الاثنين 23 يونيو 2025
نظرا للتطورات المتلاحقة التي شهدتها سوريا بعد الإطاحة بنظام الأسد، وخسارة روسيا قاعدتي حميميم وطرطوس، صار لزاما على الجانب الروسي البحث عن بديل استراتيجي، يضمن له الوصول إلى مناطق نفوذه داخل القارة الأفريقية، لضمان استمرار تقديم الدعم اللوجيستي إلى قواته المتمركزة هناك، وبالفعل فإن موسكو، وبعد سنوات طويلة من المفاوضات، تقترب من تحقيق مسعاها في الحصول على موطئ قدم لها على البحر الأحمر.
أعلن وزير الخارجية السوداني على يوسف الشريف، عقب انتهاء مباحثاته مع نظيره الروسي سيرجي لافروف، في 12 فبراير/ شباط الماضي، توصل الخرطوم وموسكو إلى تفاهم متبادل بشأن تنفيذ اتفاق يقضي بإنشاء قاعدة بحرية روسية في ميناء بورتسودان.
سيشكل هذا الاتفاق تطورا مهما في العلاقات الروسية السودانية، كما أنه سيلبي مساعي موسكو في تعزيز نفوذها داخل القارة الأفريقية، لا سيما أن الاتفاق يمنح روسيا الحق في إنشاء مركز لوجيستي، قادر على استيعاب ما يصل إلى 4 سفن روسية، بما في ذلك السفن العاملة بالطاقة النووية، وسيساعد ذلك بشكل رئيسي في تعويض الخسائر الاستراتيجية لروسيا في سوريا، كما سيساهم في تعزيز النفوذ الروسي بأفريقيا، ومنافسته للنفوذين الغربي والأمريكي.
تعود فكرة إنشاء قاعدة روسية بالسودان لعام 2007، حينما اقترح الرئيس الروسي فلاديميير بوتين على الرئيس السوداني السابق عمر البشير إنشاء قاعدة روسية في ميناء بورتسودان. رحب البشير فعلا بالمقترح، ووعد بدراسته، وتجدد الحديث عن القاعدة خلال عامي 2017 و2019، وتم الاتفاق حينذاك على إنشاء القاعدة العسكرية مقابل مد موسكو الجيش السوداني بمعدات عسكرية وأسلحة متطورة. في مايو/آيار 2019 تم الكشف عن مسودة الاتفاقية، لكن أعلن رئيس الأركان السوداني محمد عثمان الحسين إعادة النظر مجددا في تلك المسودة، لاشتمالها بنود من شأنها الإضرار بالمصالح الاستراتيجية السودانية، والمساس بالأمن القومي للبلاد، من جانب آخر هددت الولايات المتحدة النظام السوداني بفرض مزيد من العقوبات، في حال قبول إنشاء قاعدة روسية.
في فبراير/شباط 2023، أعلن وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، خلال مؤتمر صحفي جمعه بوزير الخارجية السوداني المكلف حينذاك علي الصادق، أن الاتفاقية في طور المصادقة، بمجرد تشكيل هيئة تشريعية في البلاد. وفي مايو/آيار الماضي، كشف مساعد القائد العام للجيش السوداني الفريق ياسر العطا، عن طلب روسي بإنشاء محطة وقود بالبحر الأحمر، مقابل مد الجيش السوداني بالأسلحة والذخيرة، وبالفعل أبدى الجانب السوداني موافقته على الطلب، وذلك في إطار شراكة استراتيجية شاملة تضم مجالات أمنية وعسكرية واقتصادية وتعدينية، إلا أن تصاعد حدة الاقتتال الداخلي وعدم الاستقرار، أدى إلى تعطل تنفيذ الاتفاقية. ظل الوضع كما هو حتى فبراير/شباط الماضي، حين أعلن رسميا عن الوصول إلى صيغة نهائية للاتفاق، بعدما كشف وزير الخارجية السوداني خلال زيارته لموسكو، ولقاءه بنظيره الروسي التوصل إلى تفاهم متبادل، والاتفاق على كل التفاصيل الخاصة بتلك القاعدة.
من بين أهم ما تضمنته مسودة الاتفاق الأخير بشأن إنشاء القاعدة البحرية، بند يتعلق بمدتها التي تصل لنحو 25 عاما، مع إمكانية تجديدها لعشر سنوات أخرى
جدير بالذكر أنه لا يمكن فصل الأحداث في سوريا، التي انتهت بالإطاحة بنظام الأسد، عن تكثيف المساعي الروسية للحصول على قاعدة عسكرية في السودان، فروسيا في حاجة إلى قاعدة تكون بوابتها الرئيسية للمرور إلى القارة الأفريقية، عوضا عن قاعدتي حميميم وطرطوس السوريتين، ناهيك عن فقدان موسكو قاعدة بربرة بالصومال خلال الحقبة السوفيتية، وهو ما أدى لإنهاء الوجود العسكري البحري الروسي بالبحر الأحمر، لذا من المرجح أن القاعدة المرتقبة ببورتسودان سيكون لها دور بارز في تسهيل الأنشطة الروسية التجارية بالقارة، مما يساهم في تمكين روسيا من توسيع نفوذها داخل الدول الأفريقية، عبر جناحها العسكري المسمى بفيلق أفريقيا.
من بين أهم ما تضمنته مسودة الاتفاق الأخير بشأن إنشاء القاعدة البحرية، بند يتعلق بمدتها التي تصل لنحو 25 عاما، مع إمكانية تجديدها لعشر سنوات أخرى، فيما يحق إنهاء الاتفاق في حال رغبة أحد الطرفين في القيام بذلك، أو في حال إضرارها بسيادة السودان وأمنها الداخلي. وتضمنت أيضا بندا يؤكد على تزويد الجيش السوداني بأسلحة روسية متطورة، إلى جانب تدريب القوات المسلحة السودانية، وتطوير مهاراتها القتالية. كما حددت الاتفاقية حجم التواجد العسكري بالقاعدة، بحيث لا يتجاوز 4 سفن حربية، وألا يتجاوز تعداد القوات عن 300 عنصر، إلى جانب التزام روسيا بحماية وتطوير البنية التحتية للقاعدة.
فيما تسمح الاتفاقية بتعزيز التعاون الروسي السوداني من خلال خمس وحدات؛ وحدة عسكرية معنية بالجانب العسكري، خاصة ما يتعلق بتطوير الأسلحة، ووحدة أمنية معنية بحماية الأفراد والمنشآت، إلى جانب وحدة عقارية معنية ببناء مدن جديدة، وتطوير المنشآت المتهالكة، ووحدة زراعية معنية بتطوير وتحسين القطاع الزراعي والحيواني، بجانب تعزيز مبدأ التنمية المستدامة، وأخيرا وحدة تعدينية معنية بقطاع التعدين، عبر العديد من الشركات العاملة في مجال استخراج الذهب واليورانييوم والماس. أما على صعيد تأمين القاعدة، أشارت بنود الاتفاقية إلى تولي الجانب السوداني مهمة حماية الأمن الخارجي للقاعدة، بينما تقع مهمة حماية الحدود المائية والجوية والأمن الداخلي للقاعدة على الجانب الروسي.
دفعت العديد من المصالح المشتركة الجانبين للتحرك من أجل إتمام تلك الاتفاقية، لعل أبرزها مساعي السودان تطوير قدراته العسكرية، فالخرطوم تسعى لضم منظومات الدفاع الجوي اس 300، كما أعرب المجلس العسكري عن رغبته في شراء صفقة مقاتلات سوخوي 30 و35 عوضا عن طائرات ميج 29، فالسودان يسعى إلى تحقيق توازن تسليحي. كما فعلت إثيوبيا بعدما طورت سلاحها الجوي، عبر ضم مسيرات صينية وتركية، وهو ما مكنها من تحقيق انتصار على جبهة تحرير تيجراي. في المقابل تسعى موسكو للحفاظ على علاقاتها مع السودان، باعتبارها سوق مهم لتجارة الأسلحة، حيث بلغ حجم الصادرات الروسية إلى السودان خلال العقدين الماضيين حوالي 997 مليون دولار.
يعتبر البعد الاقتصادي أيضا ضمن محفزات إنشاء القاعدة، حيث تتصاعد الاحتياجات الغذائية، على خلفية استمرار الحرب التي أضرت بكافة القطاعات، وتسببت في حالة انعدام للأمن الغذائي، ناهيك عن تأثر واردات القمح بالحرب الروسية الأوكرانية، لذا صار لزاما التوجه نحو روسيا للاستفادة من إمدادات الحبوب والزيوت. وبالفعل قدمت روسيا عروضا بتخفيضات على الصادرات الغذائية للدول الحليفة، حيث حصلت السودان في مارس/ أذار 2022 على منحة روسية من القمح بلغت 20 ألف طن.
لا يمكن فصل الأحداث في سوريا، التي انتهت بالإطاحة بنظام الأسد، عن تكثيف المساعي الروسية للحصول على قاعدة عسكرية في السودان، فروسيا في حاجة إلى قاعدة تكون بوابتها الرئيسية للمرور إلى القارة الأفريقية
في ذات السياق، تزداد الحاجة السودانية لحليفها الروسي بشكل كبير خلال تلك الفترة، نظرا لتراجع الدعم الدولي، وتوقف الكثير من المساعدات، لاسيما مع تولي ترامب حقبة رئاسية جديدة. ناهيك عن تدهور العلاقة بين المجلس العسكري الانتقالي، وبعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية يونيتامس، على خلفية إعلان وزارة الخارجية الشروع في سلسلة إجراءات لضبط عمل البعثة.
من جهة أخرى، يسعى السودان إلى حسم الحرب، مما يدفع المجلس العسكري لتسريع إتمام الاتفاقية مع روسيا، بغية الحصول على تعزيزات عسكرية لدعمه في مواجهة قوات الدعم السريع، فقد وجد المجلس العسكري في روسيا حليفا استراتيجيا، يمكن الاعتماد عليه في الحصول على الأسلحة والذخائر، ناهيك عن الدعم السياسي الروسي في المحافل الدولية، لاسيما داخل مجلس الأمن، لمواجهة الموقف الغربي والأمريكي المناهض للمجلس العسكري. فيما تتضمن الاتفاقية توسيع الشراكة الاقتصادية مع الجانب الروسي، ما من شأنه تخفيف وطأة العقوبات المفروضة على السودان، لا سيما أن الاتفاقية ستقدم دعما اقتصاديا يشمل مجالات عدة كالقمح والوقود والغاز، وهو ما سيساهم في تعزيز موقف الجيش في الحرب.
تسعى روسيا من رواء إنشاء قاعدة لها في السودان إلى ضمان إيصال الدعم اللوجيسيتي إلى تمركزاتها العسكرية بالدول الأفريقية، حيث ينتشر الفيلق الأفريقي الروسي بشكل كبير في غالبية دول إقليم الساحل والصحراء. ففي أفريقيا الوسطى ينتشر قرابة 2000 جندي، مهمتهم الأساسية حماية النظام الحالي برئاسة فوستان آرشانج تواديرا، الحليف الرئيسي لروسيا. وفي مالي ينتشر قرابة 1000 عنصر، معنيين بحماية المجلس العسكري من حركات التمرد، إلى جانب العمل على مواجهة الجماعات المسلحة، والتنظيمات الجهادية شمال مالي. وتشهد غينيا الاستوائية انتشار 800 عنصر، كل ذلك يعجل من وقف الإمدادات اللوجستية مرادفا لانهيار هذه الحكومات والمجالس العسكرية الحليفة لموسكو، وهو ما سيؤثر على النفوذ الروسي بالقارة.
رغم المصالح المشتركة التي يمكن أن يحصدها الجانبين جرَاء إتمام صفقة إنشاء قاعدة عسكرية روسية بالسودان، لكن لا يمكن تجاهل جملة من التداعيات الخطرة التي ستسببها تلك الخطوة، فعلى سبيل المثال يتوقع أن يؤدي التوصل إلى تفاهمات حول الصيغة النهائية لإنشاء قاعدة روسية بالسودان إلى غضب أمريكي. لاسيما في ظل مساعي واشنطن لفرض عزلة دولية على روسيا، والعمل على تحجيم النفوذين الروسي والصيني بالقارة الأفريقية، والعمل على صياغة ترتيبات إقليمية جديدة بمنطقة القرن الأفريقي. لذا يتوقع أن تشهد الفترة المقبلة ضغوطا أمريكية على السودان، سواء من خلال فرض عقوبات اقتصادية، أو منع مساعدات، أو حتى على صعيد تقديم دعم عسكري غير مباشر لقوات الدعم السريع في مواجهة الجيش السوداني.
تسعى روسيا من رواء إنشاء قاعدة لها في السودان إلى ضمان إيصال الدعم اللوجيسيتي إلى تمركزاتها العسكرية بالدول الأفريقية، حيث ينتشر الفيلق الأفريقي الروسي بشكل كبير في غالبية دول إقليم الساحل والصحراء
من جهة أخرى نجد أن التوصل لتفاهمات حول إنشاء القاعدة العسكرية من شأنه تصعيد وتيرة الحرب السودانية، حيث تثير تصريحات المجلس العسكري حول رفضه العودة إلى منبر جدة، ورغبته في إنهاء الحرب الحالية عسكريا مخاوف بشأن تقويض الحل السياسي. كما يعزز رغبة القيادة السودانية الحالية في حسم الحرب عسكريا، حصولها على دعم تسليحي روسي. من جهة أخرى فإن طول أمد الحرب السودانية من شأنه تدويل الصراع، ودخول أطراف خارجية، مما يوسع من دائرة الصراع، وهو ما سينعكس على الأمن الإنساني، ناهيك عن تدمير البنية التحتية للبلاد.
هناك العديد من التحديات التي ربما تعرقل استكمال تنفيذ اتفاقية إنشاء القاعدة العسكرية الروسية، لعل أبرزها التشكك في شرعية الاتفاقية، حيث يواجه المجلس العسكري تحد يتعلق بمشروعيته السياسية، ومدى قانونية الاتفاقيات التي سيوقع عليها، لا سيما وأن توقيع مثل هذا الاتفاق يتطلب موافقة البرلمان السوداني، وهو ما يصعب تحقيقه في الوقت الراهن، نظرا لتوقف مؤسسات الدولة بسبب تصاعد وتيرة الحرب، لذا هناك حالة من التشكك إزاء قانونية هذا الاتفاق.
كما يثير الاتفاق تحديا آخر يتعلق بردود الفعل السعودية والمصرية، فقد وقعت الرياض والخرطوم اتفاقية أمنية تقضي بعدم وجود أي قوات أجنبية، أو منح قواعد لدول أجنبية على ساحل البحر الأحمر، وسبق أن أعلنت الرياض رفضها إنشاء قاعدة عسكرية روسية على البحر الأحمر، نظرا لاعتبارها ضمن نطاق أمنها القومي. أما على الجانب المصري، فقد شددت القاهرة في مناسبات عدة على رفضها عسكرة البحر الأحمر، باعتباره البوابة الجنوبية لقناة السويس، ومن شأن إنشاء قواعد عسكرية على سواحله تحوله إلى ساحة للتنافس الدولي بين الدول الكبرى، وهو ما سيشكل تهديدا للأمن القومي المصري.
يتوقع أن تشهد الفترة المقبلة ضغوطا أمريكية على السودان، سواء من خلال فرض عقوبات اقتصادية، أو منع مساعدات، أو حتى على صعيد تقديم دعم عسكري غير مباشر لقوات الدعم السريع في مواجهة الجيش السوداني
يسعى السودان إلى تنويع خياراته الاستراتيجية، وعدم الاعتماد على بديل واحد. كما يسعى إلى موازنة علاقاته مع كافة الفواعل الدولية، في مسعى لتحقيق أكبر استفادة. فمن جهة، يطمح لتطوير منظوماته العسكرية، وذلك لحسم الحرب. ومن جهة أخرى، يحاول الضغط على الغرب لتخفيف وطأة العقوبات الاقتصادية، لذا تعمل الخرطوم من حين لآخر على التلويح بورقة القاعدة العسكرية الروسية.
مع ذلك يتسم المشهد السياسي بالضبابية حتى الآن، وهو ما يجعل هناك حالة من التشكك في إمكانية تنفيذ الاتفاق على المدى القريب، لاسيما في ظل أزمة الشرعية التي يواجها النظام السوداني. ناهيك عن تصاعد حالة عدم الاستقرار الذي تشهده البلاد، وعدم تمكن أي من طرفي الصراع حسم الحرب، إلى جانب الضغوط الخارجية إقليميا ودوليا، والتي سيكون لها دورا كبيرا في عرقلة تنفيذ الاتفاق أو تأجيل تنفيذه على المدى القريب.