجي، وتأكيده وأسلافه أنهم ساميون من نسل الأسرة السليمانية.
بعد قرون من هيمنة الإمبراطورية العثمانية على سواحل البحر الأحمر القريبة من مركز الهضبة الحبشية، ثم الاحتلال الإيطالي لميناء مصوع عام 1885، وكامل "إيالة الحبش" (إريتريا الحالية) في عام 1890، حضرت مسألة وصول "إثيوبيا" لميناء على البحر الأحمر بندًا رئيسًا في أجندة سؤال النهضة الإثيوبي المقترن بتأثر استعماري أوروبي واضح. وبرز ذلك خلال جولة ولي العهد الإثيوبي راس تافاري (هايلي سيلاسي لاحقًا) الأوروبية التاريخية عام 1924، والتي كانت فرنسا من أهم محطاتها.
فشل راس تافاري رغم حفاوة الحكومة الفرنسية الملفتة في استقباله، في الحصول على موافقتها على منح إثيوبيا حق وصول لميناء جيبوتي، لتظل المسألة كاشفة عن عمق ارتباط مشروع النهضة الإثيوبية بأفكار التوسع وتأمين تأييد أوروبي لها.
مثل وصول الإمبراطور تيودورس الثاني لعرش "إثيوبيا" عام 1855 تدشينًا لما يعرف بعصر إعادة بناء الإمبراطورية، حسب وصف دقيق لروبرت هيس. وكان تيودورس تجسيدًا مثاليًا لهذا العصر؛ فقد طالب بالعرش لنفسه بعد سنوات قضاها كأحد قادة جماعات قطاع الطرق المعروفة باسم "الشفتا"، وعزز سلطته بعد نجاحه في هزيمة حكام محليين في قوجام وبيجيمدر، ودخوله في مواجهات مباشرة مع التيجراي وشوا (حيث أسر ملكها الشاب حينذاك منليك، واقتاده إلى بلاطه في مدينة ماجدالا)، وكان أغلب سكان الإقليم الأخير في أربعينيات القرن التاسع عشر من المسلمين الأورومو والعفر بنسبة تتجاوز 60٪، كما نجح تيودورس في البداية في كسب الكنيسة في صفه، ثم عمد مباشرة إلى اختلاق نسب يصل به إلى "الأسرة السليمانية".
حضرت مسألة وصول "إثيوبيا" لميناء على البحر الأحمر بندًا رئيسًا في أجندة سؤال النهضة الإثيوبي المقترن بتأثر استعماري أوروبي واضح
استقدم تيودورس في عاصمته عددًا كبيرًا من الأوروبيين، ولاسيما من المبشرين والعسكريين، وأصبح عدد منهم من أهم مستشاريه، وشجعوه باستمرار على استيراد الأسلحة من أوروبا. وعمل بدوره على الفكاك من عزلة "إثيوبيا" الدبلوماسية التي امتدت لقرون باقتراح معاهدة تجارة وصداقة مع بريطانيا العظمى.
لكن علاقة تيودورس ببريطانيا ساءت لأسباب عدة، أهمها سياساته الداخلية الصدامية (من وجهة نظر لندن)، وقد تحججت قوات بريطانية بإنقاذ عدد من الأوروبيين الذين اعتقلهم تيودورس في عام 1867، أو قبل عامين تقريبًا من افتتاح قناة السويس التي ستغير مجمل الأوضاع في البحر الأحمر، وأسقطت تلك القوات عاصمة الأول قبل إقدامه على الانتحار، وساعدها في ذلك عدد من القوى من بينهم التيجرانيون، الذين مهدوا الطريق لها من ساحل البحر الأحمر إلى قلب الهضبة الشمالية الغربية في البلاد، والكنيسة، وقطاع واسع من طبقة النبلاء؛ بحيث جسد البريطانيون حراك جميع معارضي تيودور في "إثيوبيا" حينذاك.
مهدت هذه التطورات، وانتكاسة مشروع تيودورس النهضوي، لصعود الإمبراطور يوهانس الرابع عام 1871، وهو أحد أمراء التيجراي، والذي واصل سياسات تيودورس مثل تحجيم سلطة النبلاء لصالح "تحديث الدولة"، ووجد معارضة منهم، وكذلك من المسلمين في السودان وداخل "إثيوبيا". كما وجد منافسة قوية من منليك ملك شوا، وادعى كلا منهما، وسط صعود الصراع بين التيجر وشوا، أنه من أصل سليماني. استمر الصراع حتى تم التوصل لهدنة بزواج ابن يوهانس من ابنة منليك، وإقرار يوهانس لمنليك بحقه في خلافته في الحكم، لتدخل النهضة الإثيوبية مرحلة مغايرة تمامًا تتسم بالقوة والقدرة على الفعل المستمر وسط أقاليم بائسة اجتماعيًا وسياسيًا.
عدوة وانطلاق النهضة الإثيوبية
قدم المؤرخ الإثيوبي البارز باهرو زويدي تفاصيل حول مشروع تحديث إثيوبيا في عهد الإمبراطور منليك، ووصف فترة الأخير بأنها مرحلة "تكوين الدولة الإمبراطورية الإثيوبية الحديثة" بعد عملية مطولة من التوسع، لاسيما في غربي إثيوبيا الحالية وجنوبها، وتأسيس عاصمة، وقدرة منليك على مواجهة الأزمة في النظام الاجتماعي والاقتصادي في البلاد، لاسيما خلال فترة "المجاعة الإثيوبية الكبرى" (1888-1892).
لاحظ زويدي اقتداء منليك بأسلافه من ملوك العصور الوسطى في إثيوبيا بحكم البلاد، انطلاقًا من عدة معسكرات ومدن، قبل بدء الاستقرار عام 1886 في مدينة أديس أبابا جنوبي البلاد، لتصبح لاحقًا – وتحديدًا عام 1892 تقريبًا- المركز السياسي للإمبراطورية. وتزايد قدوم النبلاء المحليين والأوروبيين، إلى مدينة أديس أبابا للاستقرار بها، بعد انتصار الجيش الإثيوبي على القوات الإيطالية في معركة عدوة 1896، التي مثلت بدورها، حسب زويدي، حدًا فاصلًا بين مرحلة الحروب المستمرة ومرحلة الدولة المستقرة أو ما وصفها "بالحياة المدنية" في عاصمة الدولة الإمبراطورية.
يوحي كل ذلك، وحتى وفق الشواهد التي ستظهر لاحقًا عند نهاية حكم هيلا سيلاسي في العام 1974، بأن مشروعات التحديث والنهضة (الإمبراطورية) الإثيوبية كانت وليدة مراحل توسع إمبراطوري متسارعة على حساب شعوب في غربي وجنوبي ما ستعرف لاحقًا بالدولة الإثيوبية، وأن هذه المشروعات كانت نخبوية بشكل واضح حتى بمقاييس عصرها، ولم تكن ذات طابع وطني بالمعنى التقليدي: أي أنها لم تكن لصالح جميع أجزاء الدولة وسكانها بتناسب معقول. بل يمكن ملاحظة أن المشروعات نفسها كانت حلقة هامة وضرورية في مراحل توسع الإمبراطورية الإثيوبية الذي بلغ مداه الأقصى في مطلع ستينيات القرن الماضي.
راس تافاري في فرنسا: سؤال النهضة على الطريقة الأوروبية
ظلت جهود "التحديث" رهن عمل شخصي منفرد تقريبًا، فيما كانت المؤسسات في مراحل التكوين الأولى مع مطلع القرن الماضي؛ ومن ثم كان مفهومًا تراجع جهود تحديث إثيوبيا إثر مرض الإمبراطور منليك عام 1906 وعجزه المتزايد حتى وفاته عام 1913، ولم ينجب من زيجاته العديدة ومضاجعته لمحظيات كثيرات سوى ابنة واحدة، وهي زوديتو (Zawditu)، والتي تزوجت الملك مايكل، حاكم وللو أورومو "المسلم الذي أُجبر على اعتناق المسيحية"، كما يسرد جون ماركاكيس (2013)، وقد لعب راس تافاري مكونن، الذي كان يبلغ 24 عامًا، دور المحرك في مؤامرة نقل الحكم من منليك، وتقلد بالفعل ولاية العهد خلفًا لزوديتو، وأجبرها في العام 1928 على تسميته ملكًا ووضع كافة أمور الحكم في يديه قبل وفاتها عام 1930، وتقلد هايلي سيلاسي حكم البلاد باعتباره ملك الملوك وهو في عمر السابعة والثلاثين.
كان الهدف الرئيس من جولة راس تافاري الأوروبية، وخاصة في فرنسا 1924، إقناع حكومات هذه الدول بأهمية وصول إثيوبيا لمنفذ بحري
ويلاحظ بريان ياتس خلال تناوله بالتفصيل دور أقاليم الأورومو الشمالية في تكوين إثيوبيا الحديثة (1855-1913)، تجسيد راس تافاري نفسه "للهوية الحبشية الحديثة"، فقد تزوج ابنة أخت ليج إياسو، وبات بعدها وليًا للعهد، وأن أمه مسلمة أوروموية من واللو اعتنقت المسيحية (في ظروف غير واضحة تمامًا)، ووالده القائد العسكري شديد المراس راس مكونن من شوا، ويمكن القول أن هايلي سيلاسي كان أمهريًا من شوا، لكنه من جهة الأصل أورومويًا- أمهريًا سرت فيه دماء الأمهرا وشوا وواللو "مسيحية أو مسلمة".
ترمز هذه العناصر إلى هوية الحبشة الحديثة التي مثلت مناطق الأورومو الشمالية جزءًا لا يتجزأ من عملية قيام الأمة الإثيوبية التي كانت تجري على قدم وساق. ويلاحظ أنه إلى جانب حنكة راس تافاري السياسية، التي مكنته من اعتلاء العرش الإثيوبي عبر مسارت بالغة الصعوبة، فإنه امتلك، لعدة عوامل أهمها امتلاكه ثقافة فرنسية رفيعة، توجهًا أصيلًا نحو أوروبا لتحديث بلاده.
قام عام 1924 بجولة أوروبية هامة اقتداء بجولة سابقة قام بها والده راس مكونن في إنجلترا وفرنسا عام 1902، لحضور حفل تتويج الملك إدوارد السابع ممثلًا للملك منليك الثاني. كما عزز ذلك اتقان راس تافاري للفرنسية منذ صغره على يد اثنين من أبرز معاوني والده الفرنسيين في هرر، وهما السيد أندري جاروسو، أسقف هرر منذ عام 1900، ومعلم هايلي سيلاسي في مدرسته الكاثوليكية منذ عام 1898؛ والطبيب الفرنسي جوزيف فيتالين الذي التحق بالعمل بشركة السكك الحديدية في جيبوتي في العام 1899 ثم استخدمه راس مكونن لبناء مستشفى في هرر.
رصد المؤرخ الإسرائيلي المخضرم هاجاي إرليك، في مؤلفه حول "صعود هيلا سيلاسي وسقوطه" (2019)، تفاصيل جولة تافاري الأوروبية، مرورًا بالقاهرة التي التقى فيها برئيس الوزراء المصري سعد زغلول، ومنها إلى القدس. وقد كان شاغل راس تافاري الأول هو تحسين صورته وصورة بلاده لدى الغرب، وكان قد أدخل بعض التغييرات بناء على نصائح عدد من المستشارين الأجانب الذين استقدمهم، وأوكل لهم العمل في العديد من الوزارات، وبناء علاقات الصداقة القوية مع فرنسا، والتي اتضحت ملامحها خلال مفاوضات معاهدة فرساي ودعم فرنسا لجهود راس تافاري الحفاظ على استقلال بلاده من الاستعمار، وانضمام الإمبراطورية الإثيوبية في سبتمبر/أيلول 1923 لعصبة الأمم.
كان الهدف الرئيس من جولة راس تافاري الأوروبية، وخاصة في فرنسا 1924، إقناع حكومات هذه الدول بأهمية وصول إثيوبيا لمنفذ بحري، ويلاحظ أن الوفد المرافق له، والمكون من 39 فردا، كان من أفراد تتحدث الفرنسية بطلاقة، ومنهم، كما يشير بوريس مونين في دراسة موجزة حول الجولة ونتائجها (2013)، عدد ممن كانوا من المرشحين بقوة لمنافسة راس تافاري نفسه خلال رحلة صعوده وانفراده بحكم البلاد.
وصل راس تافاري إلى باريس في 16 مايو/آيار 1924، وحظى باستقبال رفيع المستوى، إذ تلقاه رئيس الجمهورية ألكسندر ميلران، ورئيس الوزراء ووزير الخارجية ريمون بوانكاريه، كما احتشدت جموع الباريسيون في شوارع مدينتهم لمشاهدة موكب راس تافاري كأنه "أمير من حكايات ألف ليلة وليلة".
ورغم الاهتمام الإعلامي الكبير بزيارة راس تافاري، فإن الصحف الفرنسية لم تسهب في طرح أفكار المصالح الاقتصادية (الفرنسية) في إثيوبيا ومواردها الطبيعية، بينما حرصت الحكومة الفرنسية على عرض أفضل التكنولوجيات العسكرية الفرنسية على راس تافاري، مع ملاحظة وجود سجال في فرنسا قبل زيارة الأخير بنحو أسبوعين حول خطورة التعاون مع إثيوبيا على الوضع في جيبوتي. ولم يحظ راس تافاري بأي شيء ملموس في مسعاه الحصول على منطقة ميناء في جيبوتي لعدم حماس السلطات الفرنسية، وبداعي من هزيمة الائتلاف الحكومي قبيل وصول راس تافاري مباشرة في الانتخابات، وما ارتبط بذلك من وجوب استقالة الرئيس ميلران بحلول 11 يونيو/حزيران 1924.
ختامًا؛ وبغض النظر عن النتائج السياسية لتلك الجولة (التي انطلقت من مصر، وانتهت بها في طريق عودته لبلاده) ودلالاتها المتنوعة؛ فإن سؤال النهضة الإثيوبي على الطريقة الأوروبية ظل هاجسًا ملحًا لدى أباطرة إثيوبيا، وإن كان ذو طبيعة نخبوية التوجه، أي يقوم على تمدين النخبة كما سمة ذلك العصر، حتى مقتل إمبراطور إثيوبيا الأخير على يد ثوار أكتوبر/ تشرين الأول 1974 الذين حولوا مربط سؤال النهضة من "أوروبا" والغرب إلى العالم الشيوعي، ثم ما يطرحه آبي أحمد من رؤية نهضوية إثيوبية تعادل في رمزيتها انتصارات معركة عدوة، وتقوم بالأساس على مواجهات إقليمية مستمرة.