تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأربعاء 9 يوليو 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
رأي
العنوان

روسيا: أي أفق للفيلق الأفريقي في مالي؟

18 يونيو, 2025
الصورة
روسيا: أي أفق للفيلق الأفريقي في مالي؟
Share

أعلن مطلع الشهر الجاري (8 يونيو/ حزيران) عن إنهاء مجموعة "فاغنر" الروسية مهمتها رسميا في مالي، بعد حضور دام أكثر من أربع سنوات، منذ استيلاء الجيش هناك على السلطة في أحدث انقلاب عسكري عام 2021، أعقبه طرد للقوات الفرنسية والقوات الأممية التي كانت تشارك في التصدي للتنظيمات المتطرفة في مناطق مختلفة من البلاد، وحلت هذه المجموعة الروسية محلها بعدما داع اسمها في القارة بسبب خدماتها الأمنية في أكثر من دولة.

لا يؤشر رحيل فاغنر عن مالي على أن النظام في باماكو بسط سلطته على مفاصل الدولة، كما لا يعني أيضا أن مهمة استتباب الأمن في مختلف أنحاء البلاد تمت قد تمت بنجاح. وقبل ذلك كل لا يعني في شيء أن النظام العسكري الحاكم استعادة السيادة التي رفعها دوما شعارا يسعى وراءه، ومطية لتبرير جل قرارات النظام في الداخل والخارج على حد سواء.

الفيلق الأفريقي بدل فوضى فاغنر

جاء في بيان الجلاء من الأراضي المالية نشرته مجموعة فاغنر على تطبيق تلغرام أن "المهمة اكتملت"، ما يعني أن "شركة فاغنر العسكرية الخاصة تعود إلى الوطن"، ثم أضاف فيما يشبه تفسيرا لدواعي المغادرة أن فاغنر "ساعدت الوطنيين المحليين على بناء جيش قوي ومنضبط قادر على الدفاع عن أرضهم. عادت جميع عواصم المناطق إلى سيطرة السلطات الشرعية".

قرأ الكثيرون الخبر باعتباره انسحابا من مالي، وبداية تقهقر الوجود الروسي في منطقة الساحل، وسندهم في ذلك ما جاء في البيان من "نجاح في المهمة" لتغليف القرار والتغطية على الفشل الروسي هناك. لكن البيان أضاف، في ما يشبه الاستدراك، بأن "روسيا لا تفقد موطئ قدمها، بل على العكس، تواصل دعم باماكو الآن على مستوى أكثر جوهرية".

بهذه الخطوة الاستراتيجية، تكون موسكو قد كثفت تواجدها في مالي تحت مظلة رسمية، فالفيلق الأفريقي حسب تقرير لوكالة رويترز يضم نحو 80٪ من مقاتلي فاغنر، لكنه يمثل قوة نظامية بنحو 45 ألف مقاتل يتوزعون على عدد من الدول في المنطقة على رأسهم مالي وأفريقيا الوسطى وبوركينافسو والنيجر

لكن الحقيقة خلاف ذلك، فموسكو لم تخرج من مالي بقدر ما غيرت خطتها، فاستبدلت مجموعة فاغنر بقوات "فيلق أفريقيا"، وهي قوة شبه عسكرية خاضعة لسيطرة الكرملين، تأسست بدعم من وزارة الدفاع الروسية بعد أن قاد الثنائي القيادة؛ يفغيني بريغوجين وديمتري أوتكين، في فاغنر تمردا فاشلا في يونيو/ حزيران 2023 ضد قيادة الجيش الروسي. ما يكشف أن الخطوة الروسية في النهاية ليست انسحابا من المنطقة، ولا تراجعا عن التواجد في أفريقيا بقدر ما هي تموضع جديد أكثر تنظيميا وعمقا وتأثيرا.

تزيد المعطيات على الأرض من واقعية هذا التفسير، فالواقع الأمني في مالي، خلافا لما ورد في البيان، شهد تراجعا كبيرا بفقدان الجيش السيطرة على الكثير من المناطق والثكنات الحيوية، حتى بات النظام العسكري في باماكو المدعوم من قبل الروس مهددا بعجزه على تحقيق أي تقدم في الميدان، ما دفعه نحو إحكام قبضته العسكرية بشكل تدريجي، بدءا بإقالة رئيس الوزراء المدني شوغيل كوكالا، شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وتعيين اللواء عبد الله مايغا عضو المجلس العسكري مكانه، وصولا إلى قرار تعليق عمل الأحزاب السياسية والهيئات المدينة في البلاد مطلع الشهر الماضي.

بهذه الخطوة الاستراتيجية، وخلافا للشائعات، تكون موسكو قد كثفت تواجدها في مالي تحت مظلة رسمية، فالفيلق الأفريقي حسب تقرير لوكالة رويترز يضم نحو 80٪ من مقاتلي فاغنر، لكنه يمثل قوة نظامية بنحو 45 ألف مقاتل يتوزعون على عدد من الدول في المنطقة على رأسهم مالي وأفريقيا الوسطى وبوركينافسو والنيجر.

تنتقل موسكو إذن نحو مرحلة جديدة في الوجود يتجاوز مستوى القتال في الميدان التي كانت مهمة موكولة لمجموعة فاغنر، نحو التغلغل في بنية الأنظمة بشكل رسمي اعتمادا على قوات "فيلق أفريقيا"، كما جاء على لسان الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف، حين سئل عن الانسحاب مؤكدا أن "الوجود الروسي في أفريقيا آخذ في التنامي" وزاد كاشفا تفاصيل الخطة الجديدة "نتطلع حقا لتطوير تفاعلنا مع الدول الأفريقية بشكل شامل، مع التركيز بصورة أساسية على الأنشطة الاقتصادية والاستثمارية" مضيفا بأن "هذا يتوافق ويمتد أيضا إلى مجالات حساسة مثل الدفاع والأمن".

مالي وتكريس الاستقواء بالأجنبي

لم يتحقق شيء من الوعود الوردية التي قطعها النظام العسكري في باماكو أمام الشعب، عقب انقلابه على سلطة مدنية منتخبة، بدعوى عجزها على ضمان الأمن وفشلها في تحقيق الاستقرار، ما جعلها تحول البلاد دولة مستباحة من خلال الاستعانة بفرنسا التي قادت لسنوات عديدة العمليات العسكرية ضد المتطرفين. فالأوضاع الأمنية والاجتماعية في البلاد تزداد سوء، ونطاق التمرد والفوضى يتسع يوما بعد آخر، مع تزايد منسوب المخاطر المحدقة بالدولة.

تعيش مالي وضعا معقدا للغاية يصعب اختزاله في ثنائية أو ثلاثية، فمستويات الصراع هناك متداخلة ومترابطة بشكل كبير، حيث يمتزج المحلي مع الإقليمي والدولي من ناحية، ومن ناحية أخرى تتشابك الخيوط على الصعيدين الداخلي والإقليمي مشكلة مسارات خاصة. فالجيش، وبالرغم من مسكه زمام السلطة، يبقى مجرد لاعب في الساحة إلى جانب فرقاء آخرين في الداخل؛ الأحزاب السياسية القبائل والحركات الدينية والتنظيمات المتطرفة... ومثلهم في الخارج حيث تعمل قوى إقليمية عدة على إدراج مالي في نطاق الأمن القومي لها (المغرب والجزائر وموريتانيا...)، فضلا عن قوى وافدة مثل تركيا وإيران...

لم يتحقق شيء من الوعود الوردية التي قطعها النظام العسكري في باماكو أمام الشعب، عقب انقلابه على سلطة مدنية منتخبة، بدعوى عجزها على ضمان الأمن وفشلها في تحقيق الاستقرار، ما جعلها تحول البلاد دولة مستباحة من خلال الاستعانة بفرنسا التي قادت لسنوات عديدة العمليات العسكرية ضد المتطرفين

يظهر أن موسكو تراجع، على ضوء هذه المعطيات، تجربة أربع سنوات من حضور فاغنر في مالي، وتأكد لديها أن المسألة عبء أكثر من كونها حلا. فالدعم العسكري الظاهري للنظام في باماكو كانت له مساوئ، لعل أبرزها تأكل شعبية النظام الحليف أمام مختلف أطياف المجتمع المالي، فضلا عن تحويل مالي إلى بؤر للتوتر تستقطب كل المناوئين لروسيا، برغبتهم في دعم قوى محلية أو إقليمية لنيل من موسكو، وقد سبق لكييف أن نهجت هذه الخطة، بذلك يتحول الماليون إلى حطب في معركة لا ناقة ولا جمل لهم فيها.

وقبل ذلك، تسعى روسيا إلى ترسيخ وجود مؤسساتي في أفريقيا، بعيدا عن الصورة المثيرة للجدل التي ارتبطت بمجموعة فاغنر في السنوات الأخيرة، لا سميا مع ظهور تقارير تتحدث مبالغ تصل إلى 10 ملايين يور شهريا للمجموعة من المجلس العسكري. ناهيك عن شيوع اتهامات من منظمات حقوقية للمجموعة بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم عرقية في شمال مالي، من أحدثها واقعة استهداف قافلة أسفرت عن مقتل أكثر من 20 شخصا من الطوارق بينهم أطفال ومسنون.

ترمي موسكو بهذه الخطة التواري عن الأنظار بالتغلغل في هياكل ومؤسسات الدولة في مالي، اعتمادا على قوات محكمة التنظيم، تعمل خلف الكواليس بعيدا عن الأضواء والمراقبة والرصد. لكن المهمة لن تكون سهلة مطلقة، فالفيلق الذي يبقى في النهاية مجرد تدوير من الكرملين لقوات فاغنر أمام تحد كبير في مساعدة حليفه على استعادة الأمن والاستقرار في مناطق شاسعة في البلاد تتقاسمها سلطة المتمردين من أبناء البلد والقبائل والجماعات المسلحة العابر لمنطقة الساحل.

مع تزايد الأزمات والتقلبات في مسرح الأحداث داخل مالي، من جهة القيادة العسكرية الحاكمة ومن جهة حفائها (خصوصا روسيا) ومناوئين من داخل البلد وفي الإقليم، يجد الماليين أنفسهم أمام تكرار للتجربة الفرنسية الذي دامت عقودا من الزمن، ولسان حالهم يردد سؤال عريض مفاده: هل أصبحت مالي دولة للخوف؛ فالأفراد عالقون بين بشط حلفاء النظام وجبروت التنظيمات المتطرفة، لقد بات الخوف يلاحقهم من كل جانب؟