تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأحد 16 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
فكر

"نحو لاهوت حقوقي مناهض للهيمنة".. في البحث "حقوق إنسان" إنسانية

10 أكتوبر, 2025
الصورة
"نحو لاهوت حقوقي مناهض للهيمنة".. في البحث "حقوق إنسان" إنسانية
Share

أعادت حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة تأكيد أطروحة قصور منظومة حقوق الإنسان التي قال بها الكثيرون في العالم، بما في ذلك أصوات من داخل الغرب نفسه، لا سميا عقب عجزها عن إيقاف جرائم مروعة ضد الفلسطينيين، ما أكسب الخطاب المناهض لسردية مركزية حقوق الإنسان شرعية أقوى ومصداقية أكبر، فقد أدرك العالم أن حقوق الإنسان ليس عاجزة عن حماية الغزيين فحسب، وإنما لم توجد أصلا لحماية الإنسان غير العربي.

سجلت العالم منذ حقبة التسعينيات، بالموازاة مع تمدد شعارات حقوق الإنسان، وتصاعد خطاب المنظمات الحقوقية، أبشع الانتهاكات في التاريخ الحديث، حيث ظهرت الازدواجية في التعامل وانتهاك القواعد المؤسسة للشرعية الدولية، ما يثبت أن هذه الحقوق ليست كونية كما يدعي "مخترعوها" في الغرب. واقع تولدت عنه أسئلة عديدة حول شرعية النموذج الغربي في تمثيل الخطاب الحقوقي، وعن تحويل حقوق الإنسان لأداء قابلة لتوظيف والتأويل حسب الموقع والسياق، وامتدت الأسئلة إلى نقد التأسيس الغربي لمنظومة حقوق الإنسان برمتها.

كان النقاش هامشيا لوقت طويل، لأن معظم رموزه أيضا من الهامش، ونجاح أنصار حقوق الإنسان في التسويق لقائمة من التقابلات: الكونية/ الخصوصية، المحافظة/ التحديث... حتى انبرت أسماء من الوسط الغربي بتبني منظور نقدي يدعو إلى إعادة النظر في الخطاب الحقوقي العالمي، يتردد في اعتبار حقوق الإنسان متحيزة، لأن "أغلبية سكان العالم لا يشكلون ذواتا لحقوق الإنسان، بل موضوعات لحقوق الإنسان، فهذه الحقوق وجدت حتى "تسود في المجتمعات الغربية فقط".

حقوق الإنسان ووهم الهيمنة

يقدم الأكاديمي البرتغالي بوافنتورا دي سوسا سانتوس المعروف في الأوساط الأكاديمية باشتغاليه بنظرية "ابستمولوجيا الجنوب"، التي تتمحور حول تطهير المعرفة من سطوة الاستعمار، وتثمين الأفكار التي أنتجت في دول الجنوب، ولا سيما تلك المضطهدة والمهمشة والمستغلة، محاولة تسعى وراء مهمة التأسيس لخطاب حقوقي جديد، يتجاوز أعطاب الازدواجية والانتقائية، وتسخير حقوق الإنسان أداة في أجندة سياسية للسيطرة على ثروات الشعوب.

في كتابه "لو كان الإله ناشطا حقوقيا: نحو لاهوت حقوقي ومناهض للهيمنة"؛ ترجمة البشير عبد السلام، يطرح بوافنتورا مقاربة نوعية بشأن السجال الدائر حول المسألة الحقوقية في العالم، يطرح من خلالها سؤلا محوريا مفاده: "هل تدعم حقوق الإنسان نضالات المهمشين والمستغلين والمضطهدين؟ أم أنها على عكس ذلك تجعل أمر تحريرهم أكثر تعقيدا؟" حرر الكتاب بنفس نضالي؛ باعتبار صاحبه أحد رموز التيار الديكولونيالي للعالم، حيث ظل وفيا لمقولته الشهيرة: "إن فهَم العالم أكبر من فهم الغرب للعالم".

تظهر العودة إلى الأصول، بأن منظومة حقوق الإنسان جزء من ذات الهيمنة التي تقوم بترسيخ وشرعنة الاضطهاد، ما يوَلد سؤالا مؤرقا حول فرص توظيف حقوق الإنسان لمناهضة الهيمنة؟

يعيد بوافنتورا تفكيك السردية المهيمنة حول كونية خطاب حقوق الإنسان، من خلال قراءة عكسية للتاريخ، تضع مفهوم حقوق الإنسان - الرائج حاليا – موضع نقد وتشكيك، بالبحث والتنقيب في سياقات النشأة والتشكل، لتظهر حقائق أخرى غير الرواية السائدة عن الانتصار التاريخي لفكرة حقوق الإنسان، "فكل الممارسات التي قد تعتبر أفعالا قمعية وتسلطية متى نُظر إليها من خلال تصورات مغايرة للكرامة الإنسانية، سيتم إعادة صياغتها لتعتبر أفعالا تحررية، إذا تمت ممارستها باسم «حقوق الإنسان»".

عمل المؤلف على تطويق أطروحة الكونية الحقوقية بأسئلة إشكالية، أفرزتها تطورات وتعقيدات الواقع العالمي المعاصر، ما جعل عورات الخطاب الحقوقي العالمي مكشوفة أمام الأشهاد. تُظهر العودة إلى الأصول، بأن منظومة حقوق الإنسان جزء من ذات الهيمنة التي تقوم بترسيخ وشرعنة الاضطهاد، ما يوَلد سؤالا مؤرقا حول فرص توظيف حقوق الإنسان لمناهضة الهيمنة؟ أو بتعبير بوافنتورا «هل فكرة حقوق الإنسان فعالة في مؤازرة نضالات المهمشين وأولئك الذين يعانون من الاستغلال والتمييز، أم أنها على عكس ذلك، تجعل تلك النضالات أكثر صعوبة؟».

إن حقوق الإنسان لم تكن قطعا كونية، سردية يجادل الكاتب على مدار فصول الكتاب الخمسة (عولمة اللاهوت السياسي، نموذج الأصولية الإسلامية، نموذج الأصولية المسيحية، في منطق تماس بين اللاهوتات السياسية، نحو مفهوم ما بعد علماني لحقوق الإنسان) قصد إثباتها بالأدلة والشواهد التاريخية، خلافا لما تدَّعيه الأسطورة الغربية. فحتى وقت قريب، كان العالم حافلا بالخطابات المنافِحة عن الكرامة الإنسانية، وهذا ما يفسر تجاهل حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار، خلال القرن العشرين، وكذا الحركات الاشتراكية والشيوعية... للمعجم المفاهيمي لحقوق الإنسان، قصد تأكيد مشروعيتها النضالية.

سردية لاحقة عن حقوق الإنسان

إن كل تعاط غير سياقي مع كونية حقوق الإنسان يبقى بلا معنى، بحسب بوافنتورا، فأصول هذا الخطاب - "المتوافق عليه أوروبيا"-، لا يمكن فصلها، بأي حال من الأحوال، عن التاريخ الاستعماري الأوروبي، وأسطورة تفوق العرق الأبيض، ومركزية العقل الغربي. فحسب الكاتب، وحتى تصبح هذه المنظومة كونية، كان لزاما أن تخضع لتأويل والتوظيف، على غرار مفاهيم أخرى مثل الديمقراطية التي خصها بكتاب مستقل (دمقرطة الديمقراطية)، كي تحظى بهذا الإجماع، الذي تأسس، وفق المؤلف، على أربعة أوهام، وهي: الغائية والانتصارية ونزع السياق والأحادية.

يكشف المسار التاريخي لحقوق الإنسان، أنها تعرضت لانحراف كبير منتصف القرن التاسع عشر، بالإقدام على فصل خطاب حقوق الإنسان عن التقليد الثوري. وذلك بعد ثورات عام 1848، حيث صارت هذه الحقوق تعادي كل فكرة تدعو إلى التغيير الثوري في المجتمع. خلق هذا المنعطف لدى بوافنتورا ريبة حيال السردية السائدة؛ "نحن اليوم غير قادرين على التأكد إذا كانت حقوق الإنسان الحالية هي من إرث الثورات الحديثة أو من مخلفات انهيارها، وإذا ما كانت تضمر خلفها طاقة ثورية تحررية أو طاقة مناهضة للثورة".

"كل الممارسات التي قد تعتبر أفعالا قمعية وتسلطية متى نُظر إليها من خلال تصورات مغايرة للكرامة الإنسانية، سيتم إعادة صياغتها لتعتبر أفعالا تحررية، إذا تمت ممارستها باسم «حقوق الإنسان»"

سرعان ما انقلب هذا الشك إلى يقين، نتيجة الممارسات التي عمِلت على تحويل حقوق الإنسان إلى إطار مفاهيمي محايد للتغيير الاجتماعي. ثم ما لبثت الدولة أن دمجته، في وقت لاحق، ضمن نظمها القانونية، ما يعني استبعاد وإقصاء أي مطلب أساسه حقوق الإنسان، بعد أن منحت لنفسها شرعية احتكار إنتاج القانون وإدارة العدالة.

استئثار عجز عن استيعاب المعاناة الشديدة للإنسان في العالم، فما أكثر انتهاكات حقوق الإنسان التي يتم تجاهلها في أكثر من رقعة بالعالم، لدواعي قد تكون مرتبطة بالذات (كون الغرب/المهمين هو الفاعل)، أو الموضوع (كون الضحايا من شعوب العالم الثالث). بذلك تكون الكونية الحقوقية قاصرة على عرق معين (الأبيض الأوروبي)، دون أن تمتد لتشمل مطلق الإنسانية.

يتقاطع الكاتب مع أطروحة البروفسور الأوغندي محمود ممداني الذي ينتقد وبشدة الرؤية الخاطئة لحقوق الإنسان، فهو يرى بأن "القوى المعرفية صاحبة السلطة في العالم اليوم تسعى لإبعاد التاريخ واستبداله بدافع عالمي جديد، اسمه حقوق الإنسان التي تنكر وجود التاريخ"، فحقوق الإنسان تسأل من فعل ولمن؟ ولا تهتم مطلقا بسؤال لماذا؟ مستعبدة بذلك السؤال الأهم.

اللاهوت السياسي يفضح خطاب حقوق الإنسان

أدت هذه المفارقة إلى بروز خطاب لاهوتي سياسي جديد، يضم في طياته كوكبة من أطياف اللاهوت (إسلامي/ مسيحي، تعددي/ متطرف، محافظ/ تقدمي...)، مناهض للنظام الاجتماعي القائم، ومن خلاله لمبادئ حقوق الإنسان التي تعيد إنتاج الظلم والاضطهاد. اشتراك هذه اللاهوتات في المعارضة المبدئية للهيمنة الغربية، لا يعني مطلقا الوحدة في الحلول التي يتبناها كل فصيل على حدة.

وحتى مسألة الرفض، تبقى حدتها متباينة بين هذا التيار وذاك، ففي الوقت الذي ترفض فيه تيارات من هذا اللاهوت؛ بجذرية مطلقة، كل الأبعاد المؤسسة للعولمة النيوليبرالية المهيمنة (الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية...). تتولى تيارات أخرى المفاضلة بين هذه الأبعاد، فترفض ما هو ثقافي وسياسي، وتقبل ما هو اقتصادي، لتشارك بحيوية ونشاط في الرأسمالية المعولمة.

"نحن اليوم غير قادرين على التأكد إذا كانت حقوق الإنسان الحالية هي من إرث الثورات الحديثة أو من مخلفات انهيارها، وإذا ما كانت تضمر خلفها طاقة ثورية تحررية أو طاقة مناهضة للثورة"

على ذات النهج، جاءت الحلول والبدائل، فاللاهوت الأصولي (المسيحي أو الإسلامي) يدعو إلى تفكيك الدولة الحديثة أو السيطرة عليها لتنفيذ نظرية الحكم الإلهي، وإسقاط مبدأ السيادة الشعبية لصالح الإدارة المطلقة لله. ويرى أنصار هذا اللاهوت حقوق الإنسان مجرد نهب علماني للحقوق الإلهية، ما يجعل الكرامة الإنسانية رهنية تنفيذ إرادة الإله، التي لا يمكن حصرها فقط في المجال الخاص، وإنما في المجال العام أيضا.

لم تمنع خلفيته اللادينية بوافنتورا من التعاطي مع فكرة الدين، فرغم تحفظه على دور الدين في المجال العام، فإنه ينطلق من أطروحة أخرى، تعتبر أن الدين يمكنه أن يقوم بأدوار محورية في تحرير الإنسان، وصون الكرامة الإنسانية ومناهضة واقع الظلم والهيمنة، وأن الخطابات الدينية المختلفة، تلتقي حول هذه السمات المركزية التي تصلح لعملية التأسيس للخطاب الحقوقي.

صحيح أن خطاب حركات اللاهوت السياسي بشأن الكرامة الإنسانية، لا يقل تطرفا، في بعض الأحيان، عن الخطاب الحقوقي الغربي المهمين حاليا. إلا أنه نجح، ورغم كل المؤاخذات، في تعرية النواقص، وكشف تناقضات سردية تزعم أنها إنسانية، وهي أبعد ما تكون عن ذلك، وبين حدود هشاشة السياسات المحافظة لحقوق الإنسان. وشرع الباب أمام تيارات في مختلف أصقاع العالم، للمساهمة في تجديد فكرة حقوق الإنسان، وتحويلها لأداة تحرر اجتماعي على صعيد سياقات ثقافية مختلفة.