الأربعاء 9 أكتوبر 2024
دخلت الأزمة بين الحكومة الصومال الفيدرالية وجمهورية صوماليلاند، المُعلنة من طرف واحد، فصلًا جديدًا من التصعيد، بعد إصدار مقديشو توجيهات مُلزمة لشركات الطيران التي تسير رحلات إلى عاصمة الثانية، هرجيسا، بحذف اسم صوماليلاند من جداولها، واستبداله بالصومال. كما صدرت نفس التوجيهات المُلزمة إلى المؤسسات المالية وشركات تحويل الأموال، بدعوى انتهاك سيادة الدولة، وتخطط مقديشو لإقرار نفس الإجراءات فيما يتعلق بالموانئ البحرية.
تثير هذه القرارات مخاوف من تبعاتها على سكان صوماليلاند والصومال، حيث لن تقبل حكومة الأولى بهذا الوضع، ما سيضع شركات الطيران وتحويل الأموال والخطوط الملاحية في أتون الخلافات السياسية، وهي النتيجة التي سيدفع ثمنها المواطنون الصوماليون من كلا الطرفين.
أرسلت سلطة الطيران المدني الصومالية خطابين إلى شركة طيران "فلاي دبي"، وشركة الطيران الإثيوبية، في 21 أغسطس/ آب الجاري، تطلب فيهما تصحيح عنوان مطار هرجيسا في صوماليلاند، إلى هرجيسا – الصومال، وقد استجابت الشركتان امتثالًا لمهلة الثلاثة أيام التي حددتها سلطة الطيران المدني. اختلاف لهجة الخطابين على الرغم من المضمون الواحد، كان لافتا فقد جاء الخطاب إلى شركة فلاي دبي بـ"موضوع عاجل: تمثيل خاطئ للوجهة"، فيما خاطبت الشركة الإثيوبية بعنوان "موضوع عاجل: قرار مطلوب يتعلق بانتهاك السيادة"، يتصل هذا بتصاعد توتر العلاقات الصومالية الإثيوبية في الآونة الأخيرة.
صاغت سلطة الطيران خطابها إلى الشركة الإماراتية بأسلوب متزن، لم يخلّ من التشديد على أنّ عدم الالتزام بالتوجيهات قبيل يوم 24 أغسطس/ آب الجاري، سيُقابل بتعليق جميع رحلات الشركة إلى الصومال. مقابل ذلك، اتسم الخطاب الموجه إلى الشركة الإثيوبية بالشدة، والافتقار إلى اللياقة، كما كشف عن وجود مناقشات سابقة حول الموضوع ذاته، بتاريخ 14 من ذات الشهر. وبحسب الخطاب، فقد طلبت سلطة الطيران الصومالية من شركة الخطوط الجوية الإثيوبية وسلطة الطيران المدني الإثيوبية، حذف اسم "صوماليلاند" واستبداله بالصومال قبل توجيه نفس الطلب إلى شركة فلاي دبي، واستجابت الشركة الإثيوبية بحذف اسم صوماليلاند، دون إضافة اسم الصومال إلى مطار هرجيسا، ووضع كود المطار، وهو ما رفضته سلطة الطيران الصومالية.
فيما يتعلق بتبعات هذه القرارات، فأولها إثارة الغضب وتوسيع رقعة الخلافات بين مواطني صوماليلاند والصومال، وثانيها احتمالية حدوث بعض الارتباك بسبب التناقض في تعريف وجهة الطيران إلى هرجيسا، وهو الأمر الذي سيخلق تعقيدات كبيرة إذا ما أقدمت مقديشو على خطوات تصعيدية أكبر، مثل فرض حصول المواطنين غير الصوماليين على تأشيرة دخول إلى هرجيسا من خلال سفارات مقديشو في دول العالم. والثالث، تعقيد التواصل بين الصوماليين في مختلف دول العالم، خاصة إذا ردت صوماليلاند بفرض الحصول على تأشيرة دخول لغير مواطنيها من القومية الصومالية، في حين أنّها تسمح حتى اليوم بدخول جميع الصوماليين من أي جنسية، ومن حملة أي وثائق، دون تأشيرة دخول.والرابع، تحميل المواطنين في صوماليلاند، وخاصة من يأتون لقضاء الإجازات من صومالي المهجر تكاليف إضافية جراء تعديلات تذاكر الطيران، وربما في ظل ما تواجهه حكومة مقديشو من تحديات مالية، وعجز مستدام في الموازنة العامة، تلجأ إلى مطالبة شركات الطيران التي تسير رحلات إلى مطار هرجيسا بتسديد ضرائب ورسوم، وهو ما يعني تحميل تلك التكاليف للمسافرين.
بدورها، ردت هيئة الطيران والمطارات في صوماليلاند، ببيان رفضت فيه ما وصفته بـ"تهديد غير قانوني" من حكومة الصومال، وتعهدت بالتعاون مع شركتي فلاي دبي والخطوط الجوية الإثيوبية، لضمان أمن وسلامة حركة الطيران. كما أمهلت الشركتين 21 يومًا لتصحيح ما وصفته بالتعريف الخاطئ لوجهات الطيران في صوماليلاند، ما يعني أنّها طلبت حذف اسم الصومال من عنوان مطاري هرجيسا وبربرة.
تعاملت هرجيسا بحزم مع القرارات التي خصت شركات تحويل الأموال، وكانت وزارة التجارة والصناعة الصومالية أصدرت توجيهًا مُلزمًا بعنوان "أمر يتعلق بحماية وحدة وسيادة جمهورية الصومال الفيدرالية"، طلبت فيه من الشركات العاملة في تحويل الأموال داخل الصومال وصوماليلاند، الالتزام بحذف اسم الثانية من قائمة الدول في خدماتها المالية، واستبدال ذلك باسم دولة الصومال. وحذر بيان الوزارة من أنّ أي شركة تنتهك سيادة ووحدة البلاد ستخضع للعقوبات المقررة قانونًا. من جهتها، ردت حكومة هرجيسا على لسان وزير الإعلام والثقافة، والمتحدث باسم الحكومة، علي حسن محمد، بتحذيرات مضادة لشركات تحويل الأموال، مؤكدًا على أنّ أي "شركة تستجيب لمقديشو سترتكب جريمة خطيرة ضد ستة ملايين شخص في صوماليلاند".
تعتبر تبعات هذا القرار أكبر على سكان صوماليلاند من الأخرى المتعلقة بشركات الطيران، فمن الناحية الفنية تمتلك شركات الطيران قدرات كبيرة مكنتها من الاستجابة لمطلب مقديشو، كما أنّ تنفيذ هذا المطلب لم يتطلب سوى تعديلات في تعريفات، ستجد طريقها إلى التطبيق دون عوائق كبيرة. بخلاف ذلك، فإنّ المهلة التي لا تزيد عن أسبوع واحد غير كافية أمام شركات تحويل الأموال، إذا ما قررت الاستجابة لأوامر مقديشو، ومن ناحية أخرى، فإنها تواجه، تحذير حكومة صوماليلاند لهذه الشركات من الالتزام بأوامر مقديشو، وهو ما يعني وضع هذه الشركات وملايين المستفيدين من خدماتهم المالية التي لا يمكن الاستغناء عنها، سواء في المعاملات الداخلية والخارجية، في قلب أزمة معقدة.
لم تضع حكومة مقديشو في حساباتها ما تمثّله تحويلات الأموال من ضرورة حياتية للمواطنين والحكومات في الصومال وصوماليلاند، حيث بلغت 1.3 مليار دولار، مثّلت نحو 20% من إجمالي الناتج القومي المحلي، وفق تقديرات عام 2017، بحسب صندوق النقد الدولي، الذي أشار إلى أنّ التحويلات الفعلية أكبر من هذا الرقم، بسبب التدفقات غير الرسمية، التي تتطلب تحسين جمع البيانات للوصول إلى الحجم الفعلي.
لن يقتصر الضرر على سكان صوماليلاند، بل سيمتد إلى ملايين من الصوماليين في المهجر والصومال ذاتها، والذين يرتبطون بشبكة واسعة من المعاملات المالية، التي شكلت في وقتٍ سبق الحكومة الفيدرالية ذاتها في مقديشو. أيًا يكن فشركات تحويل الأموال أمام خيارين؛ إما الالتزام بأوامر مقديشو، والتعرض لإجراءات عقابية من صوماليلاند، أو عدم الالتزام والوقوع تحت طائلة مخالفة القانون في الصومال، وهو الأمر الفضفاض نظرًا لطبيعة المخالفة التي تزعمها مقديشو.
يتوقع أن تشهد دائرة الخلافات بين الطرفين تصاعدًا كبيرًا، وهو ما يخالف التفاهمات التي سبق التوصل إليها خلال جولات المحادثات الثنائية المتعددة، والتي تم التوصل في واحدة استضافتها أنقرة، في 13 أبريل/ نيسان 2013، إلى "تشجيع وتسهيل المساعدات الدولية والتنمية المقدمة إلى صوماليلاند"، وهو ما ناقضته مقديشو بقراراتها التي تستهدف مواطني صوماليلاند.
يرتبط تصعيد مقديشو بردها على مذكرة التفاهم التي وقعتها صوماليلاند وإثيوبيا، مطلع العام الجاري، والتي تضمنت بنود منها؛ تأجير أرض على ساحل عدن لإثيوبيا لإقامة قاعدة عسكرية، نظير الاعتراف باستقلال صوماليلاند، ومنحها حصة من شركة الاتصالات أو الطيران الإثيوبية.
يمكن استنباط طبيعة الرد الصومالي، والذي يشمل ثلاثة محاور؛ الأول تكوين جبهة من الحلفاء لتحقيق الردع العسكري لمواجهة تطبيق مذكرة التفاهم، وذلك بعقد الاتفاقية الدفاعية الاقتصادية مع تركيا في فبراير/ شباط الماضي، واتفاقية التعاون العسكري مع مصر في أغسطس/ آب الجاري، والثاني المشاركة في المفاوضات غير المباشرة مع إثيوبيا بهدف دفعها للانسحاب من مذكرة التفاهم، والثالث هو الضغط على صوماليلاند من خلال تعطيل المساعدات الدولية، والقرارات الأخيرة المتعلقة بشركات الطيران وتحويل الأموال، ومن المتوقع أنّ تصدر قرارات مشابهة خلال الفترة المقبلة.
لن تقبل صوماليلاند بدورها هذه الضغوط، وستعمل من أجل التأقلم معها، وربما في هذا الصدد تستفيد من علاقاتها الوطيدة بتايوان، التي تعيش وضعًا مشابهًا، حيث شعبي البلدين يطالبان بالاستقلال، في ظل تجاهل دولي لحقهما في تقرير المصير، لأسباب سياسية. وتختلف المقاربة السابقة في أنّ صوماليلاند، بخلاف تايوان، لديها القدرة على صد أي استخدام للقوة من قبل مقديشو. والأمر الأكيد، أنّ القرارات التصعيدية ستدفع صوماليلاند؛ حكومةً وشعبًا، بعيدًا عن الصومال، وستزيدهم تمسكًا بالاستقلال.
لمحت مقديشو، في الآونة الأخيرة، على لسان رئيس الوزراء، حمزة عبدي بري، إلى الاستعداد لاستئناف التفاوض مع صوماليلاند، إذا ما جاءت الانتخابات العامة المقبلة بحكومة جديدة، وهو ما رآه البعض تلميحًا إلى تعويل مقديشو على موقف مغاير لحزب "وداني" المعارض، إذا ما جاء إلى سدة الحكم، وهو الحزب الأكثر حظوظًا في الانتخابات المقبلة. لكن خطوات مقديشو التصعيدية ضد هرجيسا، كشفت عن اصطفاف سياسي وشعبي في صوماليلاند، داعم لمطلب الاستقلال، وهو ما أكده زعيم حزب "وداني" حرسي علي حاجي حسن في تغريدة على منصة "إكس"، قال فيها: "صوماليلاند أمة واحدة، وتصريحات حمزة عبدي بري تهدف للتفرقة بين شعبنا". كما شدد على أنّ رؤية حزبه هي "استقلال صوماليلاند، وعلاقات أخوية مع جيرانها".
نقلت مقديشو إدارة الخلافات مع صوماليلاند إلى منطقة جديدة، تهدد الحياة اليومية للمواطنين الذين تحملهم مسؤولية الخلافات السياسية. ويرى مراقبون أنّ جعبة الصومال من الخطوات التصعيدية لم تفرغ بعد، حيث كشفت مصادر قريبة من هيئة الموانئ الصومالية، عن خطط لفرض إجراءات ورسوم على الخطوط الملاحية الدولية التي تعمل في ميناء "بربرة"، لتأكيد ما تصفه مقديشو بـ"السيادة"، التي ستحققها من خلال تحصيل رسوم نظير خدمات الموانئ والرسو والمكوث. وليس مستبعد أن تقدم على هذه الخطوة، خاصة أنّها تعول على زيادات عائدات الموانئ والإيرادات الضريبية لخفض العجز الكلي للموازنة العامة. وتأكيدًا لهذا، كتب سفير الصومال في أديس أبابا، عبر صفحته على منصة "إكس"، أنّ حكومته ستتخذ إجراءات لحماية سيادة البلاد فيما يتعلق بالموانئ، مشيرًا إلى صدور توجيهات لخطوط الملاحة البحرية قريبًا، في هذا الصدد.
بناءً على ذلك، هناك عدة سيناريوهات محتملة ستتخذهما الأزمة، فيما يتعلق بشركات الطيران، وشركات تحويل الأموال، والخطوط الملاحية البحرية التي من المتوقع أنّ تشهد نفس الرد من صوماليلاند، مع وجود اختلافات تتعلق بمجال عمل الشركة، وملكيتها.
أولهما، استجابة شركات تحويل الأموال والخطوط الملاحية مثل شركات الطيران، وفي هذا الحالة سيتعرضون لإجراءات عقابية من صوماليلاند، ما سيؤدي إلى توقف هذه الشركات عن تقديم خدماتها في صوماليلاند. وبالتالي ستكسب الأخيرة الحفاظ على سيادتها واستقلالها، مقابل فرض ما يشبه حصارًا على نفسها، ليتحقق بذلك هدف مقديشو في تحميل سكان صوماليلاند ثمن الأزمة، بتبعاتها الاقتصادية والسياسية.
والثاني، تراجع شركتي الطيران، واستجابتهما لتوجيهات صوماليلاند، وكذا عدم استجابة شركات تحويل الأموال، والخطوط الملاحية البحرية، لتوجيهات مقديشو. ما يعني فقدان هذه الشركات تقديم خدماتها في الصومال، الأمر الذي سيتحمله مواطنو الأخيرة تبعاته المالية والاقتصادية، هكذا ستخرج صوماليلاند منتصرة، ويتعزز استقلالها، إلى ما يشبه اعتراف شركات دولية، ودول كما في حالتي الإمارات وإثيوبيا، باستقلالها.
ولا يبدو سيناريو ثالث محتملًا، حيث حولت مقديشو قطاع الأعمال والخدمات الدولية إلى ساحة لتحقيق هدفها في إجبار صوماليلاند على الانسحاب من مذكرة التفاهم الموقعة مع إثيوبيا، ولا سبيل أمامها من أجل ذلك سوى المضي قدمًا في فرض إجراءاتها التصعيدية، وإن تطلب ذلك استخدام القوة، كما في حالة الخطوط الملاحية البحرية، بدعم من تركيا. أيضًا، وفي هذا السيناريو، ستلجأ مقديشو إلى تقديم شكاوى في المحافل الدولية المتعلقة بقطاع الخدمات، ومقاضاة الشركات الدولية التي تعمل في صوماليلاند.
يتشابه هذا الوضع مع تجارب الحكومة العراقية في بغداد مع إقليم كردستان، ولهذا فنجاح مقديشو في خططها يتوقف على تجاوب الدول معها، خاصة فيما يتعلق بشركتي طيران فلاي دبي والخطوط الجوية الإثيوبية، حيث سيعكس موقفهما توجهات حكومتي أبو ظبي وأديس أبابا تجاه الأزمة.
تناقض هذه الإجراءات التصعيدية؛ المتخذة من قبل مقديشو الهدف الأساسي لحكومة الرئيس حسن شيخ محمود، وهو وحدة البلاد، حيث لن يقبل شعب صوماليلاند بمواطنة دولة أخرى بسبب العقوبات والتهديد، بل سيزداد عزيمةً على تحقيق الاعتراف بالاستقلال، وهو المطلب الجدير بنقاش حقيقي يهدف لتحقيق مصالح جميع الصوماليين. بالإضافة إلى ذلك، تضع هذه الإجراءات وغيرها الأقلية المؤيدة للوحدة في صوماليلاند في موقف حرج، خاصة النواب الممثلين لصوماليلاند في البرلمان الفيدرالي الصومالي – لا تقبل حكومة صوماليلاند بهذا التمثيل -، حيث فرضت عليهم مقديشو خيارين، كلاهما صعب. الأول تأييد هذه الإجراءات التي تزعم مقديشو أنّها تعضد خيار الوحدة، وما يعينه ذلك من مشاركة في الإضرار بأسرهم وعائلاتهم، والثاني الانحياز إلى أسرهم وعائلاتهم وتأييد مطلب الاستقلال، وفي كلا الحالتين ستكون مقديشو حققت عكست ما هدفت إليه.