تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

السبت 8 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
رأي

نحن جميعًا فلسطينيون!

8 سبتمبر, 2025
الصورة
نحن جميعًا فلسطينيون!
Share

تتابع الأخبار يومًا بعد يوم، فتقع في أسر اليأس. بعد قليل يكتمل عامان على أحدث جولة من التوحّش الإبادي الذي أطلقته إسرائيل على الفلسطينيين العزّل في غزة والضفة. لم تعد المسألة: كيف لإنسان مستقيم أن يعرّف نفسه "إسرائيليًا"، فضلًا عن أن يكون "صهيونيًا"؟ السؤال الأشدّ إلحاحًا اليوم هو: كيف لنا، نحن البشر جميعًا، أن نُطيق العيش مع أنفسنا فيما يتواصل هذا القتل الجماعي على يد نظام بلا قلب ولا ضمير؟

الأرقام صادمة - في عشرات الآلاف، إن لم تكن أكثر. الجريمة طاغية، وتحالفُ الدول الأوروبية والأميركية الذي يعين ويؤازر - بل يشارك - في هذا الفعل الهمجي، لا يترك للأمل فسحةً تُذكر. كيف نحافظ على بوصلةٍ أخلاقية بين الحق والباطل أمام هذا السعار من جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية: قتلٌ جماعي وتجويعٌ شامل واحتلالٌ تام واغتيالاتٌ موجَّهة، وقتلُ الصحفيين والعاملين في القطاع الصحي، واستهدافٌ متعمَّدٌ للأطفال الذين يُستدرجون إلى نقاط توزيع الغذاء ثم يُقتلون؛ فضلًا عن المحو المنهجي لكلّ دلائل الحياة الاجتماعية، وتقويضِ بنية الوجود المدني نفسها؟ تلك هي إسرائيل اليوم: دولةُ إبادة. كيف للبشرية أن تتعايش مع هذه الحقيقة؟

لم تعد الاستعارات تفيد بشيء. ليس صائبًا أن نسمّي الصهاينة «نازيين». لا هم أسوأ منهم ولا أفضل؛ ليسوا نازيين، إنهم صهاينة. للشرّ وجوهٌ عديدة: النازيون، تنظيم «الدولة الإسلامية»، بول بوت، الخمير الحمر، راتكو ملاديتش، أدولف هتلر، بنيامين نتنياهو، مئير كهانا، إيتمار بن غفير، بتسلئيل سموتريتش... لكلّ وجهٍ منهم إطارُه التحليليّ؛ توصيفٌ مضبوط وتشريحٌ دقيق.

كيف لنا، نحن البشر جميعًا، أن نُطيق العيش مع أنفسنا فيما يتواصل هذا القتل الجماعي على يد نظام بلا قلب ولا ضمير؟

لكننا، فيما نحدّق في أهوال غزة التي لا تنقطع - نستهلك تقارير الموت اليومية، نُحصي القتلى، ونواصل التمرير القَهري لمقاطع قسوة عارية - نسأل أنفسنا: كيف لا نستسلم لإعياءٍ طويل من تفنيد الأكاذيب والتحريفات في أقبح صورها؟ وعلى الرغم من ذلك، لا تكفّ «نيويورك تايمز» عن بذاءاتها، وهي تُعدّد طرائق كتّابها - من بريت ستيفنز إلى توماس فريدمان - في مطاردة ذيولهم لتبرير الذبح الجماعي للفلسطينيين. ومهما تهاوت مصداقيتها، تظلّ «صحيفة السجل» والمنبرَ الرسمي لمشروع الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي قادرةً على صوغ سردية السلطة والتأثير فيها.

بالنسبة للبشر الأسوياء - ومنهم جموع من اليهود حول العالم الذين يروعهم ما يُرتكب باسمهم - يقف عالم اليوم على حافة أزمةٍ أخلاقيةٍ عميقة. دولة-ثكنة مشبعة بثقافة الإبادة تنفّذ حملة استئصال، فيما تقف قوى الغرب متفرّجة أو - وهو الأسوأ- تمدّ لها يد العون؛ تُعين على قتلٍ أكثر وتجويع مزيدٍ من الأطفال، بل وتُثني على إسرائيل، لأنها تقوم "بالعمل القذر" نيابةً عنها. وفي المقابل، يعجز طوفانُ البشر عن إرسال قاربٍ واحد صغير لإغاثة المحاصَرين في وطنهم المحتلّ والمستباح. هنا يتسرّب شعورٌ مُحبطٌ بالأنومي، اختلال المعايير، ويستقرّ الإعياء الأخلاقي.

تقرأ «نيويورك تايمز» فتستشيظ غيظًا. منذ 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، لا يكاد يمرّ يومٌ بلا حكايات عن فلسطينيين عزّل قُتلوا وبُترت أعضائهم، لتأتي مقالات وتقارير مختلّة في الصحيفة تلوي أعناق الحقائق أو تنكر ما رآه العالم في تسجيلات عالية الدقّة، كي تُصاغ حكايةٌ قابلة للهضم لدى قرّائها الإمبرياليين والصهاينة. خذ مثلًا عزرا كلاين، كاتب الأعمدة ومقدّم البودكاست الذي خصّص نحو ساعتين ليتساءل: هل ما يجري في غزة «إبادة جماعية»؟ ظلّ غافلًا عن فجاجة المشهد لو انقلبت الأدوار وكان الفلسطينيون يذبحون اليهود بعشرات الآلاف. حتى قاعدةٌ سرّية للجيش الإسرائيلي تُظهر أنّ نحو 83 ٪ من قتلى غزة مدنيين، وهي نسبة "لا نظير لها تقريبًا في حروب العصر الحديث". أكان من شأنِ كلاين وضيفِه أن في الجدال اللفظي للتفريق بين «الخطاب الإبادي» و«النية الإبادية»؟

أمام هذا المسخ، تفقد الهويّات الدينية معناها؛ نحن جميعًا فلسطينيين، في مواجهة طمسِ معيار الحقّ والباطل

ثم أنظر إلى زميله بريت ستيفنز، وقد عنون عموده في 22 يوليو/تموز: «لا، إسرائيل لا ترتكب إبادة جماعية في غزة». يقوم منطقه على أنّ توصيف الإبادة يقتضي عددًا أكبر بكثير من القتلى؛ كأنّ تدمير الحياة والثقافة والمجتمع الفلسطيني لا يُعدّ إبادةً، إلا إذا بلغت الجثث عتبةً أعلى يقرّرها الكاتب على هواه. أمّا تقارير الهيئات الطبية والحقوقية الكبرى التي قرّرت مبكرًا أنّ الحصيلة الفعلية تفوق الأرقام الرسمية بأضعاف، فذلك عنده تفصيلٌ يُلقى خلف الظهر. ويسأل ستيفنز صراحة: "لو كانت نوايا الحكومة الإسرائيلية وأفعالها حقًّا إباديّة، فلماذا لم تكن أكثر منهجيةً وأشدّ فتكًا؟ لماذا لا تكون الحصيلة بمئات الآلاف بدلًا من نحو ستين ألفًا خلال قرابة عامين؟". أقرأ ذلك مرّةً أخرى: كم يلزم إذًا؟ عشرةُ آلافٍ أخرى؟ مئةُ ألف؟ مليون؟ كم جثّة ينبغي أن تتكدّس؟ كم فلسطينيًّا يجب أن يُسحق أو يموت جوعًا قبل أن يتكرّم هذا المروّج بتسمية ما يفعله القتلةُ باسمِه؟

لا أحد ينتظر من ستيفنز أو كلاين، أو من المؤسسة التي تحتضنهما، اعترافًا يتجاوز ما تُقرّ به مرافعتهما ضمناً. إنكارهم وثيقةُ تواطؤٍ ستبقى. أن تُكتب هذه الهمجية وتُنشر بلا خجل، فيما يرزح الفلسطينيون تحت ما سمّتْه الأمم المتحدة "كارثة إنسانية ذات أبعاد هائلة" و"أسوأ سيناريو" لمجاعةٍ مفروضة على غزة، يكشف قاع الإفلاس الأخلاقي لتلك المؤسسة. وإن أنت تلفّظت بذلك علنًا، جاءت تهمة "معاداة السامية" جاهزةً على الرفّ.

حالة الإنكار لا تقتصر على «نيويورك تايمز» و«وول ستريت جورنال» و«فوكس نيوز» وسائر المنابر المسخِّرة دعايتها لـ«الهسبراه» الإسرائيلية؛ إنّها متفشّية. ها هو سام هاريس، الإسلاموفوبي المتصهين، يعود ليؤيّد قصف إيران، ويحثّ حلفاءه الإسرائيليين على المُضيّ أبعد في مشروعهم الإبادي. يشيطن المسلمين، ويمحو حقيقة أنّ فلسطين مهدُ المسيحية، ويُلقي اللوم بما يجري على الفلسطينيين، لأنهم مسلمون يسعون إلى تحرير بلادهم من محتلّيهم المتوحّشين.

صنع الرجلُ مسيرةً مربحة على كراهيةٍ مَرَضيّة وجهلٍ مَرَضيّ، ولمّا ظنّ كثيرون أنّه انزوى في هوامش «سابستاك»، عاد يجترّ مزاعم بالية: العالم «يتحيّز» ضد إسرائيل، ويتجاهل المآسي الأخرى. ومن قال إنّ أحدًا يغضّ الطرف عن السودان أو سواه؟ هؤلاء مأسورون بأُحاديّة لغوية ونَفَسٍ ضيّق؛ يمرّرون هواتفهم، يرون سلاسل الاحتجاجات حول العالم ضد إبادة غزة، ثم يَسخرون: لماذا لا يُشيح هؤلاء بوجوههم كي تواصل إسرائيل ذبح الفلسطينيين - للسرور نفسه الذي يبعثه المشهد لدى كل من هاريس وستيفنز؟

العالم مُنهَك. العجز يفتك بالناس العاديين أمام دولةٍ تقتل وتبتر وتجوّع الفلسطينيين بإفلاتٍ تامٍّ من العقاب. أحيانًا لا يبقى للمرء سوى بكاءٍ خفيض أو صراخٍ عالٍ وإقرارٍ بأن لا حيلة. وأمام هذا المسخ، تفقد الهويّات الدينية معناها؛ نحن جميعًا فلسطينيين، في مواجهة طمسِ معيار الحقّ والباطل.

لم تعد الاستعارات تفيد بشيء. ليس صائبًا أن نسمّي الصهاينة «نازيين». لا هم أسوأ منهم ولا أفضل؛ ليسوا نازيين، إنهم صهاينة. للشرّ وجوهٌ عديدة

على امتداد قرابة عامين، شهدنا إبادةً متواصلة يقودها زعيمٌ سيكوباتي في دولةٍ-ثكنة متحصّنة. أنهكنا التعب، وخدرت حواسّنا إلى حدٍّ مقلق. نضبت استعاراتنا أمام الشرّ الذي تمثّله إسرائيل، فيما أزال أنصارُها كلمة «العار» من معجمهم. ليس هذا أوان المواعظ والدروس الأخلاقية. اليأسُ الأخلاقي تكاثفَ سخطًا أخلاقيًا، والسخطُ صار قوةً عصيّة توقظك كل صباح وأنت أكثر تصميمًا ومُكابرة.

العالم على شفير ناموسٍ أخلاقي جديد يتجاوز الميتافيزيقا والمسلّمات الموروثة في الإسلام والمسيحية واليهودية وغيرها. عند البعض تبقى العقيدةُ مصدر قوّة - كما هي للفلسطينيين في غزة ولسواهم في لبنان واليمن ممّن يقاومون باسمها. وعند آخرين جعل اليأسُ التوفيقَ بين الإيمان والفظائع المُرتكَبة باسمه أمرًا عصيبًا: من وسم الأسرى الفلسطينيين بـ«نجمة داود» ونقشها بالجرافات على خرائب غزة، إلى تحالف حكّامٍ مسلمين مع واشنطن وتل أبيب بينما يُدفَع الفلسطينيون إلى الجوع. وبوصفي مسلمًا، يملؤني قرفٌ من جبن الأنظمة المسلمة؛ صمتُها وتواطؤُها يجعلانها طرفًا أصيلًا في الإبادة.

على الرغم من هذه الخيانات - للإيمان والضمير والإنسانية - تتخلّق ضرورةُ ناموسٍ أخلاقيٍّ جديد، جذره كفاحُ الفلسطينيين وتضحياتُهم، وقضيةُ تحرّرهم النبيلة. إنّ تعريةَ إنكار الإبادة ومواجهةَ المدافعين عنها ما يمنحني القوة، ويوقظني فجرًا لأواصل الكفاح. إزاء هذا الفظيع، لا تبقى للهويّات الدينية دلالة؛ نغدو جميعًا فلسطينيين، بإزاء تهشيم معنى الحقّ والباطل. والنضالُ من أجل القضية الفلسطينية هو الطريقُ الوحيدُ القويمُ لإنقاذ إنسانيّتنا الهشّة، بهدي ضميرٍ أخلاقيٍّ نقيّ.

 

مُترجم من هذا المصدر