الأحد 16 نوفمبر 2025
تدور مسارات التفاوض في أديس أبابا والدوحة وواشنطن بشأن الصراع في جمهورية الكونغو الديمقراطية بلا مؤشرات جدية إلى اختراق، فيما يرسخ الواقع الميداني في شرقَ البلاد اتجاهًا معاكسًا. فـ"حركة 23 مارس" تواصل تثبيت نفوذها في كيفو الشمالي والجنوبي وبناء هياكل حكم أمر واقع، بينما تراجعت كينشاسا عن توقيع "إطار التكامل الاقتصادي الإقليمي" في الثالث من أكتوبر/ تشرين الأول، الأمر الذي وضع الوساطة الأميركية التي يقودها مسعد بولس، مستشار أفريقيا لدى الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أمام حدود عملية لقدرة المقايضات الاقتصادية على إنتاج تهدئة ملموسة.
كان التصوّر أن معادلة "الأمن مقابل المعادن" تمهّد لتوقيعٍ سياسي رفيع في البيت الأبيض، لكن موازين القوة على الأرض، وخصوصا استمرار تقدم الحركة واتساع رقعة سيطرتها، أظهرت أن أي ترتيبات اقتصادية لا تُفضي إلى تسوية أمنية قابلة للتحقق، ما لم تُقترن بخفضٍ واضح للعنف وآليات مراقبة فعّالة لإعادة الانتشار. وعليه، يبقى معيار التقدّم الحقيقي مرهونًا بما يجري في الكيفو.
بدأت محاولة واشنطن في 27 يونيو/ حزيران حين جمع مسعد بولس وزيري خارجية الكونغو-كينشاسا ورواندا لتوقيع مذكرة أولية، تقضي تثبيت أمن الحدود ووقف دعم الجماعات المسلحة، مقابل فتح مسارات تعاون اقتصادي وتعديني، على أن تُتوَّج العملية بحفل توقيع في البيت الأبيض، وهو موعدٌ رُشِّح لاحقاً ليكون في 23 أكتوبر/تشرين الأول. غير أن أي هندسة فوقية تبقى بلا جدوى ما لم تُعالَج موازين القوة على الأرض.
تُضعف التجربة التاريخية للدولة الكونغولية مع محاولات الانفصال فرص هذا الخيار؛ فمنذ الاستقلال واجهت كينشاسا موجات تمرّدٍ وانشقاق ولم تُقِر بفدرلةٍ مفروضة تحت السلاح، وكانت الكلمة الفصل في الغالب عسكرية
عشية توقيع "إطار التكامل الاقتصادي الإقليمي" في الثالث أكتوبر/تشرين الأول، تلقّى وفد كينشاسا برئاسة باتريك لُوابيا، مدير "هيئة تنظيم ورقابة أسواق المواد المعدنية" تعليمات بعدم التوقيع، بسبب تصاعد القتال الذي تقوده "حركة 23 مارس" في الكيفو. عملياً، انهار منطق "الاقتصاد أولاً" أمام اختبار الميدان. بالتوازي، تعطّلت المسارات التفاوضية بين أديس أبابا والدوحة وواشنطن؛ كل طرف يتهم الآخر بخرق التزامات سابقة، فيما تتآكل الثقة اللازمة لأي مقايضة بين الأمن والامتيازات الاقتصادية.
تستطيع واشنطن توفير حوافز استثمارية وأطر تمويل للمعادن والطاقة، لكنها لا تملك ضمانات ميدانية لوقف الهجمات أو إلزام الفاعلين المسلّحين بإعادة الانتشار. ومن دون خطوات ملموسة قابلة للتحققمثل خفض واضح للعنف وترتيبات مراقبة وجداول زمنية لإعادة التموضع، سيظل أي توقيع اقتصادي عنواناً جميلًا على ورق هش لا يغيّر في وقائع الصراع.
عرضت بنتا كيتا، رئيسة بعثة "مونوسكو"، أمام مجلس الأمن معطياتٍ صريحة حين أشارت أن "حركة 23 مارس" وسّعت نطاق سيطرتها بعد استحواذها مطلع العام على غوما وبوكافو، ورفدت صفوفها بنحو 7000 مقاتلٍ إضافي. بالتوازي، مُنِعَت قوات حفظ السلام من دخول مناطق محددة ورصد الانتهاكات، فيما سُجّل في يونيو/ حزيران وحده مقتل أكثر من 1000 مدني في كيفو الشمالي وإيتوري.
في هذا السياق، استضاف الدوحة مساراً لخفض التصعيد العسكري بوساطة قطرية. فقد وصل، أواخر أغسطس/آب، وفدٌ مصغّر من "حركة 23 مارس/تحالف نهر الكونغو" بتفويضٍ ضيّق، يقتصر على وقفٍ لإطلاق النار وإطلاقٍ للأسرى. رفضت كينشاسا الإفراجات الأحادية، وأصرّت على معالجة ملف الأسرى ضمن اتفاقٍ شامل. ورغم تحديد 14 أكتوبر/تشرين الأول موعداً لاستئناف المحادثات، تبقى الفجوة الأعرض عند سؤال السيادة: هل تعود كيفو الشمالي والجنوبي إلى سلطة الدولة المركزية، أم تواصل الحركة بناء كيانٍ مستقل؟
نظرياً، طُرحت صيغة "حكمٌ ذاتي موسّع" للمناطق الخاضعة لهيمنة الحركة، مقابل تخلّيها عن مشروع السيادة. عملياً، تُضعف التجربة التاريخية للدولة الكونغولية مع محاولات الانفصال فرص هذا الخيار؛ فمنذ الاستقلال واجهت كينشاسا موجات تمرّدٍ وانشقاق، ولم تُقِر بفدراليةٍ مفروضة تحت السلاح، وكانت الكلمة الفصل في الغالب عسكرية.
تعطّلت المسارات التفاوضية بين أديس أبابا والدوحة وواشنطن؛ كل طرف يتهم الآخر بخرق التزامات سابقة، فيما تتآكل الثقة اللازمة لأي مقايضة بين الأمن والامتيازات الاقتصادية
بالنسبة إلى الرئيس فيليكس تشيسيكيدي، يصبح أي تنازلٍ اليوم عالي الكلفة سياسياً، إذ تستند شرعيته إلى خطابٍ صلب في الدفاع عن السيادة بمواجهة ما يعتبره "توسّعاً تقوده كيغالي". بهذه الخلفية، يظل الحسم مرهوناً بقدرة المسار التفاوضي على إنتاج ترتيبات أمنية قابلة للتحقق، لا بمجرد تبادل الصيغ على الطاولة.
يحافظ الرئيس الرواندي بول كاغامي على قدرٍ محسوب من الغموض إزاء أهداف بلاده، وحجم انخراط "قوات الدفاع الرواندية" داخل الكونغو. تشير تقديرات استخباراتية أميركية إلى وجودٍ لا يقل عن 8000 جندي، فيما تصرّ كيغالي على أن مهمة "حركة 23 مارس" هي "حماية حقوق التوتسي الكونغوليين". في المقابل، يرى منتقدو رواندا أن شدّة هجمات الحركة واتساع مناطق سيطرتها، مقرونَين بالدعم اللوجستي والعسكري، يقوّضان وجاهة هذه الرواية.
سياسياً، رفع كورنييه نانغا رئيس "تحالف نهر الكونغو" والرئيس الأسبق للجنة الانتخابات سقف رهاناته بإعلان هدفه إسقاط الرئيس فيليكس تشيسيكيدي، واستقطب إلى صفّه الرئيس السابق جوزيف كابيلا. ردّت كينشاسا بمحاكمةٍ غيابية لكابيلا بتهمة الخيانة، وإنزال عقوبة الإعدام. ميدانياً، تتبدّل مكاسب الحركة العسكرية إلى بنية حُكمٍ ناشئة عبر "لجنة إحياء العدالة" برئاسة ديليون كيمبولونغو لتسمية قضاة وإحياء المحاكم، وتعيين إداراتٍ محلية والتدخل في نزاعات الخلافة داخل المشيخات.
كان توقيع "إطار التكامل الاقتصادي" كفيلاً بتوفير مظلة تعاونٍ واستثمار تمنح التسوية ثمناً سياسياً واضحاً، غير أنّ غياب خفضٍ ملموس للعنف، وعدم توافر انسحاباتٍ قابلة للمراقبة يبقيان ذلك الغطاء عنواناً بلا مضمون، ويعيدان كل مبادرة إلى نقطة الأساس
لكن "الدولة المصغّرة" تولد بموارد شحيحة. فالمصارف التجارية مغلقة، والتعاملات تتحول إلى بنوكٍ رواندية، ونقص السيولة بالفرنك الكونغولي والدولار يتفاقم. تُمنح الأولوية للمقاتلين في الصرف، ومع ذلك تبقى المخصصات محدودة ورواتب المدنيين شبه متوقفة. هذه الهشاشة قد تُنتج سخطاً اجتماعياً داخل مناطق السيطرة، لكنها في الوقت نفسه توفر للحركة ورقة ضغطٍ تفاوضية: فهي تُمسك بالأرض، وتستند إلى سلطة الأمر الواقع، فيما يعجز الاقتصاد عن اللحاق بطموحٍ سياسي يتطلب إمكاناتٍ أكبر بكثير.
في كينشاسا، باشرت حكومةٌ جديدة مهامها منذ أغسطس/آب تضم 54 وزيراً، بينهم ستة نوابٍ لرئيس الوزراء، مع بقاء جوديث سومينوا على رأسها. تعكس التعيينات مزيجاً مقصوداً من "الشمول" والخبرة التقنية: عودة أدولف موزيتو إلى حقيبة الميزانية تمنح السلطة خبرة صلبة في إدارة الرواتب ومالية الدولة؛ تعيين فلوريبير أنزولوني وزيراً للتكامل الإقليمي يضيف صوتاً آتياً من مجتمع مدني شبابي فاعل؛ وتولّي غيوم نغيفا-أتوندوكو وزارة العدل يعيد اسماً حقوقياً مخضرماً إلى مركز القرار. أما لويس واطوم كابامبا، فانتقل إلى وزارة المناجم مستنداً إلى خبرة تشغيلية مباشرة في "كيبالي" و"كاموا-كاكولا"، في إشارة واضحة إلى رغبةٍ في إدارةٍ أكثر مهنية لقطاعٍ يختصر مفاتيح النفوذ الداخلي والتوازنات الإقليمية.
بالتوازي، أعلن السيناتور جان بامانيسا عزمه إحياء النقاش حول إصلاحٍ دستوري مجمّد. ورغم نفي الحكومة وجود نية للمساس بحدود الولايتين، فإن مجرد فتح الملف يوقظ مخاوف "الولاية الثالثة". ويزداد المشهد تعقيداً مع تموضع فيتال كاميرهي، ابن كيفو الجنوبي، الذي استقال من رئاسة "الجمعية الوطنية" في 22 سبتمبر/ أيلول بعد حملة قادها جزء من "الاتحاد من أجل الديمقراطية والتقدم الاجتماعي". كاميرهي الذي كان قد اتفق سابقاً مع الرئيس فيليكس تشيسيكيدي على أن يخلفه مرشحاً للرئاسة بعد ولاية واحدة، يُرجع استقالته إلى "حفظ الوحدة الوطنية"، لكنه قد ينتقل إلى موقفٍ أشدّ صرامة إذا عاد ملف تعديل الدستور إلى الطاولة.
خارج السياسة اليومية، تبقى معادلة المعادن هي العقدة الحاكمة. فشرق الكونغو يجمع النحاس والكوبالت والذهب، ما يجعل أي تفاهمٍ مع رواندا ومع القوى المسلحة المدعومة منها ملفاً اقتصادياً-جيوسياسياً بامتياز. كان توقيع "إطار التكامل الاقتصادي" كفيلاً بتوفير مظلة تعاونٍ واستثمار تمنح التسوية ثمناً سياسياً واضحاً، غير أنّ غياب خفضٍ ملموس للعنف، وعدم توافر انسحاباتٍ قابلة للمراقبة يبقيان ذلك الغطاء عنواناً بلا مضمون، ويعيدان كل مبادرة إلى نقطة الأساس.
انطلاقاً من هذا الواقع، يلوح مسارٌ أول يقوم على تجميد خطوط التماس عبر وقفٍ هش لإطلاق النار يتبعه جدول لإعادة الانتشار، مع إجراءاتٍ إنسانية وتبادلٍ للأسرى برعايةٍ قطريةٍ دقيقة وضغطٍ أميركي-أفريقي يوفر آليات المراقبة. وقد يترسخ، بالمقابل، مسارٌ ثانٍ يقوم على قبولٍ متدرّج بحكم الأمر الواقع الذي تفرضه "الدولة المصغّرة" في الكيفو، مع فتح قنوات تنسيق أمنية-اقتصادية دنيا هدفها منع الانفجار الكبير، وتأجيل الحسم السياسي، وهو خيار يمنح كينشاسا هدنةً داخلية، لكنه يفتح الباب أمام فدراليةٍ زاحفةٍ تناقض ذاكرة الدولة ومركزيتها. ويبقى احتمال ثالث أكثر كلفة، يتمثل في تصعيدٍ واسع إذا انهار مسار الدوحة، وتبدّلت حسابات كيغالي أو كينشاسا، بما يقرب المعارك من أطراف المدن الكبرى، ويطيح أي موعدٍ "احتفالي" في واشنطن.
خلال الأسابيع المقبلة، سيُختبر هذا المشهد عبر مجموعة مؤشرات متصلة تتلخص حول ما إذا ستفضي إليه محادثات 14 أكتوبر/تشرين الأول في الدوحة، وما إذا كانت ستنتج وقفاً لإطلاق النار، وكذلك مدى بقاء موعد 23 أكتوبر/تشرين الأول في واشنطن محتفظاً بجدواه السياسية؛ اتجاه الاشتباكات على محور أُفيرا-فيزي بوصفه مؤشراً مبكراً لمسار القتال جنوباً؛ وقدرة "الدولة المصغّرة" على تمويل نفسها في ظل شح السيولة، وإغلاق المصارف أو انهيارها تحت ضغط هذا العجز. بين هذه العناصر، ستتضح قدرة كينشاسا على التفاوض من موقعٍ ثابت بقدر ما تُحسن ضبط جبهتها الداخلية، ومن ملف الإصلاح الدستوري إلى إدارة قطاع المناجم، فيما تختبر "حركة 23 مارس" حدود سلطتها الناشئة، في واقعٍ يتقدّم فيه الميدان بسرعة.