تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

السبت 8 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
فكر

قومٌ هجَروا أدبهم، ورأوا الفلسفة نافذةً تؤدي إلى الكفر

25 سبتمبر, 2025
الصورة
قومٌ هجَروا أدبهم، ورأوا الفلسفة نافذةً تؤدي إلى الكفر
Share

أشانتي جزء لا يتجزأ من إرثنا الأفريقي، وهي مملكة الأجداد في غانا قبل كل شيء. أشانتي أبوها دبّ روسي وأمها أفريقية من سمراوات القارة. التقيتُ بها قبل خمس سنوات في أمستردام أثناء جائحة كورونا. وقبل أن أتخذها حبيبة، دارت بيننا لقاءات عجيبة. ومعظم حبيباتي كنّ مهجّنات، أقصد بهن ازدواجية الهوية. حتى زوجتي الشرعية مهجّنة، فهي من الأفروترك، ترعرعت في مناطق بحر إيجه ومرمرة. أجدادها جاؤوا إلى أرض الأناضول في القرن الثامن عشر. الأفروترك كُثر في تركيا ولهم أعياد ومناسبات خاصة، مثل "عيد العجل" الذي يُقام سنوياً. ودائماً ما أتلمّس في وجه زوجتي السحنة السودانية، وهذا ما دفعني للزواج بها بلا شك هناك أسباب أخرى ايضاً لا داعي لذكرها، أحفظ بها بدافع الغيرة، حتى لا أكون كاتباً يكتب حقيقته المعاشة.

دعك من هذا ولنرجع إلى الذكريات في مدينة أمستردام مع أشانتي. أيامي معها كانت اختصارها جملة مفادها: "عشانك إنتِ". فهي من حركة ألبان أفريكانزم، وتدعم هذا الفكر من حرّ مالها. تحب القائد البوركيني توماس سانكارا كثيراً، وتقول لي: "أحببتُ أفريقيا من أجل هذا القائد".

ذات يوم تفحّصت أشانتي يدي وقالت: "كم تملك لوناً جميلاً يا ابن بلال. يا ليت لون بشرتك لي. يعجبني لونك لأنه لا يتأثر بحرارة الشمس، يبقى كما هو، كأصل لون البشر. لكن ما يثير دهشتي وفضولي هو كيف يكون باطن كفّك وباطن قدمك أبيض ناصع اللون؟".

الأدب السوداني الخالص قد يكون نواة تلمّ شتاتنا الفكري والأيديولوجي والحزبي والإثني الضيق

فقلتُ لها: "لا أعلم السر في ذلك يا سيدتي، ولكن إذا نظرتِ حتى إلى بؤبؤ عينيكِ الجميلتين، والكحل الذي على حاجبيكِ، لوجدتِ اللون نفسه. بل حتى الكعبة التي نسجد نحوها ونؤدي فيها مناسكنا من ذاك اللون". فهَمَسَت لي قائلة: "لو أن الألوان تُقدَّس يا عزيزي، لقدَّستُ لون الكعبة، شاكراً ربي أنعمتَ فزد". حينها تبسّمتُ وأردفتُ جملة لأجعلها مرحة: "إياكِ أحب"، فأجابتني لتكمل جملتي: "ولك من الكأس نفسه يا لون عيني". ساورني الخجل، ولكنني تمكنت من قول "وبك أستعين، يا لون كفّي ويا بياض أسناني" فأنا سريع البديهة أمام الأنثى. وكل شاعر وحيــه مغروس في وجه حرمة.

ما سبق من أحداث لم أودّ سرده، ولكن القلم، أقصد العقل، أكثر جرأة من الراوي. دعني أكتب جواباً إلى أشانتي، من فضلك يا عقل، وإن كنتَ عاقلاً أصلاً، فاتركني أنا وشأني أقصد أشانتي. أُريد أن أخلُو مع نفسي وأكتب إلى حبيبتي لأخبرها عن بلادي.

من / حسن دنيا إلى عزيزتي أشانتي...

سلام لكِ من أصحاب اليمين وسلام على أيامنا البيضاء، وبعد:

أشانتي دعيني أعود بك إلى الماضي، إلى أيام الابتدائية والثانوية. كنا نحب مواد التاريخ والجغرافيا والأدب والبلاغة، لكننا كنا نكره مادة القواعد. ومنذ ذاك الوقت نحن متمرّدون حتى على قواعد اللغة. كرهنا أستاذ قواعد النحو من دون سبب. والتمرّد الذي بدأ بقواعد النحو كبر فينا. وبعد دخولنا الجامعة أصبحنا لا نُطيع قوانين كثيرة. أنشأنا منتدى "الطلاب الأحرار"، وخرجنا في مسيرة طالبنا فيها إدارة الجامعة أن تدرج مادة الفلسفة ضمن المواد الجامعية. كنا ندرك تماماً أن سبب تخلف أمتنا السودانية هو أن الفلسفة تعتبرها نافذة تؤدي إلى الكفر. لذلك لم يكن للفلسفة وجود في مناهجنا. لأن الرقيب يخشى من جيلاً يقرأ الفلسفة. ببساطة، لا يريد جيلاً ناقداً له، بل يريد جيلاً تحت إمرته؛ ليكون الفرد والمجتمع مؤدلجين سياسياً وعقدياً وإثنياً. فلو وُضعت الفلسفة في المناهج لبدأنا نفكر في كل شيء. كما أسلفتُ، الفلسفة في ديارنا مرادفة للكفر. وهناك قادة ومفكرون كثر، بسبب أفكارهم وآرائهم في بعض الأمور والمواقف، أُخرجوا من الملة. ولا أقصد هنا الملة الدينية فقط، بل الملة السياسية والاجتماعية والثقافية والأيديولوجية. فأنتِ تُعدّين من "الملة السودانية" فقط إن لم تقل شيئاً مخالفاً لهم.

في بوادينا الكلب أكثر قيمة من الإنسان. لأننا لا نقبل بقتل الكلب الذي يرعى قطيعنا، لكننا نرضى بقتل الإنسان. هي عقيدة جُلبت إلينا، ولا أعلم هل تربّينا عليها أم تربّت فينا

أشانتي، هناك سلطتان في البلاد: حكومة "أمل" وحكومة "تأسيس". فإن كنتِ من "أمل" قتلتك "تأسيس"، وإن كنتِ من "تأسيس" قتلتك "أمل". خياران أحلاهما مُرّ، وكلاهما عسكريون، والعسكر بطبيعتهم لا يعرفون سوى لغة القتل. وكما تعلمين في بلادنا، كل من فشل في حياته صار جندياً. فالجندية عندنا مصدر رزق للعاطلين عن العمل. وقبل سنوات التقيتُ قائداً من القادة فقال لي: الجنود يدفعون لنا الرشوة لنبعثهم إلى السعودية أو اليمن. فما بالك بجنود يدفعون نقوداً ليذهبوا إلى ميادين القتال؟ فكنتُ أسألهم: "تُسفك دماءكم من أجل مَن؟" دعينا من هذا.

الفكر، كفكر، محاربٌ في بلادنا، وما نزال محاربين عقلياً وفكرياً. حتى الطفل الذي يُكثر من الأسئلة في البيت يُضرب ويوبَّخ. منذ القدم، هناك شيء في مجتمعنا يقول بلغة الصمت: "لا تسأل، تقبّل كل شيء من دون نقد". وكنا في طابور الصباح، بعد نشيد العلم، يقول لنا المعلم شعارنا فنصرخ بصوت عالٍ: "جهاد – نصر – شهادة". لذا كانت مفاهيم الحروب الداخلية راسخة في مناهجنا التعليمية والمدرسية.

يا أشانتي، نحن حاربنا جنوب السودان وسفكنا دماءهم لأنهم مسيحيون. لم نرتق يوماً إلى درجة الإنسانية. في بوادينا الكلب أكثر قيمة من الإنسان. لأننا لا نقبل بقتل الكلب الذي يرعى قطيعنا، لكننا نرضى بقتل الإنسان. هي عقيدة جُلبت إلينا، ولا أعلم هل تربّينا عليها أم تربّت فينا.

أشانتي، هناك فراغ أيضاً في مناهجنا. كدولة ليس لدينا مادة منفصلة تُسمّى "الأدب السوداني". بل هناك مقتطفات طفيفة محشورة من بعض الشعراء والكتّاب السودانيين. نحن قوماً لم يقرأ أدبه. وهذا حال قومٍ لا يقرأ. فأول آية نزلت من فوق سبع سماوات طباقا كانت تقول: "اقرأ". لكننا قوم يتمرّد حتى على وصايا الرب حين يتعلق الأمر بإرضاء الأرض. كنتُ لنفسي أقول: اقرأ يا بشر كي لا تموت وهماً.

لا بد أن تكون لنا فلسفة "سوداناوية" محضة تُجيب عن أسئلة الملة السودانية الجامعة، وتبني شخصية الإنسان السوداني وتعيد تشكيله من جديد

الآن نبكي من ألم الحروب. لأننا كنا ندرس حروب البسوس وداحس والغبراء. ومنذ نعومة أظفارنا عشقنا الموت والقتل والحروب. لأننا تأثرنا بثقافة داحس وأدب الغبراء. نحن جيل تخرّج كما أرادوا له أن يكون، لذا نسفك الدماء ونتلذذ بها. يا أشانتي، نحن أوفياء لمناهجنا ورقيبنا أكثر مما ينبغي، وأوفياء للسلطة حد الثمالة.

نحن قوم لم يقرأ أدبه. أفتنتظرين منا قومية سودانية جامعة؟ بهذه الطريقة سيطول عمر العقد الاجتماعي السوداني. الأدب أمر مهم لا يُستهان به، فهو وسيلة لتوطيد ألوان الطيف السوداني. نحن جيل لا يعرف حتى كاتب النشيد الوطني إلا بعد أن بلغنا عقدين من العمر، وبحثنا عنه بأنفسنا. فكانت النتيجة طامّة كبرى.

أشانتي، لا بد أن تكون لنا فلسفة "سوداناوية" محضة تُجيب عن أسئلة الملة السودانية الجامعة، وتبني شخصية الإنسان السوداني وتعيد تشكيله من جديد. ولا بد أن يُدرج في مناهجنا التعليمية "أدب سوداني خالص" نفخر به. وأعني بالأدب السوداني الخالص أن يتناول فقط الشخصيات السودانية (الكتّاب والمفكرين والشعراء والقادة والعلماء والفلاسفة). ولا ضير أن نتلمّس مختارات أدبية من بقية الشعوب. الأدب السوداني الخالص قد يكون نواة تلمّ شتاتنا الفكري والأيديولوجي والحزبي والإثني الضيق.

المزيد من الكاتب

ثقافة

وهج البنادق

فكر

إلى حضن الوطن

رأي

إنه نفاقٌ عسكريّ يا ناندي