الأربعاء 19 نوفمبر 2025
بعد مرور خمسة وعشرين عامًا على مؤتمر عرتا للمصالحة الصومالية، تبرز جيبوتي كلاعب إقليمي وطرف مؤثر، في إعادة ترتيب وتشكيل المشهد السياسي الصومالي، ليس فقط من خلال استضافتها للمؤتمر، بل عبر دورها المتعدد الأبعاد الذي جمع بين الوساطة الدبلوماسية والدعم الأمني واللوجستي. لقد مثّل مؤتمر عرتا عام 2000 حدثا مفصليا، وتحولا بارزا في مسار المصالحة الوطنية، حين تجاوز الأسلوب والنموذج التقليدي القائم على محادثات أمراء الحرب، نحو فتح المجال أمام مشاركة شعبية واسعة، مما أضفى على مخرجاته قبولا شعبيا في تاريخ المبادرات الصومالية.
نظرا لموقع جيبوتي الجيواستراتيجي، حيث تقع عند مفترق البحر الأحمر وخليج عدن، وبفضل روابطها التاريخية والثقافية مع الصومال، استطاعت أن توظف هذه العوامل لتكون وسيطًا محايدا ومؤثرًا في جهود إعادة بناء الدولة الصومالية، بعد فقدان السلطة المركزية عام 1991، ومن ثم، لم يكن دورها مقتصرًا على توفير قاعة المفاوضات، بل امتد إلى تحركات وجهود دبلوماسية نشطة في المحافل الدولية، لا سيما الأمم المتحدة، حيث ألقى الرئيس إسماعيل عمر جيلي خطابًا تاريخيًا في الدورة الرابعة والخمسين للجمعية العامة في سبتمبر/أيلول 1999 دعا فيه إلى تبني رؤية استراتيجية شاملة، وخارطة طريق لحل الأزمة الصومالية، مؤكدًا على ضرورة إشراك المجتمع المدني، وتوسيع قاعدة التمثيل السياسي بعيدًا عن حصرها في أمراء الحرب وزعماء المليشيات القبلية.
لم يكن هذا الخطاب مجرد رسالة سياسية، بل كان بمثابة الشرارة التي أطلقت سلسلة من التحركات الدولية والإقليمية، توجت بعقد مؤتمر عرتا في مدينة عرتا الجيبوتية. وقد استمر المؤتمر لأشهر، واعتمد منهجًا استيعابيًا وسياسة شمولية، حيث ضم ممثلين عن جميع القبائل الصومالية، إلى جانب شخصيات من المجتمع المدني والمثقفين والعلماء والنساء. منح هذا التوسع في التمثيل المؤتمر مصداقية شعبية ووطنية، وجعل مخرجاته أكثر قبولًا لدى مختلف الأطياف الصومالية مقارنة بالمبادرات السابقة التي كانت تقتصر على أمراء الحرب والنخب السياسية.
هذا الدور المزدوج، الذي جمع بين الاحتضان السياسي والدعم الأمني، يعكس رؤية جيبوتي الاستراتيجية في حفظ الاستقرار ومنع الانهيار، من جانب، وتعزيز مكانتها كشريك إقليمي أساسي في جهود الاستقرار من جانب آخر
من أبرز إنجازات مؤتمر عرتا تأسيس حكومة وطنية انتقالية، واختيار عبد القاسم صلاد حسن رئيسًا لها، إلى جانب تشكيل برلمان انتقالي، هذه الخطوة أعادت للصومال مؤسساتها المركزية لأول مرة منذ انهيار الدولة، وحظيت باعتراف دولي، بما في ذلك من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، ولقد مثّل هذا الاعتراف نقطة تحول في إعادة إدماج الصومال ضمن الخارطة السياسية الإقليمية والدولية، وأسدل الستار على عقد من عدم الاستقرار والانقسام السياسي.
وفي سياق متصل، في سبتمبر/أيلول 2000، ألقى الرئيس عبد القاسم صلاد حسن خطابًا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أكد فيه أن الحكومة الجديدة هي نتاج جهود المجتمع المدني الصومالي، مشددًا على الأساس الشعبي لشرعيتها، هذا الخطاب لم يكن مجرد إعلان سياسي، بل كان تأكيدًا على استعادة السيادة الوطنية، حيث أعلن إعادة تفعيل البرلمان إلى مقديشو وبيدوا.
لكن الدور الجيبوتي لم يتوقف عند حدود الوساطة السياسية، بل امتد ليشمل دعمًا عمليًا في بناء الدولة الصومالية، ففي ظل حالة عدم الاستقرار في الداخل الصومالي، تحولت جيبوتي إلى "عاصمة دبلوماسية بديلة"، وفرت ملاذًا آمنًا للقيادة الصومالية المؤقتة، ومكنت الحكومة من مواصلة أعمالها بعيدًا عن تهديدات الفصائل المسلحة. هذا الاحتضان السياسي لم يكن مجرد تعبير عن حسن نية، بل كان ضرورة استراتيجية لضمان استمرارية الدولة، والحفاظ على هيكلها المؤسسي في ظل التحديات الأمنية الجسيمة.
إن مؤتمر عرتا لم يكن مجرد حدث سياسي عابر، بل كان مرحلة تأسيسية ومفصلية في إعادة بناء الدولة الصومالية، من منطق أمراء الحرب إلى منطق المشاركة الشعبية، ومن المبادرات الضيقة إلى مبادرات شاملة، تستند إلى إرادة داخلية وقرار محلي
علاوة على ما سبق، قدمت جيبوتي دعمًا أمنيًا ولوجستيًا، تمثل في تدريب آلاف الجنود والضباط الصوماليين، إيمانًا منها بأن الاستقرار السياسي لا يمكن أن يتحقق دون وجود جيش وطني قادرة على حفظ النظام، هذا الاستثمار في الكوادر الأمنية مثل حجر الزاوية في استراتيجية بناء الدول. ما يؤكد أن جيبوتي لم تكن مجرد وسيط سياسي، بل حليفا استراتيجيا في بناء المؤسسة الأمنية في الصومال، هذا الدور المزدوج، الذي جمع بين الاحتضان السياسي والدعم الأمني، يعكس رؤية جيبوتي الاستراتيجية في حفظ الاستقرار ومنع الانهيار، من جانب، وتعزيز مكانتها كشريك إقليمي أساسي في جهود الاستقرار من جانب آخر.
على المستوى الدولي، حظيت المبادرة الجيبوتية بدعم سياسي وقبول دولي معتبر، حيث اعتُبرت حجر الزاوية وأساس جهود الأمم المتحدة لحل الأزمة الصومالية. من هذا المنطلق، أقر وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية سيرجيو فييرا دي ميلو بمركزية هذه المبادرة، مشيرًا إلى أن خطبة الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيلي لعام 1999 كانت الأساس الذي انطلقت منه المشاورات لعقد مؤتمر المصالحة الوطنية، وكان هذا الدعم ممتدًا إلى مجلس الأمن، حيث طالبت مجموعة من الدول بالمشاركة في مناقشات المجلس حول الحالة في الصومال، تأكيدًا على مركزية المبادرة الجيبوتية في الأجندة الإقليمية والدولية.
في هذا السياق، كان الموقف التونسي من أبرز المواقف الداعمة حيث وصفت تونس المبادرة بأنها بارقة أمل للمنطقة بأسرها، ودعت المجتمع الدولي إلى تقديم مساعدات مالية لتسهيل إعادة بناء المؤسسات الصومالية، وتمكين الحكومة الانتقالية من أداء مهامها، مما منح الشرعية الصومالية الناشئة حصانة سياسية وحماية من محاولات الإقصاء أو التشكيك.
منح هذا التوسع في التمثيل المؤتمر مصداقية شعبية ووطنية، وجعل مخرجاته أكثر قبولًا لدى مختلف الأطياف الصومالية مقارنة بالمبادرات السابقة التي كانت تقتصر على أمراء الحرب والنخب السياسية
في ضوء كل هذه المعطيات، يمكن القول إن مؤتمر عرتا لم يكن مجرد حدث سياسي عابر، بل كان مرحلة تأسيسية ومفصلية في إعادة بناء الدولة الصومالية، من منطق أمراء الحرب إلى منطق المشاركة الشعبية، ومن المبادرات الضيقة إلى مبادرات شاملة، تستند إلى إرادة داخلية وقرار محلي، فجمهورية جيبوتي من خلال هذا الدور، رسخت مكانتها باعتبارها "المحتضن الدبلوماسي"، الذي وفر المظلة السياسية واللوجستية للحكومة الانتقالية في أسوء الظروف، بالتوازي مع دور "الشريك الأمني"، من خلال بناء قدرات الجيش الصومالي. هذا الالتزام الثنائي، المدعوم بحصانة سياسية إقليمية ودولية، لم يقتصر على إخراج الصومال من الجمود السياسي، بل مكنها من استعادة صوتها وحضورها في المحافل الدولية، مما تبرز أهمية توثيق تجربة مؤتمر عرتا ومبادرة جيبوتي.
لكن، بعد مرور خمسة وعشرين عامًا على هذه اللحظة المفصلية، هل يمثل مؤتمر عرتا والمبادرة الجيبوتية بالفعل نموذجًا قابلاً للتكرار في حل النزاعات الإقليمية كالسودان مثلا، أم أنه كان حالة استثنائية ارتبط نجاحها بظروف تاريخية وجغرافية؟