الخميس 15 مايو 2025
لا يمكن القول بوجود علاقات تعاونية وثيقة بين أبو ظبي ونجامينا، فبتتبع تطور العلاقات بين البلدين، نجد أنها على الصعيد السياسي، لا تعدو أن تكون علاقات دبلوماسية تقليدية، لم تتجاوز اللقاءات البروتوكولية، ومحاولات التفاوض من أجل التعاون مستقبلا، وأقصى ما وصلت إليه تشكيل لجنة مشتركة بين البلدين، عقدت أول اجتماعاتها في سبتمبر/ أيلول 2018. اقتصاديا، لم يكن التبادل التجاري كبيراً بين البلدين، أما على الصعيد العسكري والأمني، فلم يكن هناك اتفاقات عسكرية، أو تعاون عسكري رسمي معلوم بين البلدين، قبل اندلاع الحرب الأهلية السودانية، وهو ما يؤكد أن ما حدث من تطور في علاقات البلدين، لم يكن ليحدث إلا بمناسبة الحرب الأهلية في السودان.
لما بدأت الحرب الأهلية السودانية 2023، اتجهت أنظار أبو ظبي فوراً باتجاه تشاد، وحينها لم يكن النظام السياسي قد استقر في نجامينا بعد، فلم يكن الرئيس العسكري الانتقالي "محمد إدريس ديبي إتنو" (كاكا) قد ثبت أقدامه في رئاسة تشاد، وقد مثلث هذه القضية مدخلا سلسا للإمارات، لتنفيذ خطتها الرامية إلى إيجاد منفذ، لإيصال دعمها إلى قوات "الدعم السريع"، وبخاصة وأن السياقات الجغرافية والبشرية والأمنية، تجعل المدخل التشادي أفضل خيارات الإمارات، بعيداً عن تعقيدات المدخل الليبي، ومحاذير المدخل الإثيوبي والأفرووسطي.
قد استخدمت الإمارات جل أدواتها، بسخاء محسوب من أجل استقطاب نجامينا، فعلى الجانب السياسي، دعمت الإمارات إضفاء الشرعية الديمقراطية علي حكم الرئيس "كاكا"، عن طريق تقديم المشورة، والدعم المادي، بل واللوجستي، لحملة ترشح "كاكا" للرئاسة وحزبه للبرلمان، وهو ما أثمر عن فوز "كاكا" برئاسة البلاد، و فوز حزبه بأغلبية كاسحة في البرلمان.
لما بدأت الحرب الأهلية السودانية 2023، اتجهت أنظار أبو ظبي فوراً باتجاه تشاد، لم يكن "محمد إدريس ديبي إتنو" قد ثبت أقدامه في رئاسة تشاد، وقد مثلث هذه القضية مدخلا سلسا للإمارات لتنفيذ خطتها الرامية إلى إيجاد منفذ، لإيصال دعمها إلى قوات "الدعم السريع"
على الصعيد الاقتصادي، وتطويراً للعلاقات بين البلدين، ضخت الإمارات في السوق التشادية، بعض الاستثمارات في مجال تطوير البنية التحتية المتقدمة، من خلال بناء وتطوير مشروعات إسكانية منخفضة التكلفة، وعلى الصعيد الاجتماعي والإنساني، قدمت الإمارات أطنانا من المواد الغذائية والإغاثية، للتشاديين وغيرهم من اللاجئين السودانيين.
أما على الصعيد العسكري، وهو المدخل الأكثر إسهاما في فرض الإمارات نفوذها علي القرار التشادي، فقد وقَّعت الإمارات مع تشاد اتفاقية تعاون عسكري في يونيو 2023، وأرسلت قوات من جيشها لتدريب الجيش التشادي على فنون الحرب، وعلى تشغيل المعدات التي تبرعت له بها. كما قدمت الإمارات آليات عسكرية، وأسلحة ومعدات أمنية، لتعزيز قدرات تشاد في مجال مكافحة الإرهاب، ودعم برامج حماية الحدود.
خططت الإمارات للحرب التي شنتها قوات ميليشيا "الدعم السريع"، ضد الجيش السوداني ورعتها ومولتها، وأمدت قوات الميليشيا بشتى أنواع الأسلحة، عبر المنافذ الحدودية السودانية المتاحة، سواء مع ليبيا أو مع أفريقيا الوسطى. لكن أخطر هذه المنافذ الحدودية كان مع تشاد، نظراً للسيولة الحدودية المعهودة بين البلدين، بسبب التداخل الإثني بين القبائل العربية، التي تقطن على جانبي تلك المناطق الحدودية.
غيرت الأسلحة والإمدادات الإماراتية، موازين القوى في الحرب الأهلية السودانية، وبخاصة بعد وصول المسيرات، وأنظمة إطلاق الصواريخ المتعددة، وصواريخ "مانباد" (نوع من صواريخ الدفاع الجوي المحمولة) إلى قوات الدعم السريع، حيث ساعدها ذلك على تحييد التفوق الجوي للجيش السوداني. وقد استخدمت الإمارات مرتزقة قوات "فاجنر" في السودان، لتقيم خدمات التدريب علي استخدام هذه الأسلحة المتطورة.
تمنح البيئة الجغرافية والديمغرافية المشتركة، على الحدود الطويلة بين السودان وتشاد، خيارات واسعة للسودان، للرد على الموقف العدائي الذي اتخذته تشاد بشأن الحرب الأهلية السودانية، فمن ناحية أولى يساعد التداخل الإثني الكبير، بين سكان غرب السودان وشرق تشاد، على سرعة وفعالية التأثير المراد إحداثه
كان الدعم الاستخباراتي، من أهم صور الدعم الذي قدمته الإمارات، لقوات مليشيا الدعم السريع، عبر المسيرات التي تنطلق من مطار "أم جرس" في تشاد، لرصد تحركات الجيش السوداني، هذا فضلا عن الدعم اللوجستي والسياسي، لقائد قوات مليشيا "الدعم السريع، محمد حمدان دقلو "حميدتي"، في المحافل السياسية في ستة دول أفريقية، استقبلته وتنقل بينها على متن طائرة خاصة إماراتية.
يعد الدفع دوليا باتجاه إنهاء الحرب الأهلية السودانية، عبر زيادة الضغوط الدولية على نظام الإمارات الحاكم، بشأن دعمه لميليشيا "الدعم السريع"، مثيراً لمخاوف وقلق نجامينا من ناحيتين: أولاهما؛ أن يؤدي ذلك إلى فتور العلاقات مع الإمارات، وعودتها إلى حالة ما قبل اندلاع الحرب الأهلية السودانية، ومن ثم تلاشي السخاء والوعود الإماراتية، وثانيتهما؛ أن يؤدي ذلك إلى تفرغ الجيش السوداني، للرد على الدعم الذي يسرته نجامينا، لقوات مليشيا "الدعم السريع" عبر أرضيها وأجوائها.
من أهم أسباب مخاوف وقلق "نجامينا"، تلك الانتصارات المتتالية التي حققها الجيش السوداني، في حربه على مليشيا "الدعم السريع"، واستعادته السيطرة على الخرطوم، وهو ما يشي بقرب انتهاء الحرب الأهلية السودانية، وانتصار الجيش السوداني، ومن الطبيعي آنذاك أن يسعى الجيش السوداني، إلى الاقتصاص من كل من كان يدعم مليشيا "الدعم السريع"، وبالطبع في مقدمتهم نظام أبو ظبي والنظام الحاكم في نجامينا.
بمناسبة الحديث عن حيرة ومخاوف نجامينا، تثور عدة تساؤلات عن طبيعة الرد السوداني المتوقع، أو بالأحرى عما يملكه السودان من أوراق ضد نجامينا، حال أراد معاقبة تشاد على مسلكها العدائي، وبنظرة فاحصة للسياقات التي تفرضها طبيعة العلاقة بين البلدين، وطبيعة البيئة الدولية الحاضنة للتحولات التي تجري حاليا في النظام الدولي، يمكننا القول بأن أهم ورقتين في يد السودان هما:
تمنح البيئة الجغرافية والديمغرافية المشتركة، على الحدود الطويلة بين السودان وتشاد، خيارات واسعة للسودان، للرد على الموقف العدائي الذي اتخذته تشاد بشأن الحرب الأهلية السودانية، فمن ناحية أولى يساعد التداخل الإثني الكبير، بين سكان غرب السودان وشرق تشاد، على سرعة وفعالية التأثير المراد إحداثه، من أي طرف على الطرف الآخر، ففي السودان يعيش جانب لا بأس به من قبائل الزغاوة، التي ينحدر منها الرئيس "كاكا"، وبخاصة في دارفور في مدينة الفاشر، ويتوزع بعض منهم في باقي مدن السودان، وعلى الجانب الآخر يتمركزون في مدينة "أم جرس"، شمال شرق تشاد والأجزاء القريبة منها.
كان الدعم الاستخباراتي، من أهم صور الدعم الذي قدمته الإمارات، لقوات مليشيا الدعم السريع، عبر المسيرات التي تنطلق من مطار "أم جرس" في تشاد، لرصد تحركات الجيش السوداني، هذا فضلا عن الدعم اللوجستي والسياسي
بينما يتمركز جانب كبير من قبائل المساليت، غرب دارفور وبخاصة في مدينة الجنينة، وعلى الجانب الآخر يتمركزون في مدينة أدري شرقي تشاد، وعلى هذا المنوال تتوزع عدة قبائل بين البلدين مثل: قبائل المبا وقبائل الداجو وقبائل التاما، كما أن هناك قبائل تشادية أخرى كالقرعان والكانمبو، هاجرت بأعداد كبيرة إلى السودان قبل الاستقلال وبعده، وانصهرت في المجتمع السوداني، وفي ذات الوقت يعيش في تشاد عدد لا بأس به، من السودانيين الذين يعملون في شتي المجالات كالتعليم والصحة والتجارة وغيرها، ومن هنا لا يمكن تجاهل تأثير هذا التداخل الإثني الكبير، في ديناميات التفاعل الحدودية بين البلدين.
من ناحية ثانية، لا يمكن تجاهل الدور الذي يمكن أن تؤديه، حالة السيولة الحدودية بين البلدين، في نقل التأثير على الجانبين، وبخاصة وأن هذه الحدود المشتركة تبلغ حوالي 1400 كلم، والتي تتسم في الغالب بعدم قدرة أيا من الجانبين السيطرة عليها وضبطها، وهو ما كان قد حدا بالبلدين بالاشتراك مع جمهورية أفريقيا الوسطى، إلى توقيع بروتوكول تأمين الحدود بواسطة القوات المشتركة، التي أنشئت لهذا الغريض آنذاك (البروتوكول الأمني مايو/ آيار2011) للعمل على ضبط وحماية الحدود المشتركة.
يمكن القول بتتبع تطور العلاقات بين البلدين، بأن استخدام الحدود الجغرافية والديمغرافية بين البلدين، كان أداةً فعالة في نقل التأثير، فمنذ قيام جبهة التحرير الوطني التشادي عام 1966، وتمركزها في مدينة نيالا السودانية، أصبحت الأراضي السودانية قاعدةً لانطلاق الثورات والمعارضة التشادية، ومن أبرز أحداث ذلك التأثير، تلك الهجمات التي انطلقت من السودان، في أعقاب فرار الرئيس التشادي الأسبق حسين حبري إلى السودان، ومحاولة تتبعه من قبل الرئيس السابق (المنقلب) إدريس ديبي، فقد لاقي "ديبي" الأب مقاومة ومعارضة شديدة آنذاك، أطالت من حالة عدم استقرار نظامه. ومن أبرز الحالات النظيرة من الجانب التشادي ذلك الدعم الذي قدمته الحكومة التشادية للحركات المسلحة في دارفور، والتي كانت تدخل في مواجهة مع الحكومة السودانية.
لا شك في أن الحرب الأهلية السودانية الدائرة حاليا، قد خلفت كما هائلا من الانتهاكات، التي يمكن عدها في القانون الدولي جرائم خطيرة مثل: جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية أو جرائم الإبادة جماعية أو جرائم العدوان، وغيرها ذلك من الجرائم التي يعاقب عليها القانون الدولي.
لقد توسع القانون والقضاء الدولي، في تعريف مفهوم الفاعلين المؤثمين في مثل هذه الجرائم، نظرا لخطورة وتأثيراتها نتائجها، فأدخل الفاعلين الأصليين بما في ذلك الفاعلين المعنويين، والمساهمين بشتى أشكال المساهمة، مستخدما في ذلك نظريات "الاشتراك الجنائي" و"الفاعل المعنوي"، وهو ما يعني أن المسؤولية الجنائية، تنعقد في حق كل المحاربين في صفوف قوات ميليشيا "الدعم السريع" بمختلف درجاتهم، وكل قادتهم ولو لم يمارسوا العمل العسكري بأنفسهم، وكل من خطط ودبر ومول أعمالهم، وكل من أمدهم بأدوات الجريمة، سواءً كانت أسلحة أو لوجستيات أو معلومات أو حتي خدمات إغاثية، إن كانت بغرض إعانتهم علي ارتكاب جرائمهم أو مواصلة ارتكابها، وهو ما أرسته أحكام محكمتي جرائم يوغوسلافيا ورواندا، ثم جاءت نصوص نظام روما الأساسي لتقننه في المادة 25 الخاصة بالمسؤولية الجنائية.
يمكن القول بأن نجامينا وجدت نفسها في مأزق كبير، وضعت نفسها فيه منذ البداية بانحيازها إلي الجانب الإماراتي، طمعا في تحقيق مكاسب تبين في الممارسة أنها مؤقتة، وأنها سوف تنتهي بمجرد أن تضع الحرب الأهلية السودانية أوزارها، وبخاصة وأن المؤشرات الحالية، تنبئ بأن الانتصار في هذه الحرب، سيكون حليفاً للطرف، الذي كانت نجامينا تعمل ضده، وهو الجيش السوداني.