الأربعاء 9 يوليو 2025
شكّل مفهوم «اللجوء» في العقود الأخيرة، نقطة تقاطع حرجة بين السياسات الدولية، والهويات الثقافية، والتحولات الجغرافية التي فرضها النزوح القسري. إلا أن السرديات الغالبة في الحقول الأكاديمية والإعلامية على حد سواء، تميل إلى تأطير اللاجئ بوصفه كيانًا هشًا، مُستثنى من مواطنة كاملة، ومقيدًا بمنطق الاحتواء الإنساني والإداري، أكثر من كونه فاعلًا اجتماعيًا وصاحب قرار. وغالبًا ما تُختزل تجربة اللجوء في مشاهد المعاناة والانتظار، بينما تُهمَّش الديناميات المعقدة التي يبني من خلالها اللاجئون حياتهم في المنفى، ويعيدون تشكيل هوياتهم وعلاقاتهم بالمكان والانتماء والزمن.
فيما برزت، في المقابل، خلال العقدين الأخيرين مقاربات جديدة تحاول تجاوز هذا الفهم التبسيطي، عبر تسليط الضوء على الفاعلية اليومية للاجئين، وعلى قدرتهم على التنقل الاستراتيجي، وتشكيل شبكات معقدة من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والدينية العابرة للحدود. من بين هذه المقاربات، تبرز فكرة «اللجوء الكوزموبوليتاني» بوصفها مفهوما نظريا نقديا، يسعى إلى إعادة التفكير في تجربة اللجوء لا كمجرد حالة طارئة أو هامشية، بل كأحد أشكال العيش الكوني المتجذر في السياق، الذي يدمج بين المحلي والعالمي، بين التقاليد والتحولات، وبين الاضطرار والاختيار.
إن اللاجئ الكوزموبوليتاني ليس فردًا منفصلًا عن جذوره أو غارقًا في الحنين المجرد، بل هو ذات تفاوضية، تعيد التفكير في انتمائها عبر أدوات هجينة تستعير من التراث والحداثة، من المحلي والعابر
ينبع المفهوم من تقاطع بين دراسات الهجرة، والأنثروبولوجيا الحضرية، والنظرية الكوزموبوليتانية، والتي تسعى بدورها إلى إعادة تعريف الكوزموبوليتانية بعيدًا عن صورتها النخبوية التي ارتبطت تاريخيًا بالتنقل الطوعي والامتياز الطبقي والانتماء الثقافي العالمي.
في هذا السياق الجديد، تُفهم الكوزموبوليتانية بوصفها ممارسة يومية، واستراتيجية عيش، وأفقًا أخلاقيًا ينبثق من التجربة المعاشة لمن هم في الهامش الجغرافي والسياسي. وهكذا، يصبح «اللجوء الكوزموبوليتاني» فضاءً مركبًا، تُعاد فيه صياغة مفاهيم الهوية والانتماء والمكان، عبر تفاعلات ديناميكية بين المهجّرين والبيئات الجديدة التي يجدون أنفسهم فيها.
إن اللاجئ الكوزموبوليتاني ليس فردًا منفصلًا عن جذوره أو غارقًا في الحنين المجرد، بل هو ذاتٌ تفاوضية، تعيد التفكير في انتمائها عبر أدوات هجينة تستعير من التراث والحداثة، من المحلي والعابر، من الخصوصية الجماعية والطموحات الفردية.
في هذا الإطار، تظهر المرأة اللاجئة بوصفها فاعلًا محوريًا، لا فقط لأنها غالبًا ما تكون في قلب النزوح، بل لأنها أيضًا تضطلع بدور مركزي في إعادة إنتاج المجتمع، وتحدي القيود الجندرية والثقافية التي قد تُفرض عليها، سواء من المجتمع المستقبل أو من مجتمعها الأصلي.
مع تزايد عدد اللاجئات في البيئات الحضرية، خاصة داخل القارة الأفريقية، تتضح الحاجة إلى دراسات دقيقة تبتعد عن الصور النمطية، وتقترب من التجربة الحية والمعقدة لهؤلاء النساء. هنا يتقاطع مفهوم «اللجوء الكوزموبوليتاني» مع مشروع نقدي أوسع، يُعيد الاعتبار للقصص الصغيرة، والفاعليات اليومية، والأطر الرمزية التي من خلالها تُمارس الحياة في المنفى. وتصبح المدينة، في هذا السياق، ليست فقط فضاء استقبال، بل موقعًا للتفاوض والمقاومة والإبداع المشترك.
يُعدّ مفهوم «البوفيس» من بين الإسهامات المفاهيمية الأكثر تميزًا في الكتاب، إذ يوسّع من نطاق الدراسات العاطفية للهجرة بتقديم لغة لفهم القلق والرجاء اللذين يشكّلان تجربة الشتات الصومالي
ضمن هذا الإطار النظري والنقدي، يندرج كتاب«لاجئات كوزموبوليتانيات: النساء الصوماليات المهاجرات في نيروبي وجوهانسبرغ» لنيريدا ريبيرو-مونيث (2023) بوصفه إسهاما بارزة تعيد رسم حدود النقاش حول اللجوء، والهجرة، والفاعلية النسائية، من خلال عدسة إثنوغرافية دقيقة وتفكيكية. فالكتاب لا يكتفي بعرض واقع اللاجئات الصوماليات، بل يسعى لتقديم سردية بديلة تستند إلى أصوات النساء أنفسهن، وتُبرز كيف يمارسن «كوزموبوليتانية متجذرة» تُمكِّنهن من إعادة بناء الذوات والمجتمعات عبر بيئات حضرية متعددة الطبقات.
ينطلق الكتاب من حكاية شخصية مؤثرة: امرأة صومالية تشرح أن ارتداءها للبرقع ليس فقط التزامًا دينيًا، بل أيضًا استراتيجية للاختفاء وحماية الذات. يشكّل هذا المدخل اللحظة المؤسسة لنبرة الكتاب بأكمله، حيث تتقاطع المقاربات الواقعية مع الحذر من التفسيرات الثقافوية السطحية. منذ البداية، يتضح أن هدف الكاتبة ليس فقط تقديم روايات بديلة عن النساء الصوماليات، بل تفكيك الصور النمطية الأحادية وطرح تصور أكثر تعقيدًا وإنسانية لتجاربهن المعاشة.
ويرتكز الكتاب على مفهوم «الكوزموبوليتانية المتجذرة»، وهو تصور يبتعد عن الكوزموبوليتانية النخبوية المرتبطة بالتنقل السلس والامتياز، ويقترب من واقع اللاجئات الصوماليات اللواتي يظلن مرتبطات بشبكاتهن الثقافية والدينية، حتى وهن يتفاعلن مع بيئات حضرية مثل نيروبي وجوهانسبرغ. تُقدَّم هؤلاء النساء لا كأشخاص منزوعي الجذور، بل كفاعلات يعيدن تشكيل فضاءاتهن عبر تكتيكات يومية، تبدأ من اللباس وتصل إلى التفاوض على الهوية والانتماء.
العنوان ذاته «لاجئات كوزموبوليتانيات» يحمل تناقضًا ظاهريًا، لكنه يُستخدم عمدًا لتقويض الثنائيات الشائعة بين الثبات والتنقل، أو الضحية والمتهم. تصف ريبيرو-مونيث كيف تحتفظ النساء الصوماليات بتقاليدهن وفي الوقت ذاته يبتكرن أنماط حياة هجينة: من خلال الحناء في صالونات التجميل، إلى الحضور في مجموعات الصلاة، إلى الاستخدام الإبداعي لوسائل التواصل الاجتماعي. إن الكوزموبوليتانية، في هذا السياق، ليست رفاهية، بل وسيلة للبقاء، وشكلًا من أشكال بناء الذات في مواجهة التحديات المكانية والاجتماعية.
تمارس النساء الصوماليات كوزموبوليتانية متجذرة، لا تُقصي الانتماء المحلي ولا تذوب في العولمة، بل تعيد تشكيل الذوات والمجتمعات من خلال تفاصيل الحياة اليومية: اللباس واللغة ووسائل التواصل والتدين
تبرز هذه الرؤية بقوة في الفصول التي تتناول تحوّلات حيي إيستلي في نيروبي، ومايفير في جوهانسبرغ، إلى «مقديشوهات صغيرة»؛ أي أحياء صومالية شتاتية لا تمثل العزلة بقدر ما تُجسّد أشكالًا جديدة من التجمع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي. توثق ريبيرو-مونيث بدقة كيف تساهم النساء في صناعة الاقتصاد المحلي عبر مشاريع صغيرة، وفي تشكيل فضاءات ثقافية مألوفة، مثل: الأسواق وصالونات الحلاقة والمطاعم ومساحات الصلاة. من خلال هذه التفاصيل الإثنوغرافية، يظهر بوضوح أن النساء الصوماليات لا يعشن فقط في المدينة، بل يعِدن تشكيلها ضمن منطق «محلية عابرة».
يعني ذلك أن هؤلاء النساء لا يعبرن المكان كغرباء، بل يُنتجن من خلال وجودهن منطقًا اجتماعيًا ومكانيًا خاصًا يثري تصورات الأنثروبولوجيا الحضرية حول التهجين الثقافي وصناعة الشتات. يقدّم الكتاب بذلك مساهمة مفاهيمية مهمّة من خلال مصطلحات مثل «المحلية العابرة» و«الكوزموبوليتانية المتجذرة».
يصل الكتاب إلى ذروة تحليله في الفصل الخامس، حيث تركز الكاتبة على فاعلية النساء الصوماليات. وترفض التمثيلات الثنائية: المرأة الضحية أو المرأة المتحررة وفق النموذج الليبرالي. وبدلًا من ذلك، ترسم صورة نساء يتنقلن في شبكة معقدة من الالتزامات الثقافية، والدينية، والاقتصادية. وهنّ، رغم القيود، يُقدمن على قرارات فاعلة: كالزواج العابر للحدود، وإدارة الأعمال، وتحمل أعباء الأسرة الممتدة.
أحد المفاهيم المؤثرة في هذا الفصل هو «البوفيس»، وهو مصطلح صومالي يعكس حالة من الحنين والقلق والتوق للهجرة التي لم تتحقق. تُظهر ريبيرو-مونيث أن هذا المفهوم لا يعكس فقط الرغبة في الرحيل، بل يمثل طيفًا عاطفيًا واسعًا يضم التوتر بين الحلم والواقع، وبين الأمل وخيبة الأمل. كمفهوم نظري، يفتح البوفيس الباب أمام فهم أعمق للانفعالات المرتبطة بالنزوح والهجرة العابرة للحدود، ويوفر عدسة تحليلية فريدة لدمج البعد الوجداني ضمن دراسات الهجرة.
تتميّز منهجية الكتاب بالتعدد والانفتاح. تمزج ريبيرو-مونيث بين الإثنوغرافيا التقليدية وتحليل السرد، والفنون التشاركية والأنثروبولوجيا البصرية، ما يمنح الدراسة عمقًا ومتانةً. لا تكتفي الكاتبة بجمع البيانات، بل تُسائل بنية إنتاج المعرفة ذاتها، خصوصًا في ظل موقعها كباحثة غربية بيضاء تعمل مع مجتمع أفريقي مسلم غالبًا ما تمثّله الخطابات السائدة بطريقة اختزالية.
لا يُكتب عن النساء بل يُكتب معهن، في عملية تشاركية قائمة على الحوار والإنصات والتفكّر المشترك، تُسائل بنية إنتاج المعرفة وتعيد تموضع المهمشات في قلب العملية المعرفية
تتبنى الكاتبة موقفًا نسويًا مناهضًا للاستعمار، يُبرز التوترات الأخلاقية والمعرفية التي ترافق العمل الإثنوغرافي في سياقات تهميش ونزوح. وضمن هذا الإطار، توازن بين ركيزتين منهجيتين: أولًا، السرديات بصيغة المتكلم التي تمنح النساء الحق في التعبير بلغتهن الخاصة؛ وثانيًا، الإثنوغرافيا الحوارية، حيث لا يُكتب عن النساء بل يُكتب معهن، في عملية تشاركية قائمة على الحوار والإنصات والتفكّر المشترك.
تستفيد الكاتبة من أفكار جوديث بتلر حول الأداء، وباختين حول الحوارية، لتبيّن أن الهوية ليست فئة ثابتة، بل بناء اجتماعي متحوّل يتقاطع فيه الدين، والجندر، والانتماء. يلعب اللباس، واللغة، والتدين، ومنصات مثل فيسبوك وتيك توك دورًا مهمًا في تشكيل هوية الصوماليات المسلمات في الشتات. الحجاب يُقدَّم كرمز ديني وأداة للتعبير الاجتماعي، بينما تتحول الأحياء مثل إيستلي ومايفير إلى فضاءات إنتاج ثقافي لا مجرد عبور.
الكتاب مساهمة نوعية في دراسات الشتات من منظور نسوي تقاطعي، إذ يسلّط الضوء على النساء كفاعلات في مشهد يطغى عليه الطرح الذكوري والعشائري. رغم بعض الملاحظات مثل كثافة الطرح النظري وتهميش تحليل التفاوت الطبقي، تبقى القيمة التحليلية عالية، خاصة في تركيزه على التنقلات داخل أفريقيا وإعادة التفكير في الفاعلية النسائية.
يقدّم مفهوم "البوفيس" كإضافة متميزة للدراسات العاطفية حول الهجرة، بتسليطه الضوء على الازدواجية الشعورية بين الرجاء والقلق. كما يعتمد الكتاب على إثنوغرافيا تشاركية تدمج بين السرد، والتحليل البصري، والممارسات الفنية، في نموذج أخلاقي وغير استعماري للبحث.
يرفض الكتاب الثنائيات التقليدية مثل اللاجئة/المواطنة أو الضحية/الفاعلة، ليقدّم تصورًا معقدًا للفاعلية النسائية في الشتات. إنه عمل نظري ومنهجي وأخلاقي يُعيد تشكيل فهمنا للهجرة والهوية والمدينة من منظور متجذر في الحياة اليومية.