تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأربعاء 19 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
فكر

قوانين ما بعد الاستقلال: ظلّ المستعمِر الثقيل

7 أكتوبر, 2025
الصورة
a
Share

حين ألقت القوات الاستعمارية أوزارها وأعلامها من على قصور العواصم الأفريقية خلال ستينيات القرن الماضي، بدا وكأن التحرر قد بلغ كمالا ليس بعده كمال. وبينما كانت الساحات تمور بالحشود مورا، والأناشيد الوطنية ترتفع في الفضاء كأنها تعيد ترتيب العالم على إيقاع جديد؛ كُتبت الدساتير، وأُعلنت الجمهوريات، وتبدّلت أسماء الشوارع والمؤسسات. كانت تلك اللحظة، في المخيال الجمعي، لحظة ميلاد ثانية للقارة، ميلادٍ وُعدت فيه الشعوب بأن تستعيد سيادتها المسلوبة، وتكتب مصيرها بيديها ذاكرة موشومة، واسما "أفريقيا" جريحا، كما في الاسم العربي الجريح لعالم الاجتماع الكبير عبد الكبير الخطيبي.

بيد أنه خلف رموز الاستقلال وأهازيجه، ظلّ شيءٌ عميق لم يتبدّل: القانون، ذاك الجهاز الصامت للسلطة، بقي يحمل في داخله ملامح المستعمِر، ظلا يمتد امتداد طموحات المستعمر ذاته. فبينما تغيّرت الأعلام والوجوه، بقيت الترسانة القانونية والأنظمة القضائية واللغة الإدارية ذاتها، تحكم وتشرّع وتُعاقب بالمنطق نفسه الذي وُلد في زمن السيطرة الإمبراطورية.

فلئن استعاد الأفارقة الأرض، فإنهم لما يستعيدوا لغة الأرض! فالتحرر السياسي، بكل ما حمله من وعود ونشوة، لم يُترجم دائمًا إلى تحرر قانوني. بقيت الدولة الحديثة تُدار بآليات القانون الكولونيالي، وبفلسفته التي ترى في الفرد موضوعًا للحكم لا شريكًا في العدالة.

كما قال القانوني التنزاني عيسى شيفجي: "لقد نالت أفريقيا استقلالها من دون أن تتحرر من قانونها الاستعماري". وحقًا، فإن ما خلّفه الاستعمار لم يكن محصورا في البنيات التحتية من طرقات أو سكك حديدية أو مؤسسات وإدارات، لقد كان نسقًا من التفكير في السلطة والحق والواجب. فالقوانين والمحاكم والمفاهيم القانونية، وحتى اللغة التي يُصاغ بها مفهوم "العدالة"، كلّها استمرّت إدارتها بالأدوات ذاتها، وكأن التحرر السياسي لم يمسّ البنية العميقة للشرعية القانونية.

وعليه، فلم يكتفِ المستعمِر بإخضاع الشعوب بالقوة، بل سعى إلى تصنيفها وتقنين وجودها عبر منظومة قانونية صارمة، قسمت السكان إلى فئات وطبقات: "مواطنون" ينتمون إلى عالم الحداثة الأوروبية، و"رعايا" محكومون بمنطق الوصاية. كان القانون، في جوهره، مرآةً لسياسة التمييز التي جعلت من العدالة نفسها امتيازًا عرقيًا.

أنشأ المستعمِر محاكم خاصة للأهالي، وأخرى للمواطنين، في ازدواجٍ مؤسسي يُكرّس المسافة بين الحاكم والمحكوم. وفي الوقت ذاته، قُنِّن ما سُمِّي بـ"القانون العُرفي"؛ لكنه لم يكن في الحقيقة سوى عرف مُؤمَّم ومُراقَب من الخارج، كما وصفت الباحثة الأمريكية سالي فولك مور، التي رأت في هذا التشريع "عرفًا منزوع الروح"، صاغه الإداري الأوروبي على مقاس الإدارة الاستعمارية.

من المفارقات العميقة في التاريخ الأفريقي الحديث أن الدول التي نالت استقلالها السياسي سعت إلى التحرّر باستخدام الأدوات نفسها التي صاغ بها المستعمِر هيمنته

تجلّى هذا الازدواج القانوني في مختلف أنحاء القارة، من خلال ما عُرف باسم محاكم الأهالي أو المحاكم العرفية، التي أنشأها الاستعمار منذ بدايات القرن العشرين لإدارة المجتمعات المحلية تحت ستار "احترام العادات". ففي نيجيريا وكينيا وتنزانيا، ظهرت محاكم الأهالي ضمن نظام "الحكم غير المباشر" البريطاني، تُشرف عليها الإدارة وتفصل في النزاعات وفق أعرافٍ أعيدت صياغتها كتابةً بإشراف المفتشين الاستعماريين. وفي غرب أفريقيا الفرنسية، تأسست "المحاكم العرفية" بمقتضى مراسيم 1903 و1912، حيث كان "قاضي الأهالي" يبتّ في القضايا المدنية الصغيرة تحت رقابة الحاكم الفرنسي. أما في شمال أفريقيا، فقد بلغ هذا النظام ذروته مع الظهير البربري لعام 1930 في المغرب، الذي أنشأ محاكم عرفية في المناطق الأمازيغية تطبّق القانون العرفي بدل الشريعة الإسلامية.

ومع بزوغ فجر الاستقلال، وجدت الدول الأفريقية نفسها أمام ميراثٍ ثقيل من البُنى القانونية والإدارية التي تركها الاستعمار وراءه، صلبة يصعب كسرها أو تجاوزها. هذه البُنى قد صُمِّمت أصلاً لتُحكم من الأعلى، لا لتنبع من إرادة الناس، ومع ذلك ورثتها الدول الجديدة بوصفها شرطًا ضروريًا لبقاء الدولة ذاتها. فكان على النخب الوطنية أن تُدير مؤسساتٍ لم تُبنَ لخدمة شعوبها، وأن تُفعّل قوانين كُتبت بلغاتٍ أجنبية، في سياقات لا تشبهها.

هكذا، ظلّ قانون نابليون المدني المرجع الأساس في الدول الفرنكوفونية، يُدرَّس في الجامعات، ويُستنسخ في المحاكم بنفس اللغة والنسق العقلي الفرنسي. وفي الدول الأنجلوسكسونية، واصلت القانون العام سيادته المنهجية في التقاضي، حيث بقي القاضي النموذج الأعلى للسلطة القانونية، كما كان في الإمبراطورية البريطانية. أما "القانون العُرفي"، الذي كان يفترض أن يُعبّر عن روح المجتمعات الأفريقية، فقد أُبقي عليه في مرتبةٍ دنيا، يُستدعى فقط عند الحاجة، وتحت رقابة الدولة، كأنما هو بقايا من زمنٍ مضى لا يصلح إلا لتدبير قضايا هامشية.

يغدو المشروع القانوني الإفريقي الجديد محاولةً لإعادة تخيّل العدالة بوصفها علاقة اجتماعية حيّة، تستمد معناها من الناس وتجاربهم، لا من النصوص وحدها

وقد وصف عالم الاجتماع والمفكر السياسي محمود ممداني هذه الحالة في كتابه "المواطن والرعية" بأنها نوع من "الاستبداد اللامركزي" الذي ورثته الدولة الأفريقية عن المستعمر. فالسلطة المركزية القوية، بدل أن تُحرّر المجتمع من التراتبية الاستعمارية، أعادت إنتاجها من خلال وكلاء محلّيين: زعماء القبائل والبيروقراطيين وأعيان ووجهاء الذين صاروا امتدادًا للنظام السابق داخل جسد الدولة الوطنية.

من المفارقات العميقة في التاريخ الأفريقي الحديث أن الدول التي نالت استقلالها السياسي سعت إلى التحرّر باستخدام الأدوات نفسها التي صاغ بها المستعمِر هيمنته. فقد رأت النخب الوطنية في القانون الأوروبي رمزًا للعقلانية والتمدّن، وعدّته الطريق الوحيدة إلى الحداثة، بينما صُوّرت نظم العدالة المحلية باعتبارها رموزٍا للتخلّف واللاعقل. وهكذا تحوّل القانون من وسيلةٍ لتحقيق العدالة الاجتماعية إلى شعارٍ للتحديث والتماهي مع الغرب. لكن هذه الحداثة القانونية المفروضة من فوق دفعت ثمنها المجتمعات المحلية، إذ جرى تهميش المنظومات الأفريقية الأصيلة للعدالة ـ مجالس الحكماء ومحاكم الصلح وطقوس "الكلمة الجامعة" - التي كانت تقوم على الصلح وإعادة التوازن لا على العقاب، ففقدت العدالة بعدها الاجتماعي، وانفصل القانون عن الناس.

وفي تلك الهوامش، حيث يعجز القانون الرسمي عن الوصول أو عن الفهم، كما تصف سالي فولك مور، تولّدت حقول اجتماعية "شبه مستقلة"، تبتكر قواعدها الخاصة، وتُمارس عدالتها بطريقتها، مستندةً إلى منطق العُرف والتسوية والذاكرة الجماعية. هناك، في تلك الفضاءات الهامشية، ظلّت العدالة تتنفس بعيدًا عن قاعات المحاكم، وتستمد شرعيتها لا من نصٍّ مكتوب، بل من تجربةٍ حية ترى في الإنصاف أهم من النص، وفي التوافق أسمى من العقوبة.

ما خلّفه الاستعمار لم يكن طرقًا ولا سككًا حديدية فحسب، بل نسقًا من التفكير في السلطة والحق والواجب

اليوم وبعد مرور ما ينيف على نصف قرن من الاستقلال، تعود إلى الواجهة أسئلة مؤجَّلة أتى إبانها وأوانها حول معنى العدالة والشخصية الأفريقية القانونية: هل يمكن إعادة كتابة القانون بلغةٍ أفريقية تعبّر عن الوجدان الجمعي لا عن نصوصٍ مترجمة؟ وهل يمكن بناء حداثة قانونية تنبع من التجربة التاريخية للقارة بدل استنساخ النموذج الغربي؟

في السنوات الأخيرة، بدأت ملامح تحوّلٍ تدريجي نحو هذا الأفق في بلدانٍ مثل: المغرب والسنغال وكينيا وجنوب أفريقيا، من خلال تجارب العدالة التصالحية، وتحديث المحاكم العرفية، وإعادة الاعتبار للقوانين الدينية والأعراف المحلية بوصفها جزءًا من النسيج القانوني الوطني. هذه المبادرات لا تعبّر عن حنينٍ إلى الماضي بقدر ما تسعى إلى ابتكار حداثة قانونية بديلة، تُنصت للذاكرة الأفريقية بدل أن تتنكر لها.

يرى المفكر البرتغالي بوانتورا دي سوزا سانتوس أن أي مشروعٍ للعدالة الحقيقية ينبغي أن يبدأ من "الجنوب"، من التجارب التي وُضعت على هامش التاريخ العالمي، بينما يعتبر أشيل مبمبي أن مرحلة ما بعد الاستعمار ليست زمنًا سياسيًا فحسب، بل مجالٌ لإعادة مساءلة مفاهيم السلطة والشرعية. أما فالوين سَار، فيدعو في "أفروتوبيا" إلى "تفكيك استعمار المعرفة القانونية"، أي إلى إعادة تعريف العدالة من منظورٍ أفريقي يجعلها فعلَ تخيّلٍ جماعيٍّ وممارسةً إنسانية لا سلطةً فوقية.

يغدو المشروع القانوني الأفريقي الجديد إذن محاولةً لإعادة تخيّل العدالة بوصفها علاقة اجتماعية حيّة، تستمد معناها من الناس وتجاربهم، لا من النصوص وحدها.