السبت 8 نوفمبر 2025
"من الخطأ الاعتقاد أن الفلسفة اختراع أوروبي أوجدته المعجزة اليونانية. الممارسة الفلسفية غُرست في جسد الإنسان انطلاقاً من اللحظة التي دفن فيها موتاه، وتساءل عن معنى الحياة وزين الأضرحة بالأعمال الفنية".
سليمان بشير ديان اسم أفريقي مسلم له نصيب من الحظوة والمقبولية في الأوساط الغربية، خصوصا الفرنسية، رغم انتقاده الشديد والمستمر لتاريخ فرنسا الاستعماري، ودعوته الدولة إلى الاعتراف بجرائم ماضيها في أفريقيا، متى رغبت في تحقيق مصالحة مع فصيل عريض داخل المجتمع الفرنسي. ويحضر بدرجة أقل في الأوساط الأكاديمية الأمريكية بحكم اشتغاله أستاذا للفلسفة في جامعة كولومبيا، وفي الساحة الإعلامية الأفريقية والفرنسية، فقد سبق لمجلة "لونوفيل أوبسرفاتور" أن صنفته من بين أهم 25 مفكرا عالميا، واعتبرته مجلة "جون أفريك" ضمن 100 شخصية التي صنعت أفريقيا.
إنه ابن السنغال القادر على شرح أفكار الفيلسوف ابن رشد بأسلوب بسيط للطلاب الأمريكيين، ودعوة فرنسا بلا مواربة في وسائل الإعلام الفرنسية إلى مراجعة الذات لاستيعاب مواطنين من المهاجرين، وتذكير الرئيس السينغالي، بلا خوف أو تردد، عن أن الإيقاع الطبيعي للديمقراطية يفرض عليه أن يغادر السلطة بعد ولايتين رئاسيتين.
ولد سليمان بشير ديان في سانت لويس عام 1955، وترعرع هناك قبل التحاقه المبكر بفرنسا لإتمام دراسته العليا في المدرسة العليا للأساتذة (ENS)، هناك حاز على شهادة الكفاءة في الفلسفة (1978) ثم على دكتوراه الدولة في الفلسفة من جامعة السوربون (1988).
كان ديان آخر جيل يدرس على يد كبار الفلاسفة الفرنسيين، وعاش تجربة الالتزام السياسي مع اليسار الماوي، واقترب تدريجيا من الماركسية العلمية، بعد تأثره وإعجابه الشديد بأستاذه لويس ألتوسير (1918-1990). وانتقل ضمن برنامج لتبادل البعثات إلى الولايات المتحدة الأمريكية للدراسة في جامعة هارفارد، ثم عاد بعدها إلى فرنسا قصد إنهاء دكتوراه حول موضوع "الفلسفة المنطقية لجورج بول".
الحضور في المشهد الأكاديمي الغربي جعل ديان في خطوط التماس مع الغرب، فهو هناك بالنسبة لهم نموذج الآخر؛ المخالف دينيا وعرقيا، الذي لم ينسلخ عن ذاته بالذوبان في هوية أخرى، بل حافظ الاختلاف والتمايز وحاول استثماره في البحث عن المشترك الإنساني
عاد عام 1982 إلى مسقط رأسه حيث تولى تدريس الفلسفة في جامعة شيخ أنتا ديوب في داكار، ولاحقا شغل منصب نائب عميد كلية العلوم الإنسانية. تولى مطلع التسعينيات، ولمدة ست سنوات، مهمة مستشار الرئيس السنغالي الأسبق عبدو ضيوف (1981-2000)، في شؤون التعليم والثقافة.
المسؤولية الأكاديمية والسياسية وضعت ديان في احتكاك مباشر مع شؤون الثقافة والفكر في السنغال بشكل خاص وفي عموم أفريقيا، بعدما اشتبك من موقع المثقف العضوي مع الواقع بإشكالاته المتداخلة والمربكة، وما يستتبع ذلك من مسؤوليات، فرضت عليه تقديم إجابة صاغتها في كتاب "أسئلة الثقافة في أفريقيا" (1996).
الحضور في المشهد الأكاديمي الغربي جعل ديان في خطوط التماس مع الغرب، فهو هناك بالنسبة لهم نموذج الآخر؛ المخالف دينيا وعرقيا، الذي لم ينسلخ عن ذاته بالذوبان في هوية أخرى، بل حافظ الاختلاف والتمايز وحاول استثماره في البحث عن المشترك الإنساني، فكل الثقافات، حتى الشفوية -حسب ديان- لها نصيب من القدرة على الفلسفة الخالصة، والتي تخولها اتخاذ المسافة من تراثها، وإخضاعه للنقد.
هكذا انبرى ديان الذي سطع اسمه بالتزامن مع الهجوم على الإسلام عقب أحداث 11 سبتمبر/ أيلول، لتقديم سردية أخرى غير تلك السائدة هناك عن الإسلام، ف"المسؤولية تقع على عاتق الفلاسفة المسلمين لإظهار أن التراث الفكري والروحي للإسلام يمكن أن يوفر الأسس النظرية للتفكير المعاصر في التحديات الكوكبية التي يواجهها الإنسان المعاصر اليوم".
فكتب "الإسلام والمجتمع المفتوح" (2001) حيث أجاب على أسئلة من قبيل: كيف التقى الإسلام بالفلسفة؟ وهل الدين بحاجة إلى الفلسفة؟ وما حدود تأثير الفلسفات الإغريقية على الفلسفة الإسلامية؟ وهل يتعارض التصوف مع العقلانية؟ بعد سنوات، أعقبه كتاب أكثر جرأة ومواجهة بعنوان "كيف نتفلسف في الإسلام؟" (2008)، كان الأول بمثابة مقدمة له، حيث يرد على اتهام الإسلام بالأصولية والتطرف، بكشف الوجه الآخر للإسلام؛ الوسطي العقلاني المتسامح، مؤكدا أن "الفلسفة ليست غريبة عن الإسلام، وليست التعبير الطبيعي عن أية ثقافة بعينها، ولا عن أي دين بعينه".
يصر ديان على الاشتباك في هذه الجبهة بمواصلة الكتابة والتأليف، وأحيانا بمؤلفات سجالية، على غرار كتاب "الجدل: حوار حول الإسلام" (2019) الذي اتخذ قالب محاورة مع الفيلسوف الفرنسي ريمي براغ؛ مؤلف كتاب "قانون الرب" (2008)، دفاعا عن أطروحته حول الفلسفة الإسلامية.
لكن ديان؛ وهو بصدد التأسيس لفلسفة إسلامية، ينقطع عن الواقع الذي كان سببا رئيسيا في تحركه؛ لأول مرة زمن الثمانينات. فقد حصر الفلسفة داخل فكر ماضوي، لم يعد قادرا على التجاوب والتواصل مع واقعنا اليوم. فهو لا يفهم الفلسفة إلا كمطلق مفارق، على غرار الحديث عن الدين، ليثبت بذلك فعلا أن هذه الفلسفة غريبة عن واقعها، وغير قادرة - كما تردد على الألسن- على مواجهته إطلاقا.
حين تحدث الفيلسوف السنغالي عن أن "جميع الثقافات، بما فيها الثقافات الشفوية، لها حظها من هذه القدرة الفلسفية الخالصة، والتي تخولها اتخاذ المسافة من تراثها وإخضاعه للنقد"، فالأكيد أنه يقصد وبالدرجة الأولى أفريقيا. وتبين ذلك لاحقا في كتب مثل: "الفن الأفريقي كفلسفة: سنغور، وبيرغسون، وفكرة الزنجية" (2011) و"التفكير في أفريقيا: الشمولية وانهاء الاستعماري" (2018)...
بخلاف دفاعه عن الإسلام الذي فرضته الأوساط السياسية والإعلامية في الغرب، كان القول بفلسفة أفريقية نابعا من مسؤوليته نحو بلده وقارته، فالتداول الشفوي بين الشعوب حتم على ديان البحث في إمكانيات ملائمة النقل عبر القالب الشفوي السائد للتفكير الفلسفي. يجيب الفيلسوف بأن الفكر الأفريقي الذي يجعل الفرد ضمن العشيرة، فإن "ميثاق ماندي" المعلن في الإمبراطورية المالية القديمة في القرن 13 بالحقوق الناجزة للفرد، مخاطبا العالم كله.
واعتبر في معرض الدفاع دائما أن تقاطع الفلسفة الأفريقية مع الإسلامية لم يمنعها من التميز ملمحا إلى اشتغال الفلسفة الأفريقية على مباحث من صميم الواقع، فالفن الأفريقي الكلاسيكي مثل النحت مثلا منتشر بقوة في غرب أفريقيا في حين يرفض لدى الأخرين لأن فيه تجسيد للواقع وصنمية... ما يعني أن الفلسفة الأفريقية وإن تأثرت تظل بنت سياقها في نهاية المطاف.
"جميع الثقافات، بما فيها الثقافات الشفوية، لها حظها من هذه القدرة الفلسفية الخالصة، والتي تخولها اتخاذ المسافة من تراثها وإخضاعه للنقد"
كانت الفلسفة الأفريقية سببا دفعه لمراجعة مواقفه من قضايا عدة منها أطروحة الزعيم السنغالي ليوبود سيدار سنجور، التي اعتبرها فكرة سخيفة في البدء قبل اكتشاف من جديد مع البحث في موضوعات الفن الأفريقي، حيث وجد أن سنغور يرى "الفن الأفريقي بمثابة فلسفة ينبغي فكها"، فدلالة الفن ماثلة في الفن نفسه وأشكاله وليس في الأصول الدينية.
تحظى الترجمة لدى ديان بمكانة خاصة، فقد عنون كتابه الذي صدر قبل ثلاث سنوات "من لغة إلى لغة: ضيافة الترجمة" (2023)، فهي الأداة المثلى في نظر ديان إلى التجسير بين التجارب والشعوب، وعن ذلك يقول: "رغم طبيعتنا التي تأبى إلا أن تتحزب إلى جماعاتها فإن مسؤولية من مواقعنا تلك ضمن جماعاتنا لأن نصنع عيشا بشريا مشتركا، والترجمة إحدى أدوات تلك المسؤولية".
يرفض النظرة التشاؤمية للترجمة باعتبارها فعلا تسلطية الأخر إلى طرح أخلاقي تؤطره أسئلة من قبيل: ماذا يعني لي أن أحتفي بفكرة تشكلت بدءا في لغة أخرى مختلفة عن لغتي؟ ما معنى نقل تجربة في لغة أخرى وجعلها قابلة للتجربة لمن يتحدثون بلغتي؟
"اعتادت أوروبا النظر إلى بقية العالم، والآن قرر هؤلاء السود ألا يكونوا بعد الآن موضوعا للنظرة، بل أن يكونوا هم فاعليها"
يعزز ديان طرحه بموقف الفيلسوف الكيني نغوغي واتشينغو الذي يعرف نفسه مناهضا للاستعمار، والذي اقتبسه منه عباره "الترجمة هي لغة اللغات"، حين توقف عن الكتابة بالإنجليزية، واكتفى بالكتابة بلغة الكيكتويو، وفي ذلك دعوة غير مباشرة إلى الترجمة وإسقاط سطوة لغة بعينها على باقي اللغات.
في ذلك مسعى لإعادة التموقع من جديد، كما يقول ديان: "اعتادت أوروبا النظر إلى بقية العالم، والآن قرر هؤلاء السود ألا يكونوا بعد الآن موضوعا للنظرة، بل أن يكونوا هم فاعليها. هكذا يعكسون ما يسميه سارتر "رعشة الوجود منظورا"، إنها وسيلة للاتمركز أوروبا وجعلها إقليما في العالم مثل أي إقليم آخر.
معارك ديان المفتوحة بحثا عن التأسيس لفلسفة إسلامية أسقطته في مغالطة كبيرة، حين ربط بشكل استلزامي بين الفلسفة والتنوير، فمعركة الفلسفة في العالم الإسلامي بالنسبة له معادل موضوع لمعركة التنوير والانفتاح والتحرر. وهنا يطرح السؤال عن أسباب هذا الربط الحتمي بين الفلسفة والتنوير؟ بمعنى هل كل فلسفة تنويرية فعلا؟ ألم يكن تيارات فلسفة حاضرة جنبا إلى جنب مع تيارات دينية لتبرير وشرعنة سياسات الاستعمار وحروب الاستعمار الجديد.
هنا يثار التساؤل عن الإصرار على اجترار ذات السردية المهيمنة في الغرب عن الفلسفة والتنوير، "ألم يصل التنوير نفسه مرحلة يحتاج فيها إلى تنوير؟ فالفلسفة لم تكتف فقط بخلق تماه بينها وبين التنوير، حتى أضحت الفلسفة هي التنوير ذاته، بل إنها في تماهيها ذلك أغلقت الباب أمام كل نقد للتنوير".